"نحن من قبيلة قديمة، لكننا لسنا من القوط، نحن جزء من السلاف (الصقالبة)، ومن قال غير ذلك افترى وكذب، وسيشعر بقبضتنا!".
تتضمن الأغنية الوطنية "مع الماريشال تيتو" (أوز مارشالا تيتا)، التي كانت رائجة في يوغوسلافيا السابقة أثناء حكم الماريشال جوزيب بروز تيتو، وهي من كلمات الشاعر والسياسي الكرواتي فلاديمير نازور، وألحان الموسيقار البوسني اليهودي أوسكار دانون، في مقطعها الثاني، رفضاً عنيفاً للنظرية التاريخية الهوياتية القائلة بأنّ الكروات ليسوا سلافيين، وأنهم من قبائل القوط الجرمانيين.
أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن تحرر المقاومة الشيوعية اليوغوسلافية، بقيادة تيتو، يوغوسلافيا من الاحتلال النازي وتعيد توحيدها، كانت نظرية الأصل القوطي للكروات هذه جزءاً أساسياً من أيديولوجيا الأوستاشا الفاشيين الكروات، وذلك لتمييز أنفسهم عنصرياً عن باقي الشعوب اليوغوسلافية، لا سيما الصرب، ولتمتين علاقات الأوستاشا، من باب عرقي، مع النازيين إبان الاحتلال الألماني لأراضي المملكة اليوغوسلافية.
أثناء الاحتلال النازي، كانت قد تمت تجزئة قسم معتبر من يوغوسلافيا لأراضٍ تم ضمها أو احتلالها من قبل ألمانيا، أو إيطاليا، أو المجر، أو بلغاريا، بالإضافة إلي إنشاء دولتين باستقلال صوري هما صربيا، وكرواتيا، حيث وضع الاحتلال الألماني حركة الأوستاشا الفاشية العنصرية على رأس نظام دكتاتوري إجرامي (ارتكب العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) لحكم الدولة "الدمية" الكرواتية الجديدة. ومن الجدير ذكره أنّ قسماً من البوشناق المسلمين نحوا نفس منحى الأوستاشا الكروات في القول بالأصل القوطي للبوشناق، وانخرط قسم منهم في الإس الإس المقاتلة النازية (الجناح العسكري للحزب النازي).
وعموماً، تعود النظرية السياسية التي تقول بالأصل القوطي وليس السلافي للكروات للقرن التاسع عشر، حين اعتمد بعض المنظرين السياسيين القوميين الكروات المنادين بوحدة كرواتيا الكبرى واستقلالها، وأبرزهم أنتي ستارتشيفيتش، وميلان شوفلاي، بالإضافة إلى الكاهن الكاثوليكي كرونوسلاف ستيبان دراغانوفيتش، بشكل أساسي، على السردية التاريخية لكاهن من القرن الثالث عشر، يعرف بلقب "كاهن ديوكليا" نسبة لمملكة ديوكليا (جنوب شرق البلقان) في القرون الوسطى، والذي يقول في مجموعة أخباره التاريخية بالأصل القوطي للكروات.
تنتمي سرديات كاهن ديوكليا إلى عالم الأسطورة والفانتازم أكثر منها بكثير إلى التوثيق التاريخي والمنهجيات العلمية في البحث التاريخي، ولكنّ القوميين الكروات في القرن التاسع عشر كانوا بحاجة لسند تاريخي -ولو كان مبنياً بشكل كبير على أوهام وأباطيل- لإضفاء شرعية تاريخية ما على أيديولوجيتهم القومية، فلجأوا إلى هذه الأساطير من القرن الثالث عشر وأعادوا تدوير سردياتها التاريخية، واستثمروا سياسياً فيها.
موجة عالمية
وفي يومنا هذا، لرفد خطاب الانغلاق الهوياتي الذي تتبناه، غالباً ما تعتمد حركات اليمين الشعبوي، كما في الهند مع ناراندا مودي، ولا سيما في البلدان الأوروبية، نفس المنهج في العودة إلى أساطير ما يسميه الباحث والمؤرخ الفرنسي جيرار نوارييل "التاريخ الهوياتي".
في كتابه "السم في القلم"، يشدد نوارييل على مخاطر التاريخ الهوياتي وأساطيره، مفككاً خطاب الفرنسي اليميني المتطرف إيريك زيمور، لا سيما لجهة الاستثمار السياسي الذي يجريه زيمور حاضراً في صورة القائد الفرنجي شارل مارتيل الذي انتصر على الجيوش المسلمة بقيادة عبد الرحمن الغافقي في معركة بواتييه (بلاط الشهداء) سنة 732، مقارناً خطاب زيمور الهوياتي المنغلق الكاره للآخر مع خطاب الكاتب إدوار درومون الذي كان رأس حربة المعادين للسامية في فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر.
ولعل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان هو أحد الأمثلة الصارخة لاستثمار اليمين الشعبوي في أساطير التاريخ الهوياتي لتأجيج الشعور القومي، إذ يعيد أوربان وحزبه (فيديز) تدوير النظرية "الطورانية" حول أصل المجريين، وهي نظرية مشكوك في صحتها العلمية لحد كبير، تعتبر أنّ أصل المجريين يعود لقبائل الهون في وسط آسيا، وأنهم أبناء الملك الشهير أتيلا الهوني.
الردة الهوياتية في لبنان
أما في لبنان، ومنذ بداية الأزمة المستفحلة في أواخر 2019 وتحلل هيبة الدولة أمام انفلاش هيمنة حزب اللّه، تطل أدبيات الانغلاق الهوياتي برأسها من جديد، وهي نظريات كنا اعتقدنا أنها قد طويت صفحتها لغير رجعة مع انتهاء الحرب الأهلية سنة 1990. ينادي أصحاب هذه الموجة تارة بالفيدرالية على أساس طائفي (والفيدرالية ليست حلاً لمشاكل لبنان الأساسية، إذ إنّ السياسة الخارجية والدفاع وجزءاً معتبراً من المالية كلها تبقى من اختصاص الحكومة لمركزية)، وتارة -بشكل أكثر صراحة- بالطلاق بين اللبنانيين وبالتقسيم.
ويشكل التقسيم، من جهة أولى، طرحاً غير واقعي في بلد كلبنان أصغر من أن يقسم، ومن جهة أخرى طرحاً كارثياً لأنه غالباً لا يجري تقسيم الدول إلا "على الحامي" أي بحرب أهلية (أي كما حصل في يوغوسلافيا السابقة ابتداءً من 1992)، مع ما يرافقها من عمليات تهجير ونقل للسكان (ترانسفير) حسب انتمائهم الطائفي.
ويتم تدعيم الخوف من الآخر الذي تقوم على تأجيجه هذه الأطروحات بنظريات المؤامرة، لا سيما بإسقاطات من نظرية "الاستبدال العظيم"، بالإضافة إلى محاولات لتصوير ما يتعرض له اللبنانيون أو قسم منهم منذ 2019 لإبادة، تارة يتم وصفها بالجماعية، وتارة بالثقافية.
ولإضفاء نوع من الشرعية التاريخية على أطروحاتهم السياسية في الحاضر، يغرف كثير من رواد موجة الردة الهوياتية الانغلاقية هذه الأساطير والفانتازم والمظلوميات في التاريخ الهوياتي، تحديداً بنسخته الاستشراقية (إرنيست رونان، وهنري لامانس، وغيرهما) حول بعض الطوائف اللبنانية، لا سيما المسيحية منها، والقائلة بالأصل الفينيقي للبنانيين وبهويتهم الفينيقية، وهي سرديات تاريخية كان أبرز من فككها المؤرخ كمال الصليبي، لا سيما في كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، وقدّم المؤرخ والعالم السياسي سمير قصير، في مقال له بالفرنسية بعنوان "أيديولوجيات" نشر سنة 1997، السبيل النظري لتخطي الانقسام المانوي والمعادلة الصفرية التي ترسيها هذه السرديات التاريخية الهوياتية، لا سيما بين الانتماء العربي أو الفينيقي للبنان.
ومن الجدير ذكره أنّ "قصير"، قبل اغتياله في 2005، كان من رواد حركة 14 آذار، وهو بالإضافة إلى سمير فرنجية وجبران تويني (بقسمه الشهير حول بقاء اللبنانيين مسلمين ومسيحيين موحدين) والكثيرين غيرهم كانوا واعين جيداً لحقيقة أساسية مفادها أنّ استرجاع سيادة الدولة يكون بعناوين وطنية جامعة، لأنّ أكثر ما يريح تنظيم مسلح هوياتي طائفي مذهبي يخرق سيادة الدولة، كحزب اللّه، هو تحديداً أن تتم مواجهته بخطاب انغلاق هوياتي مقابل.
ولكن منذ انفراط عقد 14 آذار لأسباب وأخطاء وخطايا كثيرة، تشاركت فيها جميع مكوناتها ولا مجال لذكرها في هذه السطور، تحولت الحركة السيادية اللبنانية من حركة وطنية جامعة إلى مجموعة من الدكاكين السيادية الطائفية التي غالباً ما تدور أدبياتها حول عناوين الانغلاق الهوياتي بوجه تنظيم هوياتي للنخاع كحزب اللّه، وهو ما يصيب فعالية القضية السيادية اللبنانية ومشروعيتها وأخلاقياتها بأعطاب فادحة.
الخلاصة
الانتماء الهوياتي ليس بحد ذاته مشكلة، فالهوية ممكن أن تكون منفتحة على الآخر. تكمن المشكلة في التقوقع الهوياتي، وتحديداً في الذهنية الإقصائية المرافقة له.
من المؤكد أنّ تسلط حزب اللّه في لبنان يبقى السبب الأساسي، والرئيسي، والمباشر، للانغلاق الهوياتي الحاصل كردة فعل على هيمنته. ولكن الانغلاق الهوياتي في هذا البلد يأتي أيضاً كتأثر بـ"موضة" أيديولوجية عالمية استعرضنا قسماً يسيراً منها أعلاه، لها أنصار مستشرسون في لبنان، وهي موجة عالمية لا يمكن إغفال تداعياتها على بلاد الأرز، أبطالها أشخاص متل ترامب في أمريكا، وإيريك زيمور في فرنسا، وأوربان في المجر، وأبرز منظريها الأمريكي – الإسرائيلي يورام هازوني في كتابه "فضائل الفكر القومي" الذي أصبح مرجعاً نظرياً لحكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية الحالية.
ناهيك، وهذا الأهم، أن لهذه الردة الهوياتية في لبنان أسباباً عميقة ومستقلة عن ممارسات حزب اللّه، وهي أقدم من هذا الحزب بكثير، يتحين أصحابها الفرص والأعذار لإعادة طرحها، وهم يستغلون اليوم الغضب العارم والمشروع الناتج عن ممارسات حزب اللّه ويستثمرون فيه، وذلك لإعادة تدوير أدبياتهم ومشاريعهم القديمة التي لا تقل خطورة عن أدبيات ومشاريع الحزب بالنسبة للبنان الكيان الواحد والتعددية.
بمعنى آخر، في لبنان، ممارسات الحزب تجعله يتحمل المسؤولية الكبرى لهذه الموجة من الردة الهوياتية، ولكن لا يمكن اعتبار أنه المسؤول الوحيد عن هذه الردة، وإلا نكون قد خرجنا من تفسير مسببات هذه الردة الهوياتية ودخلنا -ولو عن غير قصد، ولو بطريقة غير مباشرة- في تبريرها.
إنّ مجابهة ردة التقوقع الهوياتي هذه يجب أن تكون موضوعية، برفض جميع أشكالها، عند كل الطوائف، وخصوصاً بتسمية كل أسبابها بشجاعة، وبمعالجة كل أسبابها، وليس فقط الإضاءة على سبب واحد (ولو كان رئيسياً)، وترك الأسباب المهمة الأخرى، وإلا أصبح ذلك مجرد كلام للتبرير وللاستهلاك السياسي، لا أكثر، ويجعل ممن يقوم بذلك شريكاً، ولو عن غير قصد وبطريقة غير مباشرة، في استفحال هذه الموجة.
أما بارقة الأمل في هذا السياق، فأتت في كلام البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي جاء حاسماً في هذا الخصوص في ذكرى مار مارون شفيع الطائفة المارونية في 9 فبراير/شباط 2023. في عظته، تمسك الراعي بالهوية، ولكنه نبّه بشكل حازم على مخاطر الانغلاق الهوياتي: "عيد مار مارون اليوم يدعونا للرجوع إلى هويتنا المارونية التي ترفض التقوقع والمصالح الضيقة، هويتنا المارونية، هوية انفتاح وحضارة وإيمان".
فهل من معتبر؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.