النكبة تتلوها النكبة، الطامات تتتابع، والطامة الكبرى لم تأتِ بعد.. الدجاجلة كثر، والطواغيت على العروش تربعت، وجذور ظلمها تجذرت، والشعوب المعدومة "هوت تحت خط الفقر المدقع".. ولأن النوائب حرام عليها أن يأتي إلا جمعاً، فقد تكالبت الأمراض ثم الكوارث على الشعوب المكلومة أصلاً، وطفت على السطح من جديد التساؤلات عن العدالة الإلهية، فبأيّ ذنب يقتل الأبرياء؟ أين العدالة في تكالب الضباع على أسد جريح؟ لماذا المعاناة والفساد والاستبداد؟ لماذا يحدث هذا؟ أين الله من كل هذا؟
الشر ليس وليد العولمة الحديثة، بل إن بذرته الأولى غُرست قُبيل ولادة آدم يوم تساءلت الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ومع بداية الثورة الفرنسية، وبزوغ نجم التنوير، ورغم إعدام القساوسة ورجال الدين والسعي المستميت لفتق الرتق بين الدين والسياسة أينعت تلك الشجرة ورسخت جذورها وقسا عودها ونضجت ثمارها.
بفصل السماء عن الأرض في الفكر التنويري سعى الإنسان الأرضي لخلق فردوس دنيوي يحاكي ذلك الذي طرد منه أبوه آدم، نعيم دائم، جنة لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى بمعنى آخر أصبح هناك رغبة عارمة لخلق عالم بلا مكابدة.
انطلاقاً من الرسم الأولي لهذا العالم الأفلاطوني نحت العالم الحديث بعدمية نيتشه، وجبرية كامو، وعبثية سارتر، وأمام هذا الكم من الفلسفة التشاؤمية التي بنت المدينة الفاضلة غابت الغائية، وغرق العالم الغربي رغم التنوير في ظلمة العدمية واللامعنى من الوجود.
لأن الناس خُلقت من نفس واحدة، فإن الأسس النفسية للإنسان هي هي عربياً كان أم أعجمياً، وبذلك طفا على السطح العربي والإسلامي التساؤل نفسه: "لماذا خلق الله الشر؟ لماذا يعذب الله الأبرياء؟ لماذا تتوالى الطامات على المنكوبين أصلاً وتذر الظالمين؟"
تساؤل الشر هذا إنما برز كارتجاج نفسي أساساً، ينبع نتيجة عجز الإنسان العربي عن الموازنة بين الإيمان بالله من جهة، وتقبل هذا الكم الوافر من المصائب والويلات من جانب آخر، واضعةً بذلك غشاوةً على أعين الساخطين تمنعهم من رؤية الحكمة الإلهية.
هل الإسلام يؤكد وجود الشر؟
لما كان الإسلام ديناً متكاملاً واقعياً فلم ينكر الشر، بل أكد على وجوده مع القدرة على فهم الحكمة منه حيناً والعجز عن الفهم أحياناً كثيرة، فالكون ليس شفافاً بالصورة التي تشرح لنا الحكمة من كل ابتلاء.
نتيجة لهذا التصور الواقعي، وسعي الدين الحثيث لتهيئة الخليفة المنشود لعمارة الأرض فقد عمد لبناء الدعامات النفسية للفرد المؤمن، هذه الصمامات التي بنت الشخصية المسلمة وأكسبتها مناعةً تقيه فتنة الابتلاء وتثبت قدمه عند الزلل.
إن كل شعور وسلوك يسبقهما فكرة في عالم الكلمات والمعاني، فقد كان مطلع الدرب في مسيرة الصناعة والإعداد للإنسان "الأمي" تعلم الأبجدية وتسمية الأسماء بمسمياتها، تماماً كما علم آدم أول ما علم الأسماء كلها ثم نسيها خلَفُه لما طال عليهم الأمد، فنسخ مفهوم الشر بمفهوم الابتلاء، وهو اصطلاحاً الامتحان أو الاختبار، ويحتمل الخير والشر لقوله تعالى في سورة الأنبياء: (ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون).
كما قال أبو الهيثم: "البلاء يكون حسناً ويكون سيئاً، وأصله المحنة"، أما الرسول الأكرم ﷺ فقد أكد أن الابتلاء كله خير ما دام قدراً من أقدار الله وجنداً من جنوده، وذلك في الحديث المشهور: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له".
وقوله ﷺ في سياق آخر: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". وبذلك "لن يضيع المؤمن بين حكمة ربه ورحمته" كما شرح ابن تيمية رضي الله عنه ورحمه.
كجناح ذبابة عند الفزع
بعد تبديل البالي من التسميات بجديدها، انطلق الإسلام ليزيل الزينة الزائفة عن العالم الوردي الذي يسوق له السابقون الأولون من الملاحدة و"اللاأدريين"، فعمد لتغيير التصورات المثالية للحياة في ذهن ولد آدم، الحالم بفردوس أرضي لا يعدو أن يكون ظلاً دميماً للأصل، مشدداً على أن الإنسان خُلق في كبد من النفخة الأولى حتى النفخة الأخيرة، وأنه في اختبار ما دام في الجسد نفس، مؤكداً أن الدنيا أطوار لا ثبات فيها، لا الخير فيها دائم ولا الشر وكلاهما زائر لا مقيم.
وقد عبر الكاتب "أيمن العتوم" بعبارة بليغة في روايته "نفر من الجن" بقوله: "ولولا أن الشر خلق لما عرفنا جمال الخير، ولولا أن الخير وجد لما عرفنا قبح الشر، وهما مثل الموت والحياة، لو لم يخلق الموت فأي عقل يمكن أن يفسر معنى الحياة؟".
لقد أظهر الإسلام للإنسان المتأله قصوره، فهو مهما بلغ من اتساع الأفق يبقى هباءة أمام الكون الفسيح، داحضاً بذلك فرضية القدرة على خلق عالم بلا ألم، فالإنسان الحديث رغم ما توصل إليه من علم وعتاد يبقى يرتجف كجناح ذبابة عند الفزع، ولا يزال قلبه يسقط بين قدميه عند الصدمة الكبرى، ولا يزال عاجزاً عن منع الحروب بين أبناء جنسه فكيف به على الكوارث الكونية؟
لقد أكد الله سبحانه وتعالى في مواضع مبثوثة من كتابه أن الخير كله بيده، وأن الإنسان لمحدودية علمه مهما بلغت من امتداد قد يسبب الشر خلال سعيه للخير "ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً".
بين تغيير المسميات والتصورات، قص الله عبر كتابه قصص الأنبياء مبيناً من جهة حجم المعاناة التي لحقت بهم، وكاشفاً أحياناً عما عقب هذه المحَن من منح ولطائف، فقصة يعقوب وتمكين يوسف معروفة، وصبر أيوب على ابتلائه مضرب مثل، وغيرها الكثير، وهذه القصص كانت لتبيان أن الحياة لم تسلم لأحد حتى أصفياء الإله مصداقاً قوله تعالى: {واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصةً واعلموا أن اللهَ شديدُ العقاب} من جهة، وتثبيتاً لقلوب المؤمنين المرتجفة من صروف الدهر من جهة ثانية.
معضلة الشر
لعل أكثر الصور الواضحة التي قدمها القرآن في معرض الحديث عن معضلة الشر هي مشهد النبي موسى -عليه السلام- مع العبد الصالح، حيث تجلى جهل الإنسان بمقتضى الحكمة الإلهية من أمور ظاهرها فيه العذاب وباطنها فيه الرحمة، فموسى الذي طرح مسألة الشر من موقع قوة كما حسب بإنكاره المستمر أمام أفعال العبد الصالح "الشنيعة" ظاهراً سرعان ما أسلم للحكمة الإلهية الرحيمة حين كشفت الأسباب وأزيحت عن الأعين الغشاوة.
إن انطلاق الوحي الإلهي لتغيير المسميات والتصورات انعكس دون ريب إيجاباً على عالم الشعور والسلوك لدى الفرد المؤمن المسلم، فتغيير عالم الأفكار أزال عن العيون اللثام، وأنار البصائر وأنزل السكينة على القلوب، فكانت تسلية للمؤمن فيما يصيبه مترجماً ذلك بصبر على احتمال الشدائد والنوازل.
إن سؤال الشر إذاً ليس بدعةً جديدة، إلا أن الإسلام لم يكن مهتماً لا بتسفيه حجج الباطل وإفحامه عبر البراهين المنطقية والبديهية محطماً بذلك الصخرة الأساسية التي يستند عليها الإلحاد فحسب، بل كان اهتمامه أيضاً ببناء شخصية إنسان سوية، قادرة على الموازنة بين الإيمان بالله عز وجل، والصبر على ابتلائه سواء انكشفت الغاية منه أم لا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.