للإجابة على هذا السؤال، سأعبر عن فكرة لطالما أرقتني، وهي قدرة الناس على الاستجابة والخضوع للسلطة. هذه القدرة لطالما عجزت عن تفسيرها، حتى عثرت على كتاب بعنوان "كيف تُصنع الطاعة؟ وجهة نظر علمية عن التسلط"، لعالم النفس الاجتماعي الأمريكي ستانلي ميلغرام.
وذلك أثناء تجوالي في معرض القاهرة الدولي للكتاب العام الماضي، الكتاب صادر عن منشورات نصوص العراقية بترجمة أندي مارديني. ولفهم طبيعة الطاعة قام ميلغرام بتجاربه على عينة مختلفة وكبيرة من المجتمع الأمريكي.
في البداية دعوني أوضح لكم السبب الذي دفع ميلغرام وفريقه البحثي على إجراء هذه التجارب. فالزمن الذي بدأ ستانلي فيه تجاربه كان الستينيات من القرن العشرين، حيث كانت أجواء الفاشية والنازية ومحاولة فهمهما مسيطرة على عقول علماء النفس والاجتماع والمفكرين والمنظرين عموماً. وخصوصاً أن هذه التجارب جاءت بعد محاكمة "آيخمان" الشهيرة بثلاثة أشهر فقط.
يقول ميلغرام: "إنه ثبت بشكل موثوق أنه في الفترة من 1933م إلى 1945م قتل ملايين الأبرياء بشكل منهجي بناءً على الأوامر. وتم بناء غرف الغاز، وحراسة معسكرات الموت، وتم إنتاج حصص يومية من الجثث بنفس كفاءة تصنيع الأجهزة. فقد تكون هذه السياسات اللا إنسانية قد نشأت في عقل فرد واحد، ولكن كان من الممكن تنفيذها على نطاق واسع فقط إذا أُطيعت الأوامر من قبل الكثير من الناس". فكان الهدف الرئيسي من إجراء هذه التجارب على حد وصف ستانلي ميلغرام هو "معرفة متى وكيف يتحدى الناس السلطة في مواجهة واجب أخلاقي واضح".
يبدأ ميلغرام في شرح خطوات أداء التجربة، حيث بدأ بطبع إعلان في الصحف وفي قسم علم النفس الاجتماعي بجامعة "ييل" التي يعمل بها ميلغرام بأنه سيتم دفع مبلغ (4 دولارات و50 سنتاً) مقابل الموافقة على إجراء تجارب لدراسة الذاكرة وعلاقتها بالتعلم، وذلك لمدة ساعة واحدة.
بالطبع لم يفصح ميلغرام عن طبيعة الغرض الرئيسي من التجربة لضمان أن تعطي نتائج أكثر فاعلية وثقة، ولا تكون هناك عوامل خارجية مؤثرة على طبيعة النتائج. وقد استجاب ما مجموعه (296 فرداً)، ونظراً لكون هذا الرقم غير كافٍ للتجربة، فقد تم استكمال طريقة التجنيد بطلبٍ مباشر من البريد، وتم اختيار الأسماء من دليل هواتف مدينة "نيوهافن" التي كان يبلغ تعداد سكانها حوالي
300 ألف نسمة، والتي كانت تقع فيها جامعة "ييل" محل التجربة.
كانت استجابة المشاركين في التجربة على النحو التالي: عمال ماهرون وغير ماهرين بنسبة (40%)، وأصحاب الياقات البيضاء والمبيعات والأعمال بنسبة (40%)، والمهنيون بنسبة (20%)، وتقاطعت المهن مع ثلاث فئات عمرية ومتدربين في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات وحتى الخمسينيات مخصصة لكل حالة تجريبية. ويقول ميلغرام: "كان المتدربون النموذجيون هم كتبة البريد ومعلمو المدارس الثانوية والبائعون والمهندسون والعمال، وشملت العينة المتدربين ممن يتراوح تعليمهم من شخص لم يكمل تعليمه الثانوي إلى أولئك الحاصلين على درجة الدكتوراه وشهادات معينة أخرى".
فيما يبدو لك -عزيزي القارئ- أن طبيعة الأشخاص المنضمين إلى التجربة هم أشخاص عاديون من جميع الفئات العمرية والوظائف المختلفة، ولديهم حس أخلاقي وبعد إنساني طبيعي ما. وهم أيضاً في مجتمع ديمقراطي حر وهو المجتمع الأمريكي. ولكن سنرى من خلال التجربة كيف يمكن لهؤلاء الأشخاص العاديين أن يتحولوا إلى مجرمين في حق الغير ويسببوا للآخرين الأذى والألم؟!
يشرح ستانلي خطوات التجربة، حيث تنقسم التجربة إلى شخصين، شخص يقوم بدور المعلم: (وهو الأساس الذي تُبني عليه نتائج وطبيعة التجربة)، وشخص آخر يقوم بدور المتعلم وهو يمثل دور (الضحية). ويتم توزيع الأدواء تحت إشراف المجرب (ستانلي وفريقه البحثي). وهنا يُطلب من الشخص الذي يقوم بدور المعلم أن يطرح على المتعلم بعض الكلمات التي يجب أن يرد عليها المتعلم بمرادفاتها في السياق.
وفي كل إجابة خطأ يتم صعق المتعلم باستخدام مولد الصدمات الكهربائية الذي يتحكم فيه المعلم. ومولد الصدمات هذا تتراوح شدته من 15 فولتاً إلى 450 فولتاً، مقسمة على مؤشر الصدمات، حيث تزداد الشدة بمقدار 15 فولتاً مع كل إجابة خطأ تصدر من المتعلم. ولكن المتعلم هنا لم يكن يتلقى الصدمات بشكل حقيقي، ولكنه كان يمثل بشكل احترافي تلقيه للصدمات وتألمه منها، وهو الشيء الذي اتفق عليه المجرب "ستانلي" مع المتعلم، ولم يكن المعلم بطبيعة الحال يعلم ذلك. وهنا من كان يقوم بدور السلطة هو "ستانلي ميلغرام" وفريقه البحثي، فهم من يوجهون المعلم للاستمرار في التجربة عندما يرد عليهم بأن الشخص الآخر يتألم، هل يجب أن استمر؟ فيكون الرد: يجب عليك الاستمرار، فالتجربة تتطلب ذلك.
وبعدها يستمر في التجربة وإعطاء مزيد من الصدمات نتيجة استجابته لأوامر السلطة. لم يكن "ميلغرام" وفريقه يتوقعون هذه النتائج، فعلى الرغم من أن الكثير من الأشخاص الذين أبدوا رغبةً في العصيان وعدم قدرتهم على إكمال التجربة، إلا أن النسبة الكبرى من الأشخاص، والتي أتت بحوالي (65%) من المتدربين، استجابت للسلطة، وأطاعت أوامرها باستكمال التجربة.
بل زاد البعض في أنهم وصلوا إلى أقصى درجة من توجيه الصدمات للمتعلم. هذه النتائج الصادمة قام "ميلغرام" وفريقه بتحليلها وإجراء مقابلات مع الأشخاص الذين قاموا بدور المعلم، بعد شرح الغرض من التجربة لهم، وأن الشخص الذي كان يتلقى الصدمات لم يكن يتألم حقيقةً، بل كان مدرباً على ذلك. وفي تحليله لردودهم على أسئلته، جاءت معظم الإجابات من مختلف الأشخاص ودرجة تعليمهم أنهم كانوا ينفذون الأوامر، وأن قيامهم بصعق المتعلم إنما جاء لغرض نبيل وهو العلم، بجانب أنهم كانوا يطيعون أوامر السلطة.
لقد حاول معظم الأشخاص نفي المسؤولية الأخلاقية عن أنفسهم وجعلها متوجهةً إلى السلطة التي أصدرت لهم الأوامر. ومن هنا تكمن خطورة الخضوع للسلطة "في أن اختفاء الشعور بالمسؤولية هو أكبر نتيجة للخضوع للسلطة"، على حد قول "ميلغرام".
وفي النهاية لعلك إذا أمعنت النظر في نتيجة تلك التجارب وطبقتها على ما يدور في مجتمعاتنا العربية الحالية ستفهم لماذا لم نخرج من شرنقة الخضوع للسلطة والطاعة العمياء لها بعد، على عكس أوروبا وأمريكا اللتين أدركتا خطورة الخضوع للسلطة، وأنهما دفعتا أثماناً باهظة لذلك الخضوع. فاللهم اجعلني من المتمردين غير الخاضعين للسلطة أياً كانت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.