في رحلة الإسراء والمعراج أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على آيات كبرى ومشاهد عظمى، توطئةً للهجرة، ولأعظم مواجهةٍ على مدى التَّاريخ للكفر، والضَّلال، والآيات التي راها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ؛ منها: الذَّهاب إلى بيت المقدس، والعروج إلى السَّماء، ورؤية الأنبياء، والمرسلين، والملائكة، والسَّماوات، والجنَّة، والنار، ونماذج من النعيم والعذاب. وقد خلَّد القرآن الكريم ذكر هذه الرحلة، فقال سبحانه عن رحلة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وجاءت الإشارة إلى رحلة المعراج بسورة النجم، كما جاء ذكر الرحلتين مبسوطاً مفصّلاً في الأحاديث النبوية الصحيحة؛ في الصحيحين وكتب السنن والمسانيد عن عدد من الصحابة الكرام، مليئةً بالدروس والعبر والفوائد المتعلقة بالأخلاق والسلوك والإيمان، والمسجد الأقصى المبارك، ومكانته في الإسلام ولدى المسلمين، وغير ذلك كما سيأتي.
أولاً أذكر جزءاً من حديث رحلة الإسراء والمعراج وملخصاً عنه، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُتِيتُ بالبُرَاق – وهو دابّـةٌ أبيضُ طويلٌ، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طَرْفه – قال: فركبتهُ حتَّى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة؛ الَّتي يَرْبِطُ به الأنبياءُ. قال: ثمَّ دخلت المسجد فصلَّيت فيه ركعتين، ثمَّ خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبنٍ، فاخترتُ اللَّبن، فقال جبريل: اخترتَ الفطرة"… فذكر الحديث [مسلم (162)].
وفي حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه: أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّثهُ عن ليلة أسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم [الحطيم: ما بين الركن والمقام] – وربما قال في الحِجر – مضطجعاً؛ إذ أتاني آتٍ – وهو جبريل عليه السلام -، فَقَدَّ – قال: وسمعته يقول: فشقَّ – ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثُغرةِ نحرِهِ [إلى شِعْرَته وسمعته يقول: من قَصِّهِ إلى شعرته – فاستخرج قلبي، ثمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ من ذهبٍ مملوءةٍ إيماناً، فَغُسِلَ قلبي، ثمَّ حُشيَ، ثمَّ أُعِيدَ، ثمَّ أُتيتُ بدابةٍ دون البغل، وفوق الحمار أبيض – فقال له الجارود: هو البُرَاقُ يا أبا حمزة؟! قال: أنسٌ: نعم – يضع خَطْوَهُ عند أقصى طَرْفه، فحُمِلتُ عليه، فانطَلَقَ بي جبريلُ حتَّى أتى السَّماء الدُّنيا، فاستفتحَ فقيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريلُ، قيلَ: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيءُ جاء، فَفَتَح، فلما خَلَصتُ؛ فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فَسَلِّمُ عليه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ السلام، ثمَّ قال: مرحباً بالابن الصَّالح، والنَّبيِّ الصَّالح… [البخاري (3207) ومسلم (164)] .
وفي نفس الحديث ذُكر صعوده إلى السماء السابعة، مروراً بالسماوات السبع وفي كل سماء كان يرى نبياً فيتحاورا بمثل حواره مع آدم عليه السلام، ثم يذكر صعوده إلى سدرة المنتهى، ثم ما عُرض عليه من الخمر واللبن واختياره اللبن، ثم حواره مع موسى عليه السلام بعد فرض خمسين صلاة فما زال يقول له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف حتى خُففت إلى خمس صلوات وبقي أجرها كخمسين صلاة. هذا ملخص الحديث ويمكن الرجوع إليه عن طريق المصادر التي ذكرت.
ومن فوائد هذه القصة الكريمة ودروسها وعبرها:
1- أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان قبل هذه الرحلة العظيمة مُقْدِماً على مرحلةٍ جديدةٍ، مرحلة الهجرة، والانطلاق لبناء الدَّولة، يريد اللهُ تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكون سليمةً قويَّةً، متراصَّةً متماسكةً، فجعل الله هذا الاختبار والتَّمحيص؛ ليُخلِّص الصَّفَّ من الضِّعاف المتردِّدين، والَّذين في قلوبهم مرضٌ، ويُثبِّت المؤمنين الأقوياء والخلَّص؛ الذين لمسوا عياناً صدق نبيِّهم بعد أن لمسوه تصديقاً، وشهدوا مدى كرامته على ربِّه، فأيُّ حظٍّ يحوطهم، وأيُّ سعدٍ يغمرهم، وهم حول هذا النَّبيِّ المصطفى، وقد آمنوا به، وقدَّموا حياتهم فداءً له، ولدينهم؟! كم يترسَّخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الَّذي تمَّ بعد وعثاء الطَّائف؟! وبعد دخول مكَّة في جوارٍ، وبعد أذى الصِّبيان، والسُّفهاء؟!.
2- أنَّ شجاعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العالية، تتجسَّد في مواجهته للمشركين بأمرٍ تنكره عقولهم، ولا تدركه في أوَّل الأمر تصوُّراتهم، ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم، وتلقِّي نكيرهم، واستهزائهم، فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمَّته أروع الأمثلة في الجهر بالحقِّ أمام أهل الباطل، وإن تحزَّبوا ضدَّ الحقِّ، وجنَّدوا لحربه كلَّ ما في وسعهم.
3- يظهر إيمان الصِّدِّيق رضي الله عنه القويُّ في هذا الحدث الجَلَلِ، فعندما أخبره الكفَّار، قال بلسان الواثق: لئن كان قال ذلك؛ لقد صدق! ثمَّ قال: إنِّي لأصدِّقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السَّماء في غدوةٍ، أو روحةٍ، وبهذا استحقَّ لقب الصِّدِّيق، وهذا منتهى الفقه، واليقين، حيث وازن بين هذا الخبر، ونزول الوحي من السَّماء، فبيَّن لهم: أنَّه إذا كان غريباً على الإنسان العاديِّ، فإنَّه في غاية الإمكان بالنِّسبة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
4- أنَّ الحكمة في شقِّ صدر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وملء قلبه إيماناً وحكمةً؛ استعداداً للإسراء تظهر في عدم تأثُّر جسمه بالشَّقِّ، وإخراج القلب ممَّا يؤمِّنه من جميع المخاوف العادية الأخرى، ومثل هذه الأمور الخارقة للعادة يجب التَّسليم لها دون التَّعرُّض لصرفها عن حقيقتها؛ لمقدرة الله تعالى، الَّتي لا يستحيل عليها شيءٌ.
5- أنَّ شُرْب رسول الله صلى الله عليه وسلم اللَّبن حين خُيِّر بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل عليه السلام: "هُديتَ للفطرة"، تؤكِّد: أنَّ هذا الإسلام دين الفطرة البشريَّة؛ الَّتي ينسجم معها، فالَّذي خلق الفطرة البشريَّة خلق لها هذا الدِّين، الَّذي يلبِّي نوازعها، واحتياجاتها، ويحقِّق طموحاتها، ويكبح جماحها: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] .
6- كان إسراء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بالرُّوح والجسد يقظةً إلى بيت المقدس، وعلى هذا جماهير السَّلف، والخلف، ولا يُعوَّل على مَنْ قال: إنَّ الإسراء كان بروحه، وأنَّه رؤيا منام؛ إذ لو كان الإسراء مناماً؛ لما كانت فيه آيةٌ، ولا معجزةٌ، ولما استبعده الكفار، ولا كذَّبوه؛ إذ مثل هذا من المنامات لا يُنكر، ثمَّ إنَّ في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، والمقصود بعبده: سيدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وكلمة "بعبده" تشمل روحه، وجسده.
7- إنَّ الرَّبط بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام وراءه حِكَمٌ، ودلالاتٌ، وفوائد؛ منها:
أهمِّيَّة المسجد الأقصى بالنِّسبة للمسلمين؛ إذ أصبح مسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم ، ومعراجه إلى السَّماوات العلا، وكان لا يزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكِّيَّة، وهذا توجيهٌ وإرشادٌ للمسلمين بأن يحبُّوا المسجد الأقصى، وفلسطين؛ لأنَّها مباركةٌ، ومقدَّسةٌ.
الرَّبط يشعر المسلمين بمسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى، بمسؤوليَّة تحرير المسجد الأقصى من أوضار الشِّرك، وعقيدة التَّثليث، كما هي أيضاً مسؤوليتهم تحرير المسجد الحرام، من أوضار الشِّرك، وعبادة الأصنام.
الرَّبط يشعر بأنَّ التَّهديد للمسجد الأقصى، هو تهديدٌ للمسجد الحرام، وأهله، وأنَّ النَّيْل من المسجد الأقصى، توطئةٌ للنَّيْل من المسجد الحرام؛ فالمسجد الأقصى بوابة الطَّريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين، ووقوعه في أيدي اليهود، يعني: أن المسجد الحرام والحجاز قد تهدَّد الأمن فيهما، واتَّجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.
8- أهمِّيَّة الصَّلاة، وعظيم منزلتها: وقد ثبت في السُّنَّة النَّبويَّة: أنَّ الصَّلاة فُرضت على الأمَّة الإسلاميَّة في ليلة عروجه صلى الله عليه وسلم إلى السَّماوات، وفي هذا كما قال ابن كثير: "اعتناءٌ عظيمٌ بشرف الصَّلاة، وعظمتها"، فعلى الدُّعاة أن يؤكِّدوا على أهمِّية الصَّلاة، والمحافظة عليها، وأن يذكروا فيما يذكرون من أهمِّيتها، ومنزلتها كونها فرضت في ليلة المعراج، وأنَّها من آخر ما أوصى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل موته.
9- إدراك الصَّحابة لأهمِّية المسجد الأقصى: أدرك الصَّحابة رضي الله عنهم، مسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى، وهو يقع أسيراً تحت حكم الرُّومان، فحرَّره في عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، وظلَّ ينعم بالأمن، والأمان، حتَّى عاث الصَّليبيُّون فساداً فيه بعد خمسة قرون، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومكثوا ما يعادل قرناً يعيثون فساداً، فحرَّره المسلمون بقيادة صلاح الدِّين الأيوبيِّ، وها هو ذا يقع تحت الاحتلال اليهوديِّ، فما الطَّريق إلى تخليصه؟.
الطَّريق إلى تخليصه: الجهاد في سبيل الله؛ على المنهج الَّذي سار عليه الصَّحابة الكرام رضي الله عنهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.