كثيراً ما كنا نسمع "اجتهد واتعب كي تحصد في نهاية المطاف"، ولكن لم نسمع يوماً "كن فارغاً كي تصل".
شهد العالم العربي في الفترة الأخيرة فورة لم تكن في الحسبان، فورة الشهرة الزائفة، مع الانتشار الكثيف لمواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما "التيك توك"، والخطر الأكبر يتمثل في الفئة التي تُتابع هؤلاء الزائفين، ألا وهي فئة اليافعين والمراهقين.
وعداك عن التحديات الخطرة التي يحث عليها هذا البرنامج، والتي نلاحظ آثارها السلبية فوراً؛ كونها في بعض الأحيان تتسبب بموت مشتركيها، هناك تحد أكثر رعباً وخطراً سنجني نتائجه في المستقبل القريب، إن لم نتدارك فوراً آثاره، والمتمثل بتحويل الشاب العربي تحديداً لعبد للمال والشهرة الفارغة.
مبدأ هذا البرنامج وركيزته الأولى البث الحي أو اللايف، لا يهم كيف تتحدث، أو نوع الموضوع الذي تطرحه، المهم أن تتحدث، أو أحياناً حتى لا تتحدث! يكفيك بعض من الحركات والإيماءات التي تستقطب المشاهدين، وتهانينا، أنت في السكة الصحيحة، فبدأت تحذو أولى الخطوات نحو الشهرة، كيف ومتى؟! لا يهمّ إطلاقاً، المهم في نهاية المطاف عدد المشاهدات، وفيما يلي عدد الورقات المادية، وهكذا يكون طريقهم.
الغريب في الأمر أن بعضاً من الأهالي يشجعون وبشكل هستيري مواهب أبنائهم المرتكزة على اللاشيء، فترى الأمهات تحديداً يتهافتن على نشر فيديوهات لذرّيّاتهم، ليس لها موضوع جوهري، ولا حضور لافت، ولكن عدد مشاهدات بالآلاف، وأحياناً بالملايين.
هنا تقع المسؤولية بالدرجة الأولى على الأهل، جميل جداً أن ننمي مواهب أبنائنا وندعمها، ولكن الأجمل أن نكتشف أولاً موهبة لدعمها، وإلا فنحن نقدم أطفالنا حصراً كطبق شهي لكل مشرد عاطفي، يرى في أجساد ومشاعر مراهقينا ملاذاً آمناً لشهواته.
ضروري جداً ألا يورث الآباء طموحاتهم وأحلامهم المؤجلة لأطفالهم، فكما قال جبران: "أولادكم ليسوا لكم أولادكم أبناء الحياة"، ولكن الأهم أن يكونوا لهم أهلاً، لا يصفقون للخطأ القابع داخل ثوب شهرة مخملي، يباع بأبخسّ الأثمان.
ضروري جداً أن يكون الأهل على قدر كافٍ من الوعي قبل الحلم، فالحلم المتهور ما هو إلا كابوس محكم.
ناهيك عن الأهل، نأتي للمجتمع، وتحديداً المجتمع العربي، الذي يعاني بعض بلدانه أزمات وحروباً عسكرية أو اقتصادية خانقة، فتراه يرحب بكل فكرة تصنع الفرحة حوله، ولو كانت فرحة زائفة، المهم أن يجني المال ويحتفل.
فالبعض في هذه المجتمعات يعتبر أنه لا حاجة لشهادات الطب والهندسة والصحافة، التي إن جنيت منها مالاً، بعد سنوات طوال من الدراسة والعمل، فلن تجني في شهر كامل ما يجنيه "لايف واحد في تيك توك".
إذاً كيف لمتعلم وطامح أن يتعايش مع مجتمع يهلل ويزغرد لكل انتصار وهمي، وكيف السبيل أصلاً لمراهق، بإقناعه بأن تلك الشهرة والأموال ما هما إلا فقاعة مؤقتة، ستنتهي مع انتهاء وإغلاق البرنامج؟
في بعض الأحيان أتعاطف مع بعض الحمقى المشاهير، جائعي الشهرة، وتحديداً صغار السن منهم، ضحية مجتمع تلتفّ حول عنقه أحزمة البؤس من كل حدب وصوب، مع غياب برامج الدعم من قِبل حكوماتنا، فيجد الشاب العربي من باب "التيك توك" مخرجاً من جهنمِ الفقرِ والعوذ، وبرعاية مجتمع يصفق ويحاسب على الفعل ذاته في الوقت عينه.
غريب، لا بل محبط ما وصلنا إليه من زمن، فبعدما كان مجتمعنا يهلل للمثقفين، أخفض اليوم شاراته ورفعها لمشاهير من نوع آخر، مشاهير اللايف.
فأصبحت سنوات الدراسة والشهادات ثقلاً على أكتاف حامليها، لا ترفعهم معنوياً في عين مجتمعهم، ولا تُنصفهم مادياً في أماكن عملهم.
المحبط أكثر ما وصل إليه البعض في المجتمع العربي من انحدار قِيمي، هذا المجتمع الذي افتخر لسنوات طوال بعاداته وتقاليده، أصبح اليوم يزغرد لمفاهيم دخيلة، تسللت بعباءة الحرية إلى منصاته، فأضحى الملتزمون بالقيم معقّدين، لا بل أعداء للنجاح، هذا النجاح الذي وضع مفهومه كل شخص منا أسهم في نشر- عن قصد أو غير قصد- متحوى غير هادف لـ"متسلّلي الشهرة".
ولكني على أمل ألا يأتي اليوم الذي يصبح فيه حلم أبنائنا أن يصبحوا في المستقبل مشاهير "تيك توك"، تبقى المراهنة على مؤسِّسي الموقع بحجب بعض استخداماته، وأن يكون للمجتمع دور فعال في حجب وعدم المساهمة في نشر المحتوى الهابط، وذلك لكي ينجو من تبقوا من مراهقين على شاطئ الأمان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.