كثيرون هم المقاومون الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل استقلال المغرب من ربقة الاستعمار، ودفعوا أرواحهم ثمناً لذلك، وإذا كان بعضهم قد حظي بالنصيب الوافر من الكتابة وتسليط الضوء، إما لأن المجال الجغرافي الذي ظهروا به لعب دوراً كبيراً في شهرتهم، أو لأنهم تزعموا مسرح الأحداث، أو لأن مستواهم الثقافي ساعدهم على التعريف بأنفسهم قبل أن يُعرّف بهم غيرهم، أو لانتمائهم إلى عصبيات قبلية قوية، أو لأن الصدفة لعبت دورها في بروزهم، فإن آخرين رغم مساهمتهم الفعالة في المقاومة، بل رغم كونهم شعلتها الأولى، إلا أنهم ظلوا مجهولين ولم ينالوا ما يستحقونه من الإشادة والاهتمام، ومن أبرز هؤلاء نجد لحو وعبد الدايم الزقوري، فمن يكون هذا البطل المغوار؟ وكيف فجر شرارة المقاومة والثورة بتافيلالت؟
الولادة والنشأة
ولد لحو وعبد الدايم الزقوري، الذي يسمى كذلك لحو والمختار أو لحو والغازي، ببلدة أزقور نواحي ألنيف إقليم تنغير جهة درعة تافيلالت جنوب شرق المغرب، أما تاريخ ولادته فيصعب تحديده بدقة، لكنه يرجَّح أن يكون في نهاية القرن التاسع عشر ما دام قد عاصر مبارك التوزنيني المولود حوالي 1873-1874 والمقتول سنة 1919.
ينتمي لحو وعبد الدايم إلى "إملوان" (الحراطين)، الذين شكلوا في فترة من الفترات التاريخية الطبقة الدنيا ضمن هرم المجتمع، ليس في الجنوب الشرقي فحسب، بل في المغرب برمته.
كغيره من أقرانه، وكما تؤكد ذلك الروايات الشفوية المتداولة حوله، فإن لحو وعبد الدايم لم يلج المدرسة يوماً، وحسب الدكتور عبد الله استيتو، الباحث في تاريخ المنطقة، فإن وعبد الدايم اشتغل تاجراً متنقلاً (عطاراً)، يحمل منتجات محلية من منطقة ألنيف إلى تافيلالت (الريصاني)، لذلك نفترض أن يكون من الذين كانوا يقايضون ما تنتجه أراضيهم من حنائها وكمونها وفلفلها بألنيف بالتمر الذي تشتهر به الريصاني، وعادة المقايضة هذه دأب عليها الكثير من سكان المنطقة حتى حدود التسعينات.
مكنت مزاولة لحو للتجارة المتنقلة من معرفة كل صغيرة وكبيرة عن دروب الريصاني والفاعلين فيها، وهو ما سيساعده في وقت لاحق على اغتيال حاكمها الفرنسي المدعو أوستري.
ظهور التوزنيني على مسرح الأحداث بتافيلالت
سنة 1914 قدم إلى جنوب شرق المغرب وتحديداً إلى دادس رجل غريب يدعى مبارك التوزنيني نسبة إلى قرية توزنين بقبيلة أقا في بلاد سوس والمولود حوالي 1873-1874.
كان مبارك التوزنيني هذا، قبل توجهه نحو "بلاد القبلة" أي الجنوب الشرقي، من أتباع زاوية إيليغ، فكان يحدث طلبتها بأنه لا بد أن يأتي يوم يصبح فيه سلطاناً، وقد ساعده على التفكير في تحقيق هذا الحلم، حسب الباحث قاسم الحاذق، مشاركته في حركة أحمد الهيبة سنة 1912، والذي لم يكن هو الآخر غير رجل بسيط ذي مستوى علمي متواضع جداً، ومع ذلك تمكن من تعبئة جموع غفيرة من الناس حوله، فكان قدوة التزونيني الذي لا شك أنه كان يتساءل في قرارة نفسه حالماً: ما دام هذا الغمر قد نجح في حشد هذه الجحافل، فلم لا أنا؟
طموحاته السياسية دفعت به، وعلى عكس ما جرت عليه عادة الصالحين وشيوخ الزوايا الذين يلتزمون الحياد، إلى التدخل في أمور القبيلة، مما دفع بالقيمين على زاوية إيليغ إلى طرده، فتوجه نحو دادس -كما تقدم- سنة 1914، عملاً بنصيحة أحد شيوخه المدعو مولود اليعقوبي، الذي نصحه بأن مشروعه لن ينجح إلا في قبائل القبلة الجاهلة وليس في بلاد سوس.
لما لم يتمكن التوزنيني من الحصول على مراده في حشد الجموع حوله بدادس وتنغير، واصل المسير شرقاً حتى حل بالقرب من ضريح سيدي امحند إفروتنت نواحي ألنيف وهناك سيبدأ بالتخطيط لمشاريعه السياسية المستقبلية.
لم يكن اختيار التوزنيني لضريح سيدي امحند إفروتنت مقراً لإقامته محض صدفة، إنما لما لهذا الضريح من قدسية عند أهالي المنطقة، وخاصة قبيلة أيت إيعزا العطاوية، وهذا ما جعل قبائل أيت عطا، بل وأيت مرغاد وإملوان، تنسى أحقادها وضغائنها السابقة التي سادت بينها لمدة غير يسيرة بسبب الصراع حول الأرض والماء والمراعي، أو لأسباب عرقية، ودفعها إلى الاتحاد لأول مرة -ربما- في تاريخها، والالتفاف حول التوزنيني بسرعة غريبة مؤمنة بمشروعه ومظهرة الاستعداد لتنفيذه وفداء "المهدي المنتظر"، لا سيما أنه لا يتوقف عن الحديث عن الجهاد والمجاهدين والرفع من قيمتهم والتبشير بالنصر المبين.
عندما بدأ بالتيقن من التمكن من نفوس قبائل تلك المنطقة رويداً رويداً، زعم أنه "مهدي الوقت" الذي بعث للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء على الظلم، ولم يتوقف به الأمر عند هذا الحد، بل ادعى أنه سيدي امحند إفروتنت نفسه الذي يُعتقد أنه توفي منذ زمان غير معروف والذي يحظى باحترام واسع من قبل أيت عطا بالخصوص، ويرى قاسم الحاذق أن مما ساعده كذلك على نجاح مشروعه واحتضان دعوته من طرف أيت عطا، تخوفهم من غزو فرنسي مرتقب ومن التهديدات الفرنسية المتواصلة على مجالهم، الذي بدأ يضيق شيئاً فشيئاً أمام الزحف الفرنسي نحو واحات الجنوب الشرقي، وهو ما يفسر استعدادهم لتأييد أي مشروع يرون فيه خلاصاً لهم من خطر فرنسا ولو جاء به الشيطان.
هكذا إذاً، ظهر مبارك التوزنيني المقتول من طرف رفيقه بلقاسم النكادي، على مسرح الأحداث بمنطقة تافيلالت، فاستطاع ولو لفترة قصيرة أن يذيق الويلات لفرنسا -بغض النظر عن أهدافه- وأن يدخل التاريخ من أبوابه الواسعة، كشخصية مؤثرة وفاعلة، نجحت في صنع الكثير من الأحداث الحاسمة والتي غيرت وجه المنطقة آنذاك، ولعل أبرزها حادث اغتيال أوستري سنة 1918 الذي عادل فقدانه فقدان ثلث فرنسا على حد تعبير أحدهم، وبعده معركة البطحاء في نفس السنة، حيث تلقت فيها فرنسا خسائر بشرية ومادية فادحة.
اغتيال الضابط الفرنسي أوستري
كان مبارك التوزنيني الذي لقب نفسه بالسلطان، يعرف أن مشروعه السياسي لن يكتمل إلا بالإقدام على عمل يزيد من شهرته ومن يقين أتباعه بصحة ادعاءاته المتعلقة بتحقيق الخوارق والمعجزات واقتراب البشرى والفرج الذي لا يفوت فرصة للتذكير بدنوه وتخليص الناس من ظلم وجبروت الفرنسيين، فلم يكن هذا العمل سوى التخطيط لاغتيال أعظم وأشد شخصية فرنسية طغياناً في المنطقة حينها، وهو الترجمان أوستري حاكم تافيلالت، ولكن ما السبيل إلى ذلك؟
كان التوزنيني يعلم خطورة ما ينوي القيام به، كما كان يعلم أن أي خطأ يرتكبه سيعصف به وبمشروعه، وربما أدى فشله إلى انقضاض القبائل الملتفة حوله عليه بعد أن تكتشف زيف مزاعمه، لذلك فقد قلب الأمر ذات الشمال وذات اليمين وأحاطه بسرية تامة، إذ لم يخبر -حسب الدكتور استيتو- أحداً بمخططه هذا غير قائد جيوشه وبئر أسراره الذي لم يكن سوى بلقاسم النكادي.
وقبل التفصيل في عملية اغتيال هذا الضابط الفرنسي، حري بنا الحديث عن ظروف قدومه إلى تافيلالت واستقراره بقصر سرغين قرب بلدة تسمى الغرفة نواحي الريصاني.
بعد الهزيمة النكراء التي تعرضت لها المقاومة المسلحة في معركة المعاضيد غير بعيد عن مدينة أرفود سنة 1916، قررت مجموعة من أعيان تافيلالت الارتماء بين أحضان فرنسا والخضوع للسلطة المخزنية، ففي كتابه "دور تافيلالت في تنظيم العلاقات بين المجتمع القبلي والمخزن والمستعمر"، ذكر عبد الله استيتيو أن هذا الخضوع تم بتعليمات صارمة من السلطان مولاي يوسف نفسه، وأن هؤلاء الأعيان اتجهوا صوب بوذنيب لإعلان استسلامهم لليوتنان كولونيل دوري Doury، هذا الأخير قام بدوره برفع تقرير إلى المقيم العام ليوطي سنة 1917 يقترح فيه ضرورة السيطرة على تافيلالت بالطرق السلمية، وذلك بتعيين بعثة عسكرية مكونة من حاكم عسكري من درجة قبطان وطبيب ومترجم مع فرقة عسكرية مكونة من 150 فرداً.
سُر ليوطي بمقترح دوري، فأسرع بدوره إلى مراسلة وزير خارجية فرنسا الذي وافق على تنصيب هذه البعثة المكونة من القبطان نويل والترجمان من الدرجة الرفيعة أوستري والطبيب مادلين، وكان ذلك يوم 3 نوفمبر 1917.
يرجع تاريخ دخول الضابط أوستري بشكل غير رسمي إلى تافيلالت إلى ما قبل 1917 بكثير، ودليلنا على ذلك ما أورده المختار السوسي في كتابه المعسول الجزء 16 عند حديثه عن مبارك التوزونيني من كون أوستري كان جاسوساً لفرنسا بتافيلالت قبل الاحتلال، حيث كان ينقل إليها الأخبار والتقارير المفصلة عن الأوضاع بتافيلالت وحالة المجتمع الفيلالي وحالة الطرق وأهم المحاور التجارية.
لم يكن أوستري، أو لوستري كما هو معروف عند أهالي المنطقة، يتجاوز عقده الثالث، وكان مهتماً بحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية، حتى إنه كان حسب ما جاء عند استيتو يقوم مقام الإمام عند غيابه ويعلم الصبيان القرآن، ويسير في جنائز السكان ويحضر ولائمهم، كما فعل من سبقه ومن جاء بعده من جواسيس فرنسا.
كان أوستري طاغية كبيراً، وكان شديد البأس، حسب وصف المهدي الناصري صاحب مخطوط "نعت الغطريس، الفسيس، هيان بن بيان، المنتمي إلى السوس"، كما اشتهر بتعسفه وبطشه، إذ لم يترك باباً من الإذلال إلا أقحم الناس فيه، حتى إنه -حسب صاحب المعسول- كان يحرق خصومه وهم أحياء، كما حدث ذات مرة عندما أحرق ستة أشخاص بالحطب.
إن جبروت وغطرسة أوستري خاصة بعد تعيينه سنة 1917 ضمن البعثة الفرنسية المكلفة باستتباب الأمن وإخضاع تافيلالت، هي التي جلبت عليه نقمة التوزنيني وجعلته المطلوب الأول لديه ومن اغتياله المدخل نحو تحقيق مشروعه وحلمه بالسلطنة.
بعد التخطيط المحكم والمدروس، جاءت ساعة الحسم، فقرر التوزنيني إرسال من يتكلف بقتل أوستري، حيث وقع الاختيار بادئ الأمر على ثلاثة من "إملوان" (الحراطين)، قبل أن ينسحب اثنان منهم -على ما ذكر عبد الله استيتو- وبقي واحد لم يكن سوى لحو وعبد الدايم، الذي عزم على التضحية بروحه دفاعاً عن الأرض والإنسان أولاً وخدمة لسيده ثانياً، وأملاً في نيل الجنة التي وعده بها إن هو استشهد، أو بمكانة مرموقة لديه إن هو نجا ثالثاً.
ولأن لا شيء كان متروكاً للصدفة والحظ عند التوزنيني، فإن تكليف أشخاص من "إملوان" (الحراطين)، بهذه المهمة الخطرة كان من ورائه عدة أهداف تتمثل، حسب استيتو، في رغبة "سلطان تافيلالت"، كما كان يلقب نفسه، الرفع من معنويات هذه الفئة التي عانت من الاضطهاد والعنصرية وإبراز أهميتها في صنع التاريخ عوض الخماسة والحرث وحراسة قطعان أسيادها البيض، لذا فقد كان "المهدي المنتظر" يمني النفس بالاستفادة من امتعاض "إملوان" مما كانوا يعانونه من احتقار وظلم، واستغلال حماسهم لإظهار تفوقهم، وأنهم أهل ثقة وشجاعة، وإسقاط صفات الدونية والوضاعة اللصيقة بهم عنوة، كما أنه من غير المستبعد أن يكون من بين أهداف التوزنيني من تخصيص إملوان بشرف تنفيذ هذه العملية، بعث رسالة إلى أيت عطا وأيت مرغاد والمرابطين (إكرامن) الموالين له، مفادها أنه بإمكانه الاستغناء عنهم في أي لحظة إن هم لم يخلصوا له الطاعة والولاء، أو حتى ساورتهم أدنى الشكوك بخصوص موثوقيته وصدق ما يزعم، ما دام هناك بديل عنهم وأشجع منهم وهم "إملوان".
مهما تكن أهداف التوزنيني من اختيار لحو وعبد الدايم الزقوري، فإن عملية الاغتيال سبقها إعداد نفسي وبدني وتمارين روحية مكثفة لهذا الرجل الذي نجح في أداء المهمة على أحسن وجه.
قبل التوجه إلى الريصاني لاغتيال أوستري طلب التوزنيني من شخص آخر مرافقة لحو وعبد الدايم لنقل خبر نجاحه في اغتيال الضابط الفرنسي إليه، وذلك حتى ينطلق في الاحتفال وزف البشرى للناس بالنصر الذي وعدهم به، وبخصوص رفيق الزقوري يقول مبارك أشبارو الباحث والمهتم بتاريخ المنطقة إن اسمه يوسف أوزحو المنتمي إلى نفس بلدته أزقور.
عندما دقت ساعة الحسم انطلق وعبد الدايم ورفيقه أوزحو إلى تافيلالت على هيئة عطارين يقودان بغلين محملين بما تنتجه أرض ألنيف من فلفل حار وكمون وحناء وسمن، حتى إذا بلغا الريصاني وتجولا بين قصباتها وقصورها، قصد لحو ومن غير تردد قصبة تيغمرت التي كان يقيم فيها الضابط أوستري وزوجته اليهودية وفي جيبه رسالتان، كان مضمون الأولى -حسب ما تذكر المصادر التي تناولت حادث الاغتيال وكما خطط التوزنيني- حول رغبة واستعداد قبيلة أيت خباش للاستسلام لفرنسا والانضمام إلى صفها، ولم يكن غريباً أن يختار التوزنيني هذه القبيلة مضموناً لرسالته وهو الذي ألححنا على أنه لم يكن يلعب ولم يكن يترك شيئاً للحظ، فقد كان مدركاً لما يفعل، عارفاً لما يريد، لذلك فانتقاؤه لأيت خباش دون غيرها من القبائل، راجع إلى كونها كانت من أشرس قبائل أيت عطا مقاومة للاحتلال الفرنسي وأشد عداء له، لذلك لم يكن غريباً أيضاً أن يطير أوستري فرحاً بما جاء في الرسالة، غير أن فرحته سرعان ما تحولت إلى سخرية هستيرية عندما سلمه وعبد الدايم رسالة ثانية مؤداها أنه جاء لقتله، إذ ما إن وقعت عينه على نية ذلك (الحرطاني الحقير حسب قاموسه) في اغتياله حتى انفجر ضاحكاً مستهزئاً حتى قيل إنه انقلب من على كرسيه، بحسب ما تتداوله الرواية الشفوية التي لا شك أن فيها كثيراً من المبالغة، وفي تلك اللحظة بالذات، انهال عليه لحو وعبد الدايم طعناً حتى أحاله غربالاً بثماني عشرة طعنة، حسب ما ورد عند صاحب "نعت الغطريس"، لم تترك له فرصة للإفلات من الموت المحقق، فخر صريعاً مضرجاً في دمائه يوم 18 يونيو 1918، أما جثته فقد ذكر السوسي في معسوله أنها نُقلت على متن طائرة إلى الجزائر.
وفي سياق الحديث عن عملية اغتيال أوستري الأشبه بعملية انتحارية، فإننا نختلف اختلافاً شاسعاً مع عبد الكريم الفيلالي صاحب كتاب "التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير"، الذي اعتبر أن عملية الاغتيال تلك لم تكن بتلك الخطورة التي حاول التوزنيني أن يرسمها بها، على اعتبار أن الولوج إلى مكتب أوستري لم يكن صعباً، بالنظر إلى كون الأخير لم يكن يتخذ أي احتياطات بخصوص زائريه ولم يكن يتوارى عن الناس، بل كان يتجول كأي شخص عادي ويستقبل الناس بدون أدنى حذر، وهنا نتساءل: حتى ولو كان الأمر كذلك، فهل قتل إنسان في الظروف العادية أمر هين، فما بالك إذا تعلق الأمر بشخصية مرموقة وظروف سمتها الانتظار والتوجس والخوف من فشل مشروع برمته ومن مصير مجهول عند "سلطان تافيلالت" مبارك التوزنيني في حال العودة بخفي حنين؟
استشهاد لحو وعبد الدايم
بعد نجاحه وبطريقة أشبه بما يحدث في الأفلام، في طعن الضابط الفرنسي Ostry، فر لحو وعبد الدايم هارباً وتبعته مجموعة من معاوني أوستري الذين لم يتمكنوا من القضاء عليه إلى بعد أن جرح آخرين منهم.
يقال إن قاتل أوستري كان هو الطبيب مادلين بعد أن أصابه برصاصة أردته قتيلاً، غير أن هذه الرواية تدفعنا إلى طرح العديد من الأسئلة من قبيل: من نقل هذه الأخبار؟ هل كان حاضراً أثناء مقتل لحو وعبد الدايم؟ كيف اتفق وجوده في مكان وزمان القتل؟ كيف تمكن بتلك الدقة وفي تلك الأجواء المشحونة من فرز قاتله بالضبط؟ هل كان الطبيب مادلين طبيباً عسكرياً فأمكنه ذلك من معرفة استعمال السلاح والتسديد بدقة أم أنه طبيب مدني كان يسدد بعشوائية إلى أن أصاب الهدف؟ لماذا لا يكون شخص آخر هو الذي نال من وعبد الدايم؟
المثير أيضاً في استشهاد لحو وعبد الدايم ما ورد في العديد من الكتابات والمصادر بخصوص نطقه الشهادة جهراً لحظات قبيل إصابته، وهنا نتساءل: من كان معه في تلك اللحظة وسمعه ينطق بالشهادة ثم نقل هذا الخبر الذي تعج به الكثير من المظان؟
وكما يثير قاتل لحو وعبد الدايم تلك التساؤلات، فإن دفنه كذلك، إذ أورد الدكتور عبد الله استيتو في كتابه "دور تافيلالت في تنظيم العلاقات بين المجتمع القبلي والمخزن والمستعمر"، أنه بعد استشهاده أُمر بدفنه في خلوة مولاي علي الشريف، ربما تكريماً وتعظيماً له، إلا أن قضية الدفن تطرح إشكالية أخرى؛ لأن الراوي لا يخبرنا عن كيفية سماح فرنسا وإذنها بدفنه وهي التي كانت تسوم المقاومين سوء العذاب وتحرقهم وهم أحياء وتحرق جثثهم بعد قتلهم كما حدث مع جثة المقاوم زايد أوحماد وثلاثة من رفاقه سنة 1936؟ ولا من دفن لحو وعبد الدايم وهل كان له وقت لذلك في ظل تلك الظروف المتسمة بالرعب والترقب والخوف حتى من الاقتراب من جثته فأحرى دفنها؟
لا تتوقف حدود الإثارة في قضية مقتل لحو وعبد الدايم عند هذا الحد، بل تزداد الأمور تعقيداً وتشابكاً عندما نقرأ عند عبد الكريم الفيلالي بناء على رواية رويت له أن الذي يسميه لحو والمختار الزقوري لم يكن سوى قاتل أوستري الذي يطلق عليه اسم "يوسف أزمو"، لكن عبد الكريم الفيلالي يستبعد صحة تلك الرواية، ويعتبر أن قاتل أوستري (يوسف أزمو حسبه) قُتل برصاص حراس أوستري، ومع أن الفيلالي لم يذكر مصدر تلك الرواية المشكوك في صحتها، وحتى إن افترضنا جدلاً أنها صحيحة، فإن ذلك سيدفعنا إلى التساؤل؛ ماذا كان هدف وعبد الدايم من قتل قاتل أوستري؟ هل قتله غيرة أم لادعاء ذلك لنفسه ونيل الحظوة عند التوزنيني؟
إن ما يقطع الشك باليقين حول زيف هذه الرواية أن ناقل خبر مقتل أوستري إلى التوزنيني لم ينل أي منصب سواء كان وعبد الدايم أو غيره، بل ولا نعرف مصيره حتى، ثم هل كان لينجو أحد الرفيقين من انتقام التوزنيني لو ثبت غدره بالآخر مع العلم أن "مهدي تافيلالت" حدد لكل واحد منهما مهمته مسبقاً؛ الأول قتل أوستري والثاني نقل الخبر؟ فهل كانت الجرأة للمكلف بنقل الخبر لعصيان أمر سيده وقلب الأدوار؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.