كان غريباً عليَّ حينما عرفتُ أن إسقاط الخلافة العثمانية لم يقع بواسطة أتاتورك وحده، وإنما مهّد لهذا الحدث المُزلزل ضابط عراقي كبير سبقه، يُدعى محمود شوكت باشا.
هذا الضابط العراقي كان قائداً لأتاتورك يوماً ما، حينما توجّه على رأس قوة عسكرية احتلّت إسطنبول وحاصرت قصر الخليفة وأجبرته على الرحيل عن الحُكم والخروج من تركيا، وهي الخطوة التي كانت حجر أساس إسقاط الخلافة لاحقاً.
فما قصة هذا الضابط العراقي، الذي قاد انقلاباً غيّر مصير العالم الإسلامي بأسره؟
عائلة النجباء العراقيين
هو محمود شوكت باشا (1856-1913)، ابن المؤرخ العراقي سليمان فائق (1814-1869)، جركسي الأصل، ومتصرف البصرة. تزوّج سليمان مرتين، في المرة الأولى أنجب محمود، ومن زوجته الثانية حظي بحكمت سليمان، السياسي العراقي الذي تولّى رئاسة وزراء العراق عام 1939م خلال الحقبة الملكية الهاشمية.
حسبما أورد مير بصري في كتابه "أعلام السياسة في العراق الحديث"، كان لهما شقيق ثالث هو خالد سليمان، الذي عمل متصرفاً للبصرة ومؤرخاً، وانتُخب نائباً في مجلس المبعوثين (أول مجلس نيابي عرفته الدولة العثمانية). عُين خالد وزيراً للمعارف، ثم وزيراً للري، فوزيراً للبريد، وممثِّلاً للعراق في طهران حتى توفي عام 1945.
أما محمود فلقد تلقّى دراساته الأولى في بغداد، ثم انتقل إلى إسطنبول، حيث تخرج في المدرسة الحربية، بعدها التحق بصفوف الجيش العثماني وترقى بين صفوفه حتى عُين قائداً للجيش الثالث، ومقر قيادته في سالونيك (تقع الآن ضمن حدود اليونان).
في عهد الخليفة عبد الحميد، تعمّقت أواصر الصلة بين العثمانيين والألمان، وهو ما تجلّى في زيادة حجم التعاون العسكري بين جيشَي البلدين، حتى تحالفا معاً في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا. انعكس هذا التعاون في مسيرة محمود باشا، فخدم في ألمانيا لفترة طويلة جعلته يُغرّم بالتكتيكات العسكرية الألمانية، واشتهر عنه أيضاً حبّه للأدب الفرنسي، حتى إنه ترجم رواية مانو ليسكو (Manon Lescaut) للكاتب الفرنسي أنطوان فرانسوا، ونشرها في القسطنطينية عام 1879م.
محمود شوكت باشا ونشاطه السري ضد الخليفة
في كتابه "ذكريات العهود الثلاثة"، يذكر محمد حسين زيدان، أن نشأة شوكت في العراق أسهمت في غرس الميول التحررية في نفسه، إذ سمع أنباء المحاولة الجريئة لداوود باشا، آخر حاكم مملوكي للعراق، الذي أثبت نجاعة كبيرة في بناء جيشٍ كبير هزم الجار الفارسي عدة مرات، فخطّط للاستقلال عن السلطان العثماني محمود الثاني، فأرسل له جيشاً هزمه وأزاحه عن الحُكم قبل أن ينفيه إلى بلاد الحجاز.
وحتى بعدما أصبح محمود شوكت واحداً من أكبر قيادات الجيش العثماني، ظلَّ ناقماً على سياسات السلطان عبد الحميد، فتعاطف مع أفكار أعضاء "تركيا الفتاة"، "الاتحاد والترقي"، الذين عُرفوا بلقبٍ غير رسمي وهو الاتحاديون، تبنّوا أجندة إصلاحية ضخمة البنود، لم يتورعوا أن يضيفوا إليها إزاحة الخليفة من المشهد تماماً لو ظلَّ رافضاً لما ينشدونه من تغيير لسياساته، التي اعتقدوا أنها عفى عليها الزمان.
مارس الاتحاديون ضغوطاً كبيرة على الخليفة، للقيام بإصلاحات سياسية في الدولة، حتى نجحوا في إجباره على إعلان الدستور العثماني.
وقتها كانت الدولة العثمانية تترنّح على إثر الوبائل التي جلبتها عليها الحرب العالمية الأولى، فخلال احتدام المعارك مع إيطاليا، انتهزت دول مثل اليونان والجبل الأسود وصربيا وبلغاريا الفرصة، وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية. سريعاً بات العثمانيون مُحاطين بالأعداء من كل حدبٍ وصوب، فتلقّوا هزائم متتالية على كافة الأصعدة.
خلال هذه الفترة كان الصدر الأعظم هو محمد كامل باشا، الذي سعى لتجنيب دولته ويلات الحرب مهما كان الثمن، فوافق على التنازل عن ليبيا لإيطاليا، وكذلك إسقاط السيادة العثمانية على أغلب أراضيها في أوروبا.
لم ترُق تلك الرغبات لرجال حزب الاتحاد والترقي، فقرّروا منعها بالقوة. يقول يوجين روغان في كتابه "سقوط العثمانيين"، إن رجال الجمعية اقتحموا اجتماعاً حكومياً، وأطلقوا النار على الحضور، قُتل 4 أفراد، منهم وزير الحربية ناظم باشا. وضع إسماعيل أنور، القائد العسكري وأحد الكوادر الرئيسية في جمعية "الاتحاد والترقي" فوهة مسدسه على رأس كامل باشا، وأرغمه على الاستقالة. بعدها ذهب أنور إلى القصر وأبلغ السلطان بما فعل، وطالبه بتعيين صدر أعظمٍ جديد يعيد الاستقرار إلى الدولة.
في 1909، قامت مظاهرات- قيل إنها مدعومة من الخليفة- نادت بإيقاف العمل بالدستور، بدعوى أنه مُخالف للشريعة. يقول المؤرخ اللبناني عزتلو يوسف آصاف، في كتابه "تاريخ سلاطين بني عثمان"، إنه فور إشاعة أنباء رغبة السلطان في تجميد الدستور عاشت تركيا حالةً من الهياج، بموجبها زحف جنود الاتحاد من سالونيك ومقدونيا، تحت قيادة شوكت باشا، فحاصروها وأعلنوا الأحكام العرفية وتسلّموا قيادة المدينة.
المترجم اللبناني أسعد داغر كان شاهداً على الأحداث، وحكى جانباً منها في مذكراته "على هامش القضية العربية"، قائلاً: ليلة 31 مارس 1909 قامت فتنة دبّرها السلطان عبد الحميد لإلغاء الدستور وإعادة الحُكم المطلق. فوزّع مبالغ طائلة على بعض الجنود لإثارتهم على الضباط، فهاجموا المدينة وقاموا بأعمال السلب والنهب، ثم اقتحموا البرلمان واعتدوا على من وجوده من النواب، وقتلوا أحدهم وهم الأمير محمد رسلان، سادت الفوضى في العاصمة.
ويضيف: عرفتُ أن الاتحاديين قرروا استرداد إسطنبول وإعادة الدستور بالقوة، وأن جيشاً كبيراً بقيادة محمود شوكت البغدادي زحف من سلانيك إلى العاصمة. عسكر محمود باشا في سان استِفانو (يسيلكوي حالياً، تقع بالقرب من إسطنبول)، واستدعى النواب وأمر بعقد البرلمان في أحد المقاهي.
كان داغر في إسطنبول، حيث شاهد استيلاء جيش البغدادي على المدينة، متضمنة ثكنات القوات العسكرية المؤيدة للخليفة، حتى حُوصر قصر يلدز (مقر إقامة السلطان والحكومة)، وقُطعت عنه الكهرباء والماء.
أرّخ الشاعر المغربي شوقي عبد الحميد لتلك الواقعة شِعراً، بقصيدة قال فيها: (سَل يلدزا ذات القصور/ هل جاءها نبأ البدور.. لو تستطيع إجابة/ لبكتك بالدمع الغزير).
خلال هذه الأحداث، رأى داغر ثلاثة من قادة الجيش الاتحادي يدعمون تحرّك شوكت باشا، هم: أحمد نيازي، وإسماعيل أنور، وعزيز علي المصري (الأب الروحي لضباط ثورة يوليو في مصر).
ويضيف عبد العزيز الشناوي في كتابه "الدولة العثمانية.. دولة إسلامية مفترى عليها"، أن هذا الجيش ضمَّ أيضاً مصطفى كمال أتاتورك وعصمت إينونو (ثاني رئيس للجمهورية التركية).
وبحسب كتاب "العثمانيون في التاريخ والحضارة" للدكتور محمد حرب، فإن أتاتورك كان ضابط "أركان حرب" جيش شوكت البغدادي، وإنه كان بمثابة تلميذه المفضّل.
أما السلطان عبد الحميد فلقد صدرت الفتوى بخلعه في 27 أبريل 1909، وعُين بدلاً منه أخوه رشاد أفندي سلطاناً، حمل اسم السلطان محمد الخامس. لاحقاً نُقل الخليفة السابق إلى سالونيك، حيث سُجن داخل أحد القصور بصحبة 4 من نسائه، ثم صُودرت جميع أملاكه وأمواله ومجوهراته.
عقب هذه الأحداث نُصِّب محمود شوكت وزيراً للحربية، ثم صدراً أعظم (رئيساً للوزراء) للإمبراطورية العثمانية.
في مذكراته، أفسح السياسي المصري محمد فريد، خليفة مصطفى كمال في قيادة الحزب الوطني بمصر، مكاناً للحديث عن شخصية محمود شوكت، فيحكي أنه سافر إلى الأستانة فور وقوع هذه الأحداث، وأسهب في الحديث عن محاسن شخصية شوكت، ووصفه بالبطل.
العراقي يحكم الإمبراطورية
يقول روغان: لقي محمود شوكت تشجيعاً على تشكيل ائتلاف حكومي غير حزبي لتوفير الاستقرار والوحدة بعد الكوارث التي أصابت السلطنة. وفي تشكيلته الوزارية الأولى لم يُعيّن إلا 3 اتحاديين، واختار جمال باشا في منصب الحاكم العسكري لإسطنبول.
تحديات الحرب المتسارعة كانت أقوى من الحكومة الجديدة، إذ نجح اليونانيون في الاستيلاء على بلدة "يانين المقدونية" (أيوانينا، تقع في اليونان حالياً)، فيما استولت قوات الجبل الأسود على إشكودرا (شكودير، في ألبانيا حالياً)، كما حلّت الكارثة الكبرى حينما استولى البلغاريون على أدرنة (تقع حالياً ضمن حدود تركيا بالقرب من حدود بلغاريا)، وأعلنوا نيتهم مواصلة مسيرتهم الحربية حتى يصلوا إسطنبول.
خلال هذه الفترة كان محمود شوكت وزيراً للدفاع، وعاش أوضاع العثمانيين الكارثية عن قُرب، فقال في كلمة له داخل وزارة الحرب أمام ضباط الجيش إن "الدولة والجيش ليسا جاهزين لدخول الحرب، فالجيش ضعيف والأسلحة قديمة والمعدات غير تامة وغير متوفرة، والأسطول الحربي كأنه غير موجود"، حسبما ذكر عبد المنعم المحجوب في كتابه "قراءات في السلم والحرب".
عرض محمود شوكت على المتحاربين هدنة فورية، وانخرط معهم في مفاوضات سلام قاسية بوساطة بريطانية، انتهت بتوقيع معاهدة لندن، التي تنازل فيها عن 60 ألف ميل مربع من الأراضي يقطنها 4 ملايين نسمة، مثّلت أغلب الممتلكات الأوروبية للعثمانيين باستثناء جزء صغير من تراقيا الشرقية، وانتهى حكم دام خمسة قرون لدول البلقان واليونان.
وفيما يخصًّ ليبيا، لم يعد بإمكان الدولة العثمانية تقديم الكثير بشكلٍ رسمي، لذا وافق شوكت باشا على السماح لعددٍ من الضباط العثمانيين بالتسلل إلى ليبيا وقيادة المقاومة من هناك، بشرط أن يكون عملهم سرياً، وأنه لن يكون مسؤولاً عن وقوع أي أذى بهم حال إلقاء القبض عليهم، حسبما ذكر المؤرِّخ الحواس غربي في رسالة الدكتوراه الخاصة به، بعنوان "الاحتلال الإيطالي بليبيا".
على جانب آخر، وبرغم أن عربياً ترأّس الحكومة، فإنه كان متعصباً لتيار تتريك الدولة. يقول وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، في كتابه "الثورة العربية الكبرى"، إن هذه الحكومة سعت لتفتيت الجمعيات الإصلاحية في الولايات العربية، وهدفت لبث عوامل الفرقة والانقسام بين صفوفها.
ويضيف المؤرخ البريطاني فيليب مانسيل، في كتابه "القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم": في محاولة لتقوية الروابط بين الإمبراطورية العثمانية والعرب، لإسكات نزعتهم الانفصالية، رعى شوكت ترتيب أول زيجة بين هاشمي وعثمانية، إذ تزوجت رقية سلطان، حفيدة مراد الرابع، من الشريف عبد المجيد، الابن الأكبر للشريف علي حيدر.
وفاة مفاجئة
عام 1913م، وبعد أيامٍ قليلة من توقيع معاهدة لندن، اغتيل محمود شوكت باشا بخمس رصاصات أمام مبنى الباب العالي.
تباينت المرويات في الحديث عن هوية الفاعل ودوافعه، التي حرمت الضابط العراقي النابغ من البقاء طويلاً على رأس الدولة العثمانية.
ألقى الاتحاديون باللائمة على خصومهم. يقول روغان، إن الاتحاديين سعوا لتحويل عملية الاغتيال إلى فائدة سياسية، فأطلقوا حملة تطهير ضد خصومهم السياسيين، انتهت بإعدام ونفي الكثيرين منهم.
يذكر السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه "رحلة في العراق"، أن جمال باشا أمر بالقبض على السياسي العثماني محمود نديم بك آق ديلك، المعارض للاتحاديين، الذي لجأ إلى العراق، متهماً إياه بالاشتراك في قتل الباشا، لكنه تمكن من الهرب.
فيما يضيف أحمد كوندز في كتابه "الدولة العثمانية المجهولة": أعدموا 29 رجلاً منهم صالح باشا الداماد، زوج منيرة سلطان، ابنة شقيق السلطان.
أيضاً، اتُّهم محمد شريف باشا، وزيرةالدولة العثمانية المفوّض في ستوكهولم، برغم من أنه متزوج من أمينة، أخت محمد سعيد حليم، وزير الخارجية في وزارة شوكت، والذي تولّى الصدارة العظمى من بعده. بسبب هذا الاتهام حُكم على محمد شريف بالإعدام، فهرب من تركيا، وعاش خارجها حتى مات عام 1944م في إيطاليا.
جرجيس فتح الله في كتابه "نظرات في القومية العربية" قدّم متهماً جديداً، وهم الاتحاديون أنفسهم، فيقول إن تصرفات محمود شوكت لم ترُق للجناح المتطرف من الاتحاديين، فدبّروا مؤامرة لاغتياله، فاعترضوا سبيل مركبته بنعشٍ خالٍ، ثم أطلقوا عليه النار ومات داخلها.
بينما اتّهم محمد فريد، خديوي مصر بالاشتراك في مؤامرة قتل محمود شوكت، أملاً في أن يشغل منصبه كامل باشا صديقه وصديق الإنجليز، الذي كان يتولّى الصدارة العظمى قبل أن يُرغمه الاتحاديون على الاستقالة، ويسندوها إلى شوكت باشا.
في كتابه "سيرة وذكريات" جمع ناجي شوكت، رئيس وزراء العراق الأسبق بين جميع هذه الادعاءات، في معرض حديثه عن شوكت باشا قريبه (عم والدته)، فأكد أن إصرار شوكت على عدم الخضوع لسلطة الاتحاديين بشكلٍ مُطلق أثار غضبهم عليه، فتهاونوا في حمايته، وهو ما استغله خصومه في قتله لحظة خروجه من وزارة الحربية.
وصف لنا شوكت جنازة الفقيد، بعدما حُكي أن جثمانه شُيِّع في احتفالٍ مهيب، حضره قادة الجيش والسفراء والأعيان، وشقيقا القتيل خالد وحكمت، رجلا العراق البارزان.
تبعات الانقلاب على تركيا والعراق
بعد شوكت باشا، وقع الاختيار على عربي آخر لقيادة الدولة العثمانية، هو السلطان سعيد حليم باشا، السياسي المصري الذي ينحدر من العائلة المالكة المصرية. في عهده أصبح طلعت باشا وزيراً للداخلية، وأنور باشا وزيراً للحربية، وظلَّ جمال حاكماً لإسطنبول. وكان الثلاثي الاتحادي هم القوة المسيطرة على مقدرات الإمبراطورية أكثر من السلطان ومن صدره الأعظم.
يقول القيادي العثماني فؤاد باشا في مذكراته، إنه باغتيال محمود شوكت أصبحت المملكة العثمانية في قبضة الثلاثي الاتحادي، أما مقام السلطنة والقوى التشريعية والحكومة الرسمية والرأي العام فلم تكن إلا أشباحاً ماثلة وخيالات مصورة.
فرضت عملية الاغتيال على القادة العثمانيين اتباع إجراءات أمن أكثر تشدداً للحفاظ على حياتهم، نقل لنا عبد الله بن الحسين، الملك المؤسس للأردن، جانباً منها، حينما حكى عن زيارته لإسطنبول عقب إعلان الوزارة. تلقّى ابن الحسين دعوة لزيارة أنور باشا وزير الحربية، فتعرّض لإجراءات أمنية مشددة، لما اشتكى منها إلى أنور باشا أجابه "الذي حدث للصدر الأعظم محمود شوكت باشا أوجب على المسؤولين عن الأمن العام أن يتخذوا هذه الإجراءات".
في ظِل العهد الجديد، بدأت الأوضاع العسكرية العثمانية في التحسن نسبياً؛ فوفقاً لكتاب "الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة"، الذي وضعه 9 مؤرخين أتراك، فبينما كانت إسطنبول تعيش اضطرابات كبيرة تصارع تحالف دول البلقان على اقتسام الإرث العثماني، حتى إن حرباً اندلعت بينهم، كانت فرصة طيبة لاستعادة أدرنة، فتحركت إليها القوات العثمانية واستولت عليها دون مقاومة تُذكر.
منحت استعادة أدرنة جمعية الاتحاد والترقي تأييداً غير مسبوق من الجماهير العثمانية، بعد سلسلة من الهزائم المذلة، وغضّ الشعب العثماني الطرف عن الفشل الكبير لحملة عسكرية حاولت السيطرة على مصر.
اختلاف المواقف من شوكت باشا
فور مقتل الصدر الأعظم البغدادي، رثاه محمد حسن أبو المحاسن، الشاعر ووزير المعارف العراقية الأسبق، قائلاً: (بكى الشرق يا خير الصدور الأعاظم/ عليك بمنهل الدموع السواجم/ نعيت إليه فاستمالت ربوعه/ مصاباً ومادت أرضه بالمآتم).
في المقابل فإن عبد الله بن الحسين، الملك المؤسِّس للمملكة الأردنية الهاشمية، وصف انقلابه بالحركات المفاجئة، التي اغتصبت المُلك وتحكمت في السلطان، وأنها أفاعيل صبية من الاتحاديين.
الصحفي العراقي محمد كامل القبطجلي، الذي أصدر جريدة عربية حملت اسم "بين النهرين"، اشتهر بمعارضته للاتحاديين، حتى إنه لما عرف بنبأ اغتيال شوكت باشا أقام الأفراح في داره 3 أيام ابتهاجاً بالحدث.
يقول محمد حسين الزبيدي في كتابه "العراقيون المنفيون إلى جزيرة هنجام": "ونحن أطفال، سمعنا بوجود حفلة في أحد البيوت فذهبت إليه، لنستمع إلى نغمات الموسيقى البلدية، فوجدت مجلساً كبيراً يضمُّ أناساً مسرورين يحتسون الشربات ويستمعون إلى نغمات الموسيقى، وسمعت من الواقفين أن السيد محمد الطبقجلي أقام هذا الحفل عندما سمع بمقتل محمود شوكت باشا الاتحادي، واستمرت نغمات الموسيقى تضرب أوتارها في داره ثلاثة أيام، وهو ما أثار استغرابي عن إقامة هذا الحفل رغم أن القتيل بغدادي، وهو ما برّره لي الطبقجلي بأن شوكت باشا كان زعيماً لتيار الاتحاد، الذين انتهجوا سياسة معادية للعرب، روى لي أنه فور أن سمع حادثة اغتياله حتى "عمّ السرور قلبه".
لم يكن هذا التأثير الوحيد للانقلاب على بغداد، إذ يقول عبد الله الفياض، في كتابه "الثورة العراقية الكبرى سنة 1920″، إن تأثير الانقلاب العثماني على حركة التحرر العراقية كان كبيراً، فبجانب أن قائد الثورة العثمانية كان عراقياً، فإن إعادة العمل بالدستور أسهمت في نشأة صحافة عراقية قوية رفعت درجة الوعي السياسي في البلاد، ويسّرت اتصال العراق بالعالم الخارجي والتعرف على أحواله ودرجة تطوره الاجتماعية والسياسية.
ويضيف، كذلك أفسحت حركة الانقلاب في نشأة كثيرٍ من الجمعيات والأحزاب السياسية العربية، التي لعبت دوراً في كبيراً في تأجيج النزعة التحررية في نفوس العرب.
استمرّت تبعات ذلك الزلزال في العراق حتى عام 1936، حين احتدم الصراع بين الملك غازي وبين رئيس وزرائه ياسين الهاشمي، قرّر غازي استبداله بعدوه اللدود حكمت سليمان، شقيق محمود شوكت باشا.
تقول رهبة اسودي في كتابها "المثقف والسلطة في العراق": كان حكمت سليمان هو القُطب المواجه لياسمين الهاشمي، وإن كان أقل قُدرة منه على الوصول إلى السلطة، لذا جاءته فكرة إقحام الجيش في السياسة من خلال نجاح أخيه في إرغام السلطان على التخلي عن العرش.
ويضيف سليم الحسني في كتابه "رؤساء العراق": فكرة الانقلاب العسكري ليست طارئة على تفكيره، فوسطه الأسري تبنّوا حسم الأمور السياسية بهذه الطريقة، مثلما فعل أخوه محمود شوكت.
عقد الملك الملك غازي اتفاقاً مع بكر صدقي، رئيس أركان الجيش، ليقوم بأول انقلاب عسكري عرفته المنطقة العربية، ليُطيح بالهاشمي من منصبه ويعيّن حكمت سليمان، صديق بكر، رئيساً للوزراء.
كذلك، كان أحد أركان انقلاب شوكت باشا هو الضابط عزيز المصري، الذي اطّلع على التجربة عن قُرب، وفيما بعد أُعجب الضباط الأحرار في مصر بسيرته، حتى إنهم نصَّبوه أباً روحياً لهم، وبناءً على نصيحته اكتفوا بنفي الملك فاروق بدلاً من قتله، تماماً مثلما فعل شوكت البغدادي سابقاً مع السلطان عبد الحميد.
لذا فإنني لن أبالغ كثيراً لو قُلت إن محمود شوكت باشا هو أبو الانقلابات في العالم الإسلامي، وإن تمرده لو لم يقع لكنّا نعيش في عالم مختلف تماماً عمّا نراه اليوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.