رأينا بعض الدعاة وأصحاب مواقع التواصل الاجتماعي يقْصرُون حديثَهم عند وقوع الابتلاءات والكوارث على أنّ ما وقع إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، ولا يتكلمون في غير هذا!
وإنّ مثل هذا الخطاب في أثناء الجائحة، وتعالِي أصوات الأوجاع، وتعاظُم الجراح والآهات ليس من الحكمة الدعوية في شيء؛ حيث إن المنكوب يحتاج إلى من يواسيه، والمكروب يحتاج إلى مَن يؤنسه، والمكلوم يحتاج إلى من يُطبِّبه، ويداوي جُرحَه، ولكل مقامٍ مقال.
ثم إن للبلاء أسباباً وحِكَماً عديدة، وليست منحصرة فيما هو راجع إلى جنايات العباد؛ فمنها رفع الدرجات، ومنها التمحيص، ومنها تذكير الناس بخالقهم ليعودوا إليه.
قال أحدهم: إن زلازل تركيا وسوريا كانت بسبب المعاصي، وقال آخر: إن سببه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تلك المناطق!
ونقول لهذا وغيره: هذا كلام غير واقعيّ، وأيضاً: هل من ابتُلُوا عصاة فُجّار، بينما الذين عافاهم الله من الابتلاء ملائكة أبرار؟!
أليس في هذا تجاوزٌ في حق الناس، واستهتار بفاجعتهم، كما أنّه ينطوي على تزكيةٍ لنفس هذا الذي يوزِّع الاتهامات على خلق الله!
إن مناطق الزلازل فيها الصالح وغيره، وكذلك المناطق الأخرى فيها الطائع والعاصي، ثم إننا لم نَرَ في مناطق الزلازل تحدِّياً واتفاقاًـ لا سمح اللهـ على المجاهرة بالفواحش، وعصيان أمر الله، ولا تُواطُؤاً على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل شأنُها شأنُ بقية بلاد المسلمين التي يسكنها المتقون والفجار، بلا استثناء.
ثم إنه قد وقعت كوارث عظيمة خلال التاريخ الإسلاميّ منذ فجره حتى يوم الناس هذا، فما وجدنا مثل هذا الخطاب القائم على تبكيت الضحايا في وقت الكارثة؛ اللهم إلا التذكير بالله تعالى، والنصيحة العامة الحانية، من قبيل المطالبة باللجوء إلى الله، والرجوع إليه جل في علاه، وتحري مرضاته سبحانه وتعالى، والاعتبار بهذه النوازل، ونحو هذا.
ولقد روت كتب التاريخ أنه في عام 18هـ حلّت بالمسلمين في الشام كارثة ضخمة أَوْدَت بحياة نحو 30 ألفاً، وفيهم كبار الصحابة، وفضلاء الأمة، مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، فيما سُمِّيَ بـ"طاعون عَمَواس"، وهي قرية قرب القدس، منها تفشَّى ذلك الوباء الفتاك، فلم نقرأ أنَّ أحداً رفع عقيرته ليقول للضحايا بأن هذا عقاب لكم من الله، وكان هذا في زمن الفاروق عمر، الذي كان يدير الأزمة، ويتابع تطوراتها، حتى تهيأت الظروف وذهب إلى الشام ليباشر بنفسه علاجَ آثارِها.
وأما الاستدلال ببعض الآثار الواردة عن الصحابة، مثل ما رواه ابن جرير، عن قتادة أنه قال: ذُكِر لنا أنَّ الكوفة رَجَفت على عَهْد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، إنَّ ربَّكم يَسْتَعْتِبُكم فأَعْتِبوه، يعني يطلب منكم أن تلتمسوا رضاه، بإزالة أسباب العتاب.
وما رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي الدنيا في العقوبات، أنَّ المدينة زُلزِلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر: "أحْدَثْتُم، والله لئن عادت لأفعلنَّ ولأفعلن"، أو "لئن عادت لا أُساكنكم فيها".
فأقول: إن هذه الروايات على القول بأنها صحيحةـ ليس فيها دليل لأولئك المبكِّتين المعنّفين للضحايا في أثناء الكوارث.
ذلك أنها لم تكن قيلت في ظل وجود كارثة على الإطلاق، وإنما قيلت في وقت حدوث هزة عادية، مرّت بدون أية أضرار، بدليل أنه لم يَرِد في كتب التاريخ ذِكْرٌ لأي نوع من الكوارث بسبب هذه الزلزلة في ذلك الزمان.
كما أنها كانت حديثاً عامّاً من رئيس الدولة المسلمة للأمة، فيه تحذير لهم من المعاصي، والاجتراء على المخالفة، ثم إنَّ هناك فرقاً بين الحاكم الأعلى للدولة، وبين الداعي والواعظ، الذي نَلْحظه في موقف ابن مسعود، حيث كان كلامُه وعظيّاً عامّاً، لطيفاً رفيقاً، كما لا يخفى.
ولما وقعت الكارثة في "طاعون عَمَواس" كان موقف الفاروق عمر مختلفاً تماماً؛ حيث لم يُؤْثَر عنه كلمة واحدة من قبيل الخطاب المنسوب إليه في رواية زلزال المدينة، بل رأى الناسُ حزنَه وبكاءَه لِما أصاب المسلمين في تلك الجائحة المهلِكة، فكان هذا هو الأَولى بالتأسِّي والاقتداء.
إن الداعية عليه أن يستشعر أنه طبيب لأرواح الناس، ومعالِجٌ لنفوسهم، وهو أحق بالرفق من طبيب الأجسام، وعليه أن يتلطف بالناس حين يذكِّرهم بالله، ويترفّقَ بهم حين ينصحهم، لا أن يصدمهم وهم في الواقع منكوبون، ولا أن يجرحهم في حين أنهم مكلومون، ولْيُقَدِّر واقعَ الحال، ثم ليتخيّر المقال، ويجب عليه أن يُحسن الظنَّ بالناس، ويخاطبهم بتواضع.
ولنتأمل فيما رواه أبو نعيم في "الحلية"، أنّ عطاء السَّلِيمِيّ (أحد التابعين العبّاد الزّهاد) كان إذا هبَّت ريحٌ وبرقٌ ورعدٌ، قال: هذا مِن أجْلي يُصيبكم، لو مات عطاءٌ استراحَ الناس!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.