ذات يوم من عام 2015 فاجأتني إحدى صديقاتي على موقع "فيسبوك" بأن عرضت نشر ما أكتب من موضوعات على صفحتي في جريدة إلكترونية، وكان ردي وهل ترقى موضوعاتي للنشر؟ فردت بحماس: "طبعاً، وإلا ما كنت رشحتك لرئيس التحرير".
فقلت لها أمهليني أفكر في الأمر، فبدلاً من أن أشعر بالسعادة انتابني قلق وتوتر ملآ شعاب نفسي من حيث لم أدرِ، وزاد من قلقي إلى حد الشرود في العمل اتصال رئيس التحرير طالباً صورة شخصية لي لتُنشر مع مقال "كتبي والآيباد" بعدما حظي باستحسانه.
لاحظت شرودي زميلة أستاذة لا في أدب الطفل فقط، بل خبيرة بطباع الإنسان، فسألتني ماذا ألمّ بي فأخبرتها بحالي وأنني أعيش في قلق منذ بضعة أيام ولا أدري السبب، وقد وصل الأمر إلى اتصال صديقتي حاملة رسالة من رئيس التحرير مفادها: "قولي لصاحبتك متخفش وتبعت صورتها".
ابتسمت زميلتي ابتسامة الخبير وهنأتني على الرغم مما أعانيه، ثم قالت: "عارفة يا أسماء أنت قلقانة ليه؟ أنت خايفة من الكلمة ومسؤوليتها". فانقلب بقولها حالي للأفضل وفرحت فرحاً بوضعها يديها على السبب وراء قلقي في لحظة، وأنا أبحث عنه منذ أيام وليالٍ، وكان تفسيرها لي بمثابة العلاج لمريضٍ يتلوى من الألم.
نعم، إنني أتهيب الكلمة وأعمل لها ألف حساب، وعلى الرغم من أنني أعشقها عشقاً إلى درجة التغزل فيها أحياناً فإنني أخاف تبعتها خوفاً وأخاف مسؤوليتها. لكن من أين أتاني هذا الخوف ومن الذي زرع فيّ الشعور بالمسؤولية نحوها؟ رحت أستقصي الأمر وانتهيت إلى أن الخوف من الكلمة انتابني منذ الطفولة عندما كان أبي، رحمه الله، يجمعنا ونحن صغار أنا وإخوتي ليحكي لنا عن معجزة الإسراء والمعراج.
فكان، رحمه الله، يحكي بطريقة تستحوذ على الانتباه وتزرع اليقين في قلب الطفل المتلهف فطرياً للسماع عن الله ورسوله، فقد أخبرنا أن الرسول، عليه الصلاة والسلام، رأى الكثير من آيات ربه ليلة الإسراء والمعراج وهو بصحبة جبريل، عليه السلام، وقد سأل عليه الصلاة والسلام جبريل عن قومٍ رآهم يزرعون ويحصدون وكلما حصدوا عاد الحصاد كما كان، فأجابه جبريل: هم المجاهدون.
ورأى عليه الصلاة والسلام قوماً تُرضخ رؤوسهم بالصخر، وكلما رُضخت عادت كما كانت. فقال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة.
ومر بقوم على عوراتهم رقاع يسرحون كالأغنام. قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة.
ومر بقوم يأكلون لحما نيئاً خبيثاً، ويدعون لحماً نضيجاً طيباً قال: هؤلاء الزناة.
ومر برجل جمع حزمة حطب لا يستطيع حملها، ثم هو يضم إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها، وهو يطلب أخرى.
ومر بقوم تُقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قُرضت عادت كما كانت. قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ومر بثور عظيم، يخرج من ثقبٍ صغير، ثم يريد أن يرجع فلا يستطيع، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم، فيريد أن يردها فلا يستطيع.
دائماً ما كنت أتخيل مشهد الثور هذا وأنا صغيرة متأثرة بطريقة والدي – رحمه الله – في السرد، فأخاف أن أنطق بكلمة لا أستطيع محو أثرها فصرت أراقب كلامي، بل أسترجعه بعد انفضاض مجلسي مع أي أحد، ويا ويلي من شعوري بالندم إذا أخطأت، فما بالكم إذا كتبت الكلمة وانتشرت ثم ندمت عليها، فهل يسعني إدخال الثور في الثقب؟ هيهات والله هيهات، فالله أسأل العافية.
وهل من تعبير عن جسامة أثر الكلمة أبلغ من الحديث الشريف: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالاً يَهوي بها في جهنم".
وما قاله عبد الرحمن الشرقاوي، رحمه الله، عن الكلمة عندما تساءل في مسرحيته الرائعة "الحسين ثائراً" من أبلغ ما وصف عظمة الكلمة:
"أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حُرمة، زاد مزخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قِلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فُرقان ما بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور، ودليل تتبعه الأمة، عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم، الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة".
وللعلم لا يزال الخوف ينتابني قبل إرسال أي مقال للنشر حتى الآن، وذلك بفضل طريقة أبي المؤثرة التي رسّخت في الخوف من الكلمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.