جهاز حماية مدنية ذو سمعة عالمية، ومنشآت ضخمة مقاومة للزلازل العنيفة، تملك الجزائر الواقعة في الحزام المتوسطي بين أوروبا وإفريقيا ذاكرة زلزالية نشطة عرفت خلالها زلازل متوحشة، أبرزها زلزال البليدة عام 1826، وزلزال وهران 1790 بقوة 7.5 درجة على سلم ريختر، وقبلها زلازل فاقت الدرجة السابعة في العاصمة أعوام 1365 و1716 و1622م، بلغ أحدها 7.8 درجة على سلم ريختر، أي نفس مقياس زلزال تركيا المدمر.
خلّف ذلك الزلزال، حسب ما أثبتته دراسات متخصصة، أكثر من 9000 قتيل من أصل 12.000 نسمة، ويقال إن ذلك الزلزال المدمر دفع سكان القصبة إلى إعادة بناء الدور والأحياء على الطريقة التعاضدية بين جدر المنازل المتكتلة، كأول تقنية طبيعية لمقاومة الهزات بدفاع الكتلة الجماعية للبنايات ضد الارتدادات العنيفة.
وأما في عهد الاستعمار الفرنسي فلم تشيد سوى خمس بنايات بطريقة مضادة للزلازل، بينها قصر الحكومة الحالي ومعهد الحراش الفلاحي، وظل الحال على ذلك إلى وقت متأخر بعد الاستقلال، حيث كان زلزال الأصنام 1980 وزلزال بومرداس 2003 محفزين أساسيين لاتخاذ إجراءات عملية، هي الأهم لمواجهة وتسيير الآثار المدمرة لظاهر طبيعية تبقى على رأس 14 كارثة قصوى لا يمكن التنبؤ بوقوعها أبداً.
1- زلزال الأصنام: فرق إنقاذ بكلاب "الملينوا" ووسادات مضغوطة وكاميرات استشعار حرارية.
في العاشر من شهر أكتوبر 1980 ضرب زلزال عنيف، بقوة 7.2 درجة على سلم ريختر، ولاية الأصنام الجزائرية، وسط البلاد، مخلفاً واحدة من أسوأ الحصائل في تاريخ الجزائر.
قتل 2633 شخصاً وأصيب ما لا يقل عن 7000 جريح بينهم معاقون مدى الحياة، وبقدر ما كان الزلزال متوحشاً بتهديم 80% من المدينة، التي تم تغيير اسمها من الأصنام إلى ولاية الشلف، كانت الهبة التضامنية الدولية كبيرة بزيارة الملكة البريطانية إليزابيث الثانية للمناطق المنكوبة، بيد أن السلطات الجزائرية كانت تستخلص النقائص والأخطاء التقنية وتلك المتعلقة بعمليات التنسيق مع القطاعات الأخرى، لتقرر بعد يوم واحد من تلك المأساة الوطنية، إنشاء نظام الوقاية والتكفل بالكوارث الطبيعية والصناعية، وسرعان ما تدعّم هذا النظام الذي ولد من رحم الزلزال بمراسيم تنفيذية، نصت على بعث فرق إنقاذ خاصة تابعة لمديرية الحماية المدنية، فشهدت تلك الفرق تطوراً مذهلاً بعد سنوات وعقود، درج خلالها أفرادها على تلقي تكوينات عالية الطراز، في الجزائر وفرنسا وإسبانيا، بالإضافة إلى المشاركة في مناورات تدريبية في الجزائر وإيطاليا وغيرها من الدول المتطورة، جعلها قريبة من حيث الجودة من الفرق الأوروبية العتيدة.
تتشكل هيئات الإنقاذ من فرق التعرف والتدخل في المناطق الوعرة وفرق التعرف والتدخل في المناطق الحضرية والفرق السينو تقنية، وهي الفرق التي تستعمل في الغالب كلاباً من سلالة المالينوا، نظراً لرشاقتها وخفتها وحاستها القوية في تحسس الأصوات وشم رائحة البشر العالقين تحت الأنقاض، مثلما حدث مؤخراً في المناطق المنكوبة بشمال سوريا وفي تركيا، كما يستعمل أفراد الإنقاذ الجزائريون كاميرات حرارية استشعارية ودعائم ووسائد هواء مضغوطة لفتح الممرات بين الردوم وتقنيات شبيهة بحسابات مقاومة المعادن لمختلف الضغوط لتأمين عمليات السحب والانتشال بطرق مدروسة وعالية التأمين.
تتحرك هذه الفرق الحائزة على الشارة الدولية بصفة فورية للمناطق المنكوبة في العالم بما أنها تحوز شهادة المطابقة والاعتراف الممنوحة لها من طرف الهيئة الاستشارية الدولية المختصة في البحث والإنقاذ، اعترافاً بقدراتها الدولية والعالمية وخبراتها المكتسبة في كوارث اليونان والمكسيك والنيبال وغيرها من مناطق العالم، وهو ما تكرس فعلياً في زلزالي تركيا وسوريا الأخيرين، حيث احتلت هذه الفرق المرتبة الأولى في عدد عمليات الانتشال الناجحة، بأن أفلحت في إنقاذ 12 شخصاً من تحت الردوم أحياءً، وانتشال 90 قتيلاً في تركيا، فيما تم إنقاذ شخص واحد حياً و34 قتيلاً في سوريا، وطبيعي أن يحظى عناصر الحماية المدنية الجزائرية بإشادات عالمية تكرس الرصيد المكتسب على مدار 42 عاماً، كان آخرها إطراء رئيس المنظمة العالمية للإغاثة، ومقالات عدة في صحف عالمية، بينها جريدة الواشنطن بوست الأمريكية، التي اعتبرتهم أبطال مدينة أديامان، بتحرير طفلين من تحت الأنقاض.
2 – زلزال بومرداس: ميلاد القواعد الملزمة للبناء المضاد للزلازل
لئن تعلمت الجزائر من درس زلزال الأصنام في مجال بناء جهاز متطور وفعال في مجال الإغاثة والإنقاذ وفق المعايير الدولية، فإن البلد سينتظر 42 عاماً ليتبنى قوانين ملزمة إنشاء البنايات والسدود والجسور والعمارات، وحتى المنازل الخاصة وفق تقنيات مقاومة الهزات الأرضية، ولم يتأتّ ذلك سوى على أنقاض تجربة مأساوية أخرى، هي زلزال 21 مايو 2003 الذي ضرب ولاية بومرداس الساحلية قرب الجزائر العاصمة.
خلف زلزال بومرداس أكثر من 2000 قتيل و12.000 جريح، لكن الخسائر العمرانية كانت جسيمة بعدما ألحقت الهزة المصنفة 6.8 على سلم ريختر الضرر بـ100.000 سكن، بينها 10.000 بناية هدمت بالكامل. لقد تلاشت عمارات سكنية عدة مثل طوابق الكارتون في لمح البصر، منها عمارة دي 15 الواقعة في منطقة الرغاية البعيدة عن موقع الهزة بـ60 كلم، مخلفة مقتل 282 شخصاً جراء تغييرات في البناية أقدم فيها صاحب مخبزة على قطع عمود لإدخال فرن إلى محله المعدل.
دفعت الدروس والمعاينات المستنتجة من كارثة بومرداس السلطات الجزائرية إلى تبني ما بات يعرف بـ"القواعد الجزائرية لمقاومة الزلازل"، وهي مجموعة من المعايير التقنية الواجب التقيد بها في جميع البنايات، سواء أكانت عمارات سكنية أم سدوداً أم ملاعب كرة قدم أم مساجد أو موانئ، وهي قواعد ملزمة يحرص على تنفيذها مهندسون مدنيون معتمدون من وزارتي السكن والأشغال العمومية، يحرصون على ضرورة توفر المنشأة على تطبيقات تتعلق بالحساب المقاوم للزلازل، ودراسة الأرضية والجيو تقنية وتثبيت البناية وجدران الدعم، وهي شروط معمارية، يقول عنها يوسف لكحل صاحب مخبر جيوتقني: "لا تسلم رخصة البناء لأية هيئة أو أي شخص ما لم تكن البناية متوفرة على القواعد الجزائرية المضادة للزلازل الواردة في القانون 20-04، وهو قانون برز لاستدراك النقائص المدروسة على خلفية زلزال بومرداس المدمر، حتى لو تعلق الأمر ببناء مسجد تطوعاً، وهو يطبق على الجسور والسدود والعمارات، أما البنايات الفردية الخاصة فصارت تتطلب توفر الخضوع لشروط القواعد الزلزالية بدءاً من 2019، إذ صارت إجبارية بعدما كانت محل توصية".
لكن المشكلة الكبيرة التي يواجهها هذا القانون وهذه القواعد المتشكلة من 30 بنداً متعلقاً بتسيير الكوارث، هي أنه لم يطبق منها غير بندين فقط مثلما يؤكده البروفيسور عبد الكريم شلغوم رئيس نادي المخاطر الكبرى وأبرز الخبراء الجزائريين في الاختصاص، ناهيك عن أن مشكلات من قبيل غياب خارطة زلزالية، تصعب من معرفة الواقع الزلزالي الجديد الموسوم بزلازل متوحشة غير مسبوقة، إذ لا يبدو التشخيص التقني دقيقاً إزاء زلازل ذات شراسة مثلما تبدى في زلزالي تركيا وسوريا المدمرين، خاصة ما تعلق بتصنيف الخارطة الزلزالية التي صنفت البلاد على ثلاث مناطق: منطقة زلزالية أولى شمال البلاد والساحل، تليها منطقة زلزالية ثانية في المناطق الداخلية، ومنطقة زلزالية ثالثة في الجنوب، ما يعني بالضرورة أن البنايات المشيدة وفق القواعد الزلزالية في المنطقة الثانية على سبيل المثال والتي أسست بتوقع زلزال ما بين 5 و6 درجات، ستصبح عديمة المقاومة في حال تجاوز زلزال غير متوقع 7 درجات على سلم ريختر، وهو كفيل بتكسير القاعدة الخرسانية وجدران الدعم المحسوبة بحسابات مقاومة خاصة بالمنطقة الثانية، ذلك أن كل منطقة تتطلب بناءات وفق درجات الزلازل المسجلة في السابق.
وغياب هذه الخارطة الزلزالية الدقيقة الخاصة بكل منطقة وولاية ومدينة وحي وقرية، يجعل من تطبيق تلك القواعد خبط عشواء، باعتبار أن قانون القواعد الزلزالية المعد منذ 20 سنة يعد ممتازاً من الناحية النظرية، لكنه يعاني من مشكلة "عدم تحيين وتحديث المعطيات" الدائرة رحاها حول نوع جديد من الزلازل الشرسة، أو تلك التي تضرب دولاً في العالم كل مئة عام أو كل مئتي سنة.
صحيح أن القواعد الزلزالية الجزائرية أحدثت واقعاً جديداً بفرض إجراءات تقنية وهندسية لكل بناية، مع استبعاد الإنجاز في المناطق القريبة من البؤر النشطة وفي مسارات الشقوق الزلزالية المعروفة ضمن الحزام المتوسطي، فبادرت البلاد إلى تشييد ملاعب حديثة ومطارات وسدود مقاومة للزلازل، ويعد مسجد الجزائر الأعظم ثالث مسجد سعةً بعد الحرمين بقرابة ربع مليون مصلٍّ وبأطول مئذنة في العالم، أحسن تجسيد للتقنيات المضادة للزلازل، بعدما تكفلت الشركة الصينية المنجزة له بتضمينه أحدث الطرق التقنية المجابهة للهزات العنيفة.
3- مشكلة البنايات الهشة وغياب مجلس أعلى لتوقع وإدارة الكوارث
بعيداً عن الترتيبات التقنية التي فرضتها القواعد المضادة للزلازل في الجزائر على كل المباني المنجزة بعد 2004، فإن الحظيرة الوطنية للعمارات والمرافق والهياكل والمنشآت الفنية التي أنشئت خلال الحقبة الاستعمارية وبعد استقلال البلاد قبل صدور تلك التشريعات تطرح مشكلة عويصة، خاصة تلك الموسومة بالبنايات الهشة، فهي معرضة للانهيار والتسبب في كوارث عظيمة بشرياً ومادياً، ما يتطلب إعداد خارطة خاصة بها، ذلك أنها تأوي الملايين من البشر، من أجل تدعيمها هندسياً وحمايتها ضد الزلازل التي ما فتئت تزداد وتيرتها خلال السنوات الماضية، وتبدو هذه النقطة خصراً رخواً في المخططات الجزائرية.
ثمة أمر آخر يتطلب حلولاً سريعة، هي حماية المدن الأثرية القديمة ذات البعد الثقافي والسياحي والحضاري، التي يتجاوز عمرها ألف سنة، سواء بالعاصمة ووهران وغرداية وقسنطينة وتلمسان، ذلك أن زلزالاً لم يدم غير 60 ثانية حطم مساجد وعمائر عمرها ألف عام بغازي عنتاب، وهي خسارة كبيرة، إذ يبدو الزلزال عقاباً بشرياً خاصاً في ظل غياب مخططات الدعم التقني والإسناد التكنولوجي عبر أجهزة قياس "المونيتورينغ" التي توضع في تلك المنشآت لمراقبة التقادم والضعف بغرض الاستباق، وهي تقنية دارجة في سد بني هارون شرقي الجزائر، لكنها في حاجة لتعميم في المرافق الأخرى ذات القيمة التاريخية غير المقدرة بثمن.
وعلى الرغم من ترسانة القوانين التي يحتويها قانون القواعد الزلزالية الجزائري، فإن العيب الأكبر هو غياب مرصد وطني للكوارث العظمى، أو مجلس أعلى لتسيير الكوارث، شبيه بالمجلس الأعلى للأمن وظيفته مساعدة رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية في اتخاذ القرار المناسب في مجال يرتبط بشكل أو بآخر بأمن الشعب والمجتمع والأفراد إزاء ميلاد جيل جديد من الزلازل العظمى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.