مُحاكمة الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز ليست حرباً على الفساد، بل هي الفساد بحد ذاته؛ إذ تفتقر المحاكمة إلى روح القانون والعدل، كما أن هيئة المحكمة هي جزء من سلطة قضائية فاسدة؛ وبالتالي هي ليست مؤهلة لمحاكمة النظام السابق، ومحاسبته على جرائم الفساد الموجهة للنظام.
والمُحاكمة أتت بعد التحقيق الذي أجرته اللجنة البرلمانية، بعدما تقصّت قضايا الفساد المتعلقة بالنظام السابق، وأثبتت اللجنة البرلمانية في تحقيقها جرائم فساد ارتكبها النظام السابق، ومن أبرز التهم الموجهة للرئيس السابق ورموز نظامه غسل الأموال، والإثراء غير القانوني، وتبديد ثروات الدولة.
وقد مثل أمام المحكمة الرئيس السابق ولد عبد العزيز، واثنان من رؤساء حكومته هما يحيى ولد حدمين ومحمد ولد البشير، وينضم للقائمة بعض الوزراء السابقين، مثل ولد أوداعه وولد الطالب وصهر الرئيس السابق ولد أمصبوع، وتتوسّع دائرة الاتهام لتشمل مسؤولين آخرين ورجال أعمال.
وتُعرف المُحاكمة محلياً "بفساد العشرية" إشارة إلى المدة الزمنية التي حكم فيها محمد ولد عبد العزيز موريتانيا منذ عام 2009 إلى 2019، وقد وصل ولد عبد العزيز السلطة بعدما قام بانقلاب عسكري على الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في أغسطس 2008، وشارك في ذلك الانقلاب العسكري صديقه وقتئذ محمد ولد الشيخ الغزواني وهو الرئيس الحالي.
ويُرجع بعض المراقبين السياسيين الدوافع الرئيسة للمحاكمة إلى خلافات سياسية قديمة بين الرئيس الحالي ولد الغزواني والرئيس السابق عزيز، بعدما ترأس الأخير اجتماعاً لحزبه السابق "الاتحاد من أجل الجمهورية" واحتج نواب البرلمان على هذه الخطوة، ووقعوا عريضة عام 2019.
تعتبر موريتانيا من أكثر الدول فساداً، بحسب تقرير مؤشرات مدركات الفساد لعام 2021، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، والفساد العام هو الذي جعل موريتانيا ضمن الدول الأكثر فساداً في هذا التقرير؛ حيث يتم استغلال المناصب العامة من قبل موظفي الدولة للمصالح الشخصية.
ونظراً للنفوذ الذي يتمتع به هؤلاء البيروقراطيين الفاسدين لا تتم محاسبتهم أمام السلطة القضائية بسبب الرشوة والفساد، وبهذا غابت الديمقراطية عن الساحة السياسية الموريتانية، وعمّ الفساد وحلّ الاستبداد مكان الديمقراطية، وبها تمّ تقييد حقوق الإنسان، لتزداد الرشوة والفساد نظراً لغياب العدالة.
ويتضح التقرير الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في موريتانيا عام 2020 حجم الفساد الذي أضرّ بمصالح الدولة، فقد منح النظام السابق تصاريح الصيد لعدد من الشركات الأجنبية، كما سمح للشركات الأجنبية بالهيمنة على ثروات الدولة واستخراج المعادن ضمن عقود طويلة، وبسبب غياب إجراءات الحوكمة والشفافية تمكنت الشركات الأجنبية من ترسيخ الفساد.
المؤسسة العسكرية هي الراعي الأول للفساد. والنظام الحالي مجرد امتداد للأنظمة السابقة؛ التي كرست مفاهيم الفساد في مؤسسات الدولة، وأخرجت طبقة بيروقراطية فاسدة، تستغل مؤسسات الدولة للمصالح الشخصية، وهي متحالفة مع المؤسسة العسكرية التي لا تخدم مصلحة المواطن ولا الوطن!
ونظراً للتحالفات القائمة بين المؤسسة العسكرية والطبقة البيروقراطية الفاسدة، تم استهداف الثروات الطبيعية لموريتانيا من قِبل بعض الشركات الأجنبية الرأسمالية الفاسدة والعابرة للقارات، فقدم لها النظام الفاسد الحماية القانونية، بينما قدمت لها الطبقة البيروقراطية الفاسدة الصفقات الحكومية.
وبهذا هيمنت الشركة الكندية "تازيازيت" على منجم الذهب الذي أنتجت منه ثروة هائلة، وقامت بإقصاء العامل الموريتاني من المعادلة؛ ونفس السياسة استخدمتها شركة الصيد الصينية التي ستستغل الثروة السمكية لعقود قادمة.
وتتمتع هذه الشركة بعقود طويلة خوّلت لها الصيد في المحيط الأطلسي بلا قيد أو شرط، ودون مراقبة حكومية، فقد ألحقت أضراراً بالثروة السمكية ولم تحترم مواسم الراحة البيولوجية للأسماك كحماية للثروة السمكية ومنعها من الانقراض، فهذه الشركة الأجنبية لا تراعي قوانين الصيد والحياة البحرية.
ولم تخلُ الشركة الوطنية للصناعات والمناجم (سنيم) من الفساد. وهي شريان الاقتصاد الموريتاني، وتضخ هذه الشركة أرباحاً تسهم في زيادة ميزانية موريتانيا وتضخ ثروة تشكل نسبة مرتفعة في الاقتصاد الموريتاني، فهي تستخرج خام الحديد وتعيد صناعته، وتملك منجماً في الزويرات وميناءً قديماً بسعة متوسطة وميناءً جديداً بمدينة نواذيبو، وتملك أكبر قطار في العالم الذي يربط بين الزويرات ونواذيبو، وهي تصدّر الحديد إلى السوق العالمية.
وبسبب إدارة الشركة السيئة وهيمنة المؤسسة العسكرية والبيروقراطية الفاسدة على موارد الشركة تم نهب ثروات هذه الشركة مع إدارة سيئة. ولم يستفد المواطن من العائدات والأرباح، على الرغم من ارتفاع الإنتاج. تلك صورة من صور الفساد تعكس فساد المؤسسة العسكرية والبيروقراطية.
في ظل غياب الفصل التام للسلطات لا يمكن أخذ هذه المحاكمة بعين الاعتبار، فقبل محاربة الفساد يجب أن تكون السلطات الثلاثة مستقلة؛ واستقلال السلطات يرسخ مبدأ توزيع القوة بدلاً من مركزيتها حتى لا تصبح السلطة مقتصرة على طبقة معينة، لكي لا يحل الاستبداد مكان الديمقراطية ويزداد الفساد وتضيع حقوق الإنسان وتغيب الديمقراطية.
والرئيس الحالي لا يمكنه محاربة الفساد ومحاكمة النظام السابق؛ لأنه جزء من الفساد ومن النظام السابق، كما أنه ركن من أركان المؤسسة العسكرية. ومحاربة الفساد تفرض على الغزواني أن يحاسب نفسه أولاً، وذلك غير ممكن، لذا فالمنطق السياسي يقتضي أن هذه المحاكمة ذات أبعاد سياسية.
لم تحظَ موريتانيا بنهضة اقتصادية وحضارية منذ الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، فبعد مقاومة الاحتلال الفرنسي وإعلان الاستقلال لم تستفد الدولة شيئاً؛ فبعد خروج القوى الاستعمارية من أراضي الوطن تركت خلفها المؤسسة العسكرية، وهي امتداد للمشروع الاستعماري، ولم تكرس المؤسسة إلا الفساد والفوضى وانعدام الاستقرار السياسي، لذا عاشت الدولة حقبة الانقلابات العسكرية منذ استقلالها ولم تتحقق النهضة نظراً لهذه الأسباب.
أفراد المؤسسة العسكرية لم يفهموا منطق نشأة الدولة في التاريخ السياسي، لذا تغيب عنهم الفلسفة السياسية، ولا يقدرون على إدارة مؤسسات الدولة؛ فهم لم يفهموا بعد الدور الحقيقي لمؤسسات الدولة ووظيفتها التاريخية ومنطق الصراع القائم ما بين الشعب والسلطة والأرض والعلاقة الجدلية بينهما.
والمؤسسة العسكرية قادرة على الفساد والانقلابات، ولكنها غير قادرة على أن تجعل السلطة القضائية مسؤولة عن تطبيق القانون، ولا تقدر على أن تجعل السلطة التشريعية تقوم بسن القوانين لخدمة المجتمع وتنظيمه، وهم كذلك غير قادرين على إلزام السلطة التنفيذية بتنفيذ القانون ومحاسبتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.