ماذا يعني أن تكون من ذوي المعتقلين في مصر؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/17 الساعة 14:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/17 الساعة 14:58 بتوقيت غرينتش
المعتقلين في مصر

ليس الطريق إليها سهلاً، لكن الشوق بالقلوب يعبّدها فتصير يسيرة رغم المشقة. 60 ألف أسرة مصرية أو يزيد ترزح تحت سطوة الجلاد لتغييب ذويها خلف القضبان ظلماً لأنهم قالوا كلمة حق عند سلطان جائر، أمهات كالثكالى، وزوجات كالأرامل، وأبناء كالأيتام في وجود آبائهم على قيد التنفس خلف تلك الأسوار دون أمل في خروج إلى شمس الحرية قريباً، بعضهم يحمل حكماً قد انتهى ولم يخرج، وبعضهم ما زال قيد التحقيق منذ عدد سنوات الانقلاب، وبعضهم رغم مرور السنوات لم يعرف بعد لمَ هو هنا وإلى متى؟

الزيارة ورحلة التفتيش المهينة

إذا كنت من أحد تلك الأسر المنتهكة في حقوقها وإنسانيتها ومسموحاً لك بالزيارة، فإن عليك أن تستعد لها لمدة شهر، أي بعد الزيارة التي تسبقها مباشرة كي تستطيع توفير ما يلزمها من سلع على مدار الشهر، لأنك ببساطة لن تستطيع شراءها جملة واحدة في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها المجتمع المصري، فضلاً عن أسر المعتقلين الذين يلاحقون في أعمالهم وأرزاقهم وأمنهم ويهددون ليل نهار. 

يبدأ الإعداد للزيارة بشراء السلع الجافة التي تتحمل مرور الشهر عليها كالأرز والزيت والبقوليات، ثم بمرور الأيام عليك توفير ثمن الفاكهة والخضراوات والسجائر التي تستعمل كعملة داخل كافة سجون مصر، يحصل بها المعتقل على بعض حقوقه المشروعة، والأدوية التي لا يدخل منها سوى شريط واحد حتى لو كان مرضاً مزمناً، هذا في حالة قبول الضابط النوبتجي بدخولها أثناء الزيارة من الأساس.

يتوقف ذلك على مدى معرفة الضابط بأهمية الدواء واستدعاء تعاطيه، ومستواه الإنساني رفقاً بالبشر أو قسوةً عليهم، تختلف تكلفة الزيارات رغم ثبات دخلك أو انعدامه في بعض الأحيان من حين لآخر.

فكل زيارة تقل الكمية عما قبلها، ولكنها في نفس الوقت تزداد في قيمتها عن سابقتها، فالأسعار تتحرك للزيادة في كل يوم، ودخلك المحدود يعجزك عن توفير كافة المتطلبات الضرورية بالكاد وأنت تعلم أنك المصدر الوحيد لتلبية تلك الاحتياجات، فإن عجزت يوماً، فلا دواء، لا غذاء، لا كساء، لا دعم معنوياً يربط المعتقل بالحياة.

كما عليك إعداد كميات من الطعام تكفي العدد الموجود بالزنزانة وليس ابنك أو زوجك أو أخاك فقط، فهم يقتسمون الطعام والملابس وأحياناً الأدوية في كل زيارة.

عليك أن توفر وسيلة مواصلات تحملك في جوف الليل إلى حيث السجون التي يحرص النظام أن تكون بعيدة، فيقوم كل فترة بما يسمى بـ"التغريب"، لتكون السجون أبعد ما تكون. 

نعم أنت مستعد للسفر لأبعد من ذلك، فقط كي تلتقي بهم، لكن حتى تلك الخطوات لها ثمن قد لا تستطيع توفيره، إلا إذا حرمت نفسك أياماً طويلة من الزاد والعتاد والأدوية وتجاهل المرض كي لا تقصر في زيارتك أو تلغيها. 

بعد طول المسير وأنت الكريم، عليك أن تتحمل الكثير من الانتهاكات الإنسانية من أجهزة تتقن كثيراً فن إهانة الإنسان والأخذ من كرامته التي دفع كثيراً في سبيل الحفاظ عليها، فترى الحرة المصون وهي تهان فينشق لها قلبك، زوجة كانت أو أماً، تجر أحمالها الثقيلة وحيدة، وفوق تلك الأحمال، تحمل دموعاً حارقة تحاول إخفاءها عن أعين الشامتين والناقصين المدججين بسلاح موجه لصدور المحصنات العفيفات.

أنت سياسي؟ "على جنب"، فما عليك إلا أن تتنحى لذوي الجنائيين ليتقدموا، ويقوموا بزيارتهم وينتهوا منها، وإذا كان عددهم كبيراً عليك الانتظار حتى ينتهوا تماماً من زيارتهم جميعاً ظهراً، أو عصراً، ثم ينادى عليك لتبدأ إجراءات الزيارة مع وجوه عابسة مكفهرة كارهة لست تدري لأي ذنب ارتكبته يصنعون معك ذلك.

تدخل للزيارة تجر حمولتك، لا فرق إن كنت رجلاً أو امرأة، كبيراً أو صغيراً، تحمل طفلاً كنت أو منفرداً، العنوان هنا لا رحمة، لا كرامة، لا احترام أو تقدير لإنسانيتك، ثم تبدأ رحلة التفتيش المهينة. 

أولاً ليس كل ما جلبته بالاستدانة يمكن إدخاله. يقومون بتفتيش الطعام المعد بالمنزل تفتيشاً عميقاً يفسد أغلبه، ثم على الحرة أن تمر على موظفة الداخلية التي تقوم بتفتيش النساء والبنات بشكل مخجل لهن، وهن ربائب العفة والحياء، تمتد يدها بشكل مقزز، بعضهن يعترضن ويطلبن تفتيشاً إلكترونياً وهو متوفر.

والكثيرات يصمتن حياءً ويصبرن كي تمر الزيارة، وقد صار بينها وبين حبيبها بضع خطوات علها تطفئ شوق الشهر المنصرم، فتخبره بما لديها وتسمع منه في الربع ساعة التي تمر مر الثواني المعدودة في عمر القهر، حتى إذا انتهت من موقعة التفتيش، تدخل قاعة الانتظار المرير حتى يخرج الحبيب من خلف الأبواب السوداء.

صورة تعبيرية لأحد السجون المصرية/رويترز

تمر الزيارة بمتاعبها الروتينية والمتكررة إذا كنت منفرداً، لكنها تصعب إذا كنت تحمل طفلاً رضيعاً، طفلاً يتعرض لأقسى الظروف الإنسانية، ولا ينال أدنى حقوق ينالها طفل آخر في غير وضعه هذا، طفلاً يتعرض للتفتيش دون أن يعي أين هو ولماذا هو في هذا المكان!!

حيث يخرج في الليل البهيم مغادراً فراشه الوثير دون سبب يدركه، ودون ذنب، محمولاً على أياد واهنة، وأحضان باردة، ونفوس مكسورة، وعظام أكلها الجوع والحرمان، لتوفر فقط تلك الزيارة لحبيب مغيب.

يتحمل الطفل دخاناً ينفثه جنود الطغيان دون مراعاة أنه طفل لم يعرف في بيته مثل هذا السلوك، يتحمل نظرات الحقد أو الشفقة في بعض الأحيان، وكلمات اللوم على أم تتوق أن تربي وليدها في وطن يصون إنسانيته، فقبلت بالزواج من إنسان حر بذل نفسه للحصول على حريته، أطفال يهرولون هنا وهناك ببراءة الطفولة المعهودة، تتحمل ويتحملون. 

تخفي دموعها حتى لا تحمّل حبيبها هماً فوق هم سجنه وتغييبه عنها، ويبتسم الجميع تحت نظرات العساكر والكاميرات، كل منهم يخفي آلامه عن الآخر، ويجتهد فقط كي يطمئنه بينما علامات البؤس والخوف ومئات التساؤلات في عيون الجميع ظاهرة بمن فيهم هؤلاء الأطفال: لماذا نحن هنا؟ وإلى متى؟ ولماذا نرحل دون أبي؟! 

ملف المعتقلين في مصر – توضيحية / gettyimages

معاناة مفتوحة وأمل يتجدد

الغريب أنك تجد عند هؤلاء رغم المعاناة المتكررة شهرياً، وفي معظم الأحيان، الديون المتراكمة، ورغم تمرير بعض الزيارات لعدم القدرة على تدبيرها، فما كانت تكلفته ألف جنيه على سبيل المثال، صار يتكلف أربعة وخمساً إذا حملت نفس ما كنت تحمله منذ بضعة أشهر.

وعلى الرغم من ترك ذوي المعتقلين معظم الواجبات المهمة الخاصة بأبنائهم، ومنها عدم متابعة الدراسة للأبناء إلا في حدود ضيقة، وأعرف شخصياً بعض من تركوا الدراسة بالجامعات لعجزهم عن مصاريفها، إلا أنك تجد عندهم يقيناً عجيباً بقرب فجر الحرية، وحصول ذويهم على تعويضات ربانية كبيرة، وأن الواقع المفروض ما هو إلا ساعة اختبار لقدراتهم وصبرهم ورضاهم عن قضاء الله فيهم، بل هو ثمن قليل نظير إيمانهم بقضيتهم التي عاشوا لها ولأجلها.

رغم الوهن تجد قلوباً فتية لو خيرتهم الأيام، أو عاد بهم الزمن ما تراجعوا، وما تخلوا، وما فتروا عن العطاء أو السير في نفس الطريق الشاقة، وتجد كلاً منهم يشد على يد الآخر يطمئنه، ويوصيه بالصبر، ويبشره أن فرج الله قريب وقد آن أوانه، وأن عوضه لا يقارن بعطايا الدنيا مجتمعة.

ورغم تخلي الكثيرين عنهم إلا أنهم يشفقون عليهم، وعلى أوطانهم، ومستعدون لبذل ما هو أكبر في سبيل حرية شعوبهم، وخلاصهم.

مع كل زيارة يتجدد الأمل في أنها الزيارة الأخيرة، وحين لا تكون الأخيرة، يولد أمل جديد في أن الزيارة القادمة قد تكون الأخيرة.

إنهم ليسوا عاديين، على الرغم من أن بعضهم تمنى لو يعيش يوماً عادياً ككل الناس، بلا ملاحقة، بلا فراق، بلا تهديد.

إنهم بذور الحرية التي نبتت في بلاد العرب والمسلمين، وسوف تؤتي أكلها يوماً مادامت هناك قلوب تنبض وتؤمن بالفكرة وما زالت تعيش من أجلها وتضحي دون انتظار أجر إلا من الله رب العالمين.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عزة مختار
كاتبة مصرية
كاتبة مصرية تهتم بالشأن الإسلامي، صدر لها عشرة كتب ما بين الفكرية والأدبية، وكتبت في عشرات المواقع والصحف المحلية والعربية
تحميل المزيد