عندما أكملت تعليمي المدرسي ونجحت بامتحان "التوجيهي" كما نسميه في الأردن، والذي يؤهلني لإكمال دراستي في الجامعة، صراحة، لم أكن أعلم ماذا سأدرس هناك؟ فمعدلي أهَّلني للحصول على قبول في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة اليرموك التي تقع في مدينة أربد، وسألني والدي الذي رافقني للتسجيل بماذا سأتخصص؟ فأجبته بأني سأقرر ذلك بعد انتهائي من متطلبات الفصل الأول.
للأسف، كنت في منتصف مرحلة الثورة والتمرد على الواقع مثل غيري من المراهقين، وكنت أعاند أبي عندما ينصحني بالاجتهاد في دراستي، وحسب قناعتي آنذاك، اخترت "علم الاقتصاد" لاعتداله، فدراسته لا تحتاج للحفظ ولا تقتصر على تحليل الأرقام والرسوم البيانية.
كنت أحتاج فقط الانتباه للشرح أثناء المحاضرات ودراسة المادة قبل الامتحان مباشرة، لذلك كانت علاماتي عالية دائماً في امتحان بداية الفصل ومنتصفه، ولكن في الامتحان النهائي كانت تنخفض جداً، لأني كنت لا أستطيع تغطية المادة كلها بأيام قليلة قبل موعد الامتحان، لكني تمكنت بعد أربع سنين من الحصول على البكالوريوس في الاقتصاد والأدب الإنجليزي.
اكتشفت أيضاً بعد هذه السنين الجامعية المريرة أن نظرتي للأمور كُلِّية، ولا أحب الخوض في دقائق الأمور، بل أحَّبذ معرفة وفهم مواضيع عديدة مختلفة بنفس الوقت وإيجاد الروابط بينها، لذا كنت دائماً أبحث وأعمل في وظائف في مجال التخطيط والتطوير.
فخلال دراستي الجامعية، تعمقت في دراسة نظام السوق، وبالذات النظام الفيدرالي الأمريكي، وكنت ألاحظ أن الدول الغربية الرأسمالية كانت متطورة وقامت بتحقيق معدلات نمو اقتصادية عالية، وتتمتع مجتمعاتها بالاستقرار والازدهار.
الجانب الآخر يتمثل بالدول الاشتراكية والشيوعية فكانت شعوبها تعاني من الحصار الاقتصادي والعسكري الذي كان يفرضه الاتحاد السوفييتي المسيطر عليها، والذي كان يسمى بالستار الحديدي، وثبت فشل النظام الاقتصادي الاشتراكي الشيوعي، عند انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية عام 1991.
أما دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول العربية، فقد كانت ضائعة بين الأنظمة الاقتصادية المختلفة، واشتركت جميعها في أزمات اقتصادية ذات سمات متشابهة، من حيث ارتفاع معدلات البطالة والاعتماد على القروض الأجنبية، ومعروف عن حكوماتها أنها تتفادى تطبيق حلول طويلة الأمد للأزمات الاقتصادية التي تعاني منها بلادها؛ لأن الإصلاحات الاقتصادية من الممكن أن تطلق غضباً شعبياً عارماً، كما حصل خلال الربيع العربي.
لكن الأمر الذي حيَّرني، عندما قمت بزيارة أمريكا بالتسعينيات من القرن الماضي، وجود جيوب فقر كثيرة في مدن كبيرة مثل شيكاغو ولوس أنجلوس، حتى إنني تعرفت على مشردٍ كهل، كان يأتي للتنقيب في الحاويات الموجودة في الساحة الخلفية لمنزل أخي، وأذكر أنه قال لي بأنه كان ذات يوم موظفاً ويملك منزلاً وفجأة انهارت حياته بعد خسائره المتتالية في صفقاتٍ تجارية جانبية، ثم هجرته زوجته وانتقلت إلى ولايةٍ أخرى لتجد عملاً هناك لإعالة أطفالهما.
الوجه الآخر للرأسمالية
اكتشفت أن للرأسمالية وجهاً آخر يمكن أن يقال عنه إنه قبيح، وأدركت أن مواعظ الكاتبة الأمريكية "آين راند" وتمجيدها للرأسمالية في روايتها "انتفاضة أطلس"، كانت منحازة وبها بعض الالتباس والارتياب، مع أني لا أنكر أن تأثيرها كان عظيماً عليَّ عند قراءتي لهذه الرواية للمرة الأولى في شيكاغو، فهي تدرس في الفصل الأول لطلاب الاقتصاد في معظم الجامعات الأمريكية.
"راند" تُمجد بروايتها في العقل والموضوعية وحقوق الملكية والرأسمالية، وتُصور الحكومات على أنها مجموعة من اللصوص ينهبون ويسرقون من الشركات الخاصة ورجال الأعمال عن طريق سن القوانين التي تفرض على أصحاب رؤوس الأموال "المساكين" الضرائب الضخمة المرهقة.
لذا أدركت مبكراً وقررت في أوائل الثلاثينات من عمري أنِّي سأعمل في مجال له علاقة بالاقتصاد ويفيد المجتمع، وبنفس الوقت يُشعرني بالرضا عن نفسي، وكان ذلك بعد سفري وتنقلي في عدة وظائف.
عملت في مؤسسة حكومية تستهدف الفئات الباحثة عن عمل، بتقديم المساعدة الفنية والقروض الميسرة لهم لإنشاء مشاريع صغيرة خاصة بهم، وقمت بالاشتراك في مسوحات عديدة لتحديد الاحتياجات التدريبية والإقراضية للفئات المستهدفة في جميع محافظات المملكة.
"لو كان الفقر رجلاً لقتلته"
أذكر زيارتي لعائلة فقيرة كانت تسكن في أحد التجمعات السكانية المبعثرة في الصحراء الشرقية للأردن، في أوائل الألفية الثالثة، وصدمتي حين دخلت خيمة صغيرة كان يسكن فيه الزوج العاطل عن العمل والذي يتجاوز عمره السبعين، والزوجة التي من الممكن أنها كانت تصغره بخمسين عاماً، وثلاثة أطفال أعمارهم لا تتجاوز الخامسة.
حيث اغرورقت عيناي بالدموع عند رؤيتي لذلك المشهد، وارتبكت، ولكني تداركت نفسي بسرعة، وأكملت تعبئة الاستبيان، وتبين لي أنهم لا يملكون قوت يومهم، وعند رجوعي لمكتبي، تحيرت عند كتابتي لتقرير الزيارة، ولكن توصيتي في النهاية كانت بتحويل ملف العائلة لصندوق المعونة الوطنية؛ لأن الوالدين غير مؤهلين لتحمل عبء قرض مالي لإنشاء مشروع صغير.
للأسف، شعرت بأني لم أنجح في المساهمة في تخفيف نسبة الفقر والبطالة في بلدي بعد أكثر من عشرين سنة في مكافحة هاتين الآفتين، وللآن هذا الأمر يؤرقني كثيراً، ويؤلمني بنفس الوقت، واستوعبت أخيراً السبب الذي أدى إلى قول أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" لعبارته الشهيرة "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".
قرأت صدفة في بداية عام 2022 مقالاً للاقتصادية البريطانية "كايت رايورث" وكتابها اقتصاد الدونات، والذي قامت بنشره في عام 2017.
نظريتها مبنيَّة على أن التفكير الاقتصادي الذي كان سائداً في القرن العشرين غير مناسب للتعامل مع واقعنا في القرن الحادي والعشرين، وخاصةً بعد انتشار مرض كوفيد 19، والكوكب يتأرجح على حافة الانهيار المناخي.
تقول: بدلاً من ربط نجاح المجتمعات الإنسانية بارتفاع الناتج المحلي الإجمالي، يجب أن يكون هدفنا جعل جميع أشكال الحياة البشرية تتكيف لتعيش فيما تسميه "رايورث"، "البقعة الحلوة"، والتي تقع بين "الأساس الاجتماعي"، حيث يتمتع كل فرد بما يحتاجه ليعيش حياة كريمة، و"السقف البيئي"، الذي يمثل ما يحتاجه كوكب الأرض ويحميه من التلوث والتغيرات المناخية.
بشكل عام يعيش الناس في البلدان الغنية فوق السقف البيئي، وغالباً ما تقع الشعوب الفقيرة أسفل الأساس الاجتماعي، والمساحة ما بين الاثنين هي "الدونات".
اقتصاد "الدونات"
كانت مدينة أمستردام، عاصمة هولندا، أول مدينة في العالم تتبنى نموذج "اقتصاد الدونات"، وذلك بإطلاق مبادرة "السعر الحقيقي" والتي تتمثل بفرض ضرائب إضافية على أسعار السلع لتغطية تكاليف البصمة الكربونية واستهلاك الأراضي الزراعية وأجور العمال المنصفة، هذه المبادرة واحدة من عشرات المبادرات الخاصة بـ"اقتصاد الدونات" والتي تقوم به بلدية أمستردام بتطبيقها منذ عام 2020.
الجدير بالذكر أن مولد "الرأسمالية" كان بنفس المدينة في عام 1602، عندما بدأ تاجر هولندي ببيع أسهم شركته التي تدعى "الهند الشرقية الهولندية"، وبذلك مهَّد الطريق لتأسيس أول بورصة في العالم، وبالتالي النظام الرأسمالي العالمي والذي غيَّر الحياة بشكل جذري على كوكب الأرض.
اتبعت بلدية أمستردام آلية جديدة لتبني اقتصاد الدونات، فتقدمت في عام 2019 بطلب للاقتصادية "رايورث" لإعداد تقرير توضح فيه مدى بُعْد أمستردام عن العيش داخل الدونات، وبالاعتماد على نتائج ذلك التقرير، حيث بدأت بتنفيذ استراتيجية دائرية تجمع ما بين أهداف اقتصاد الدونات والاقتصاد التدويري الذي يهدف إلى إبقاء المواد الخام في حلقة مغلقة.
هذه الاستراتيجية تستخدم الموارد إلى أقصى حد، نتيجةً لذلك تقل الحاجة إلى موارد جديدة، ويتم تجنب النفايات وزيادة دورة حياة المنتجات، وباختصار تصبح نفايات اليوم مادة أولية للغد، كما هو الحال في الطبيعة، وليس كما يحصل عند تطبيق الأنظمة الاقتصادية الخطية الحالية، حيث يتم تصنيع المنتجات واستخدامها والتخلص منها.
تقول فان "دورنينك"، نائبة رئيس بلدية أمستردام حينها إن الدونات كانت بمثابة الوحي لها فتقول: "نشأت في زمن تاتشر وريغان، على فكرة أنه لا يوجد بديل لنموذجنا الاقتصادي، بعد تعرفي على اقتصاد الدونات أصبح لدي تصنيف آخر لعلم الاقتصاد فهو علم اجتماعي، وليس علماً طبيعياً، لقد ابتكره الناس ويمكن تغييره من قبل الناس".
قامت بلدية أمستردام بتطبيق نظرية الدونات على مشروعات عدة، من أهمها، مشروع "جزيرة شاطئ سترانديلاند"، ويقع هذا المشروع على ارتفاع 15 قدماً فوق مياه بحيرة "آسيل" الهولندية، حيث تم بناؤه باستخدام الرمال التي تحملها القوارب التي تعمل بوقود منخفض الانبعاثات، تم وضع الأساسات باستخدام طرق حديثة في البناء لا تضر بالحياة البرية المحلية أو تعرض السكان في المستقبل لارتفاع مستوى سطح البحر، حيث تم تصميم أحيائها لإنتاج انبعاثات كربونية صفرية، وتم إعطاء الأولوية للإسكانات الاجتماعية لذوي الدخل المحدود، والتي تتيح لهم مستقبلاً الوصول إلى الطبيعة.
لا شك أن الفلسفة التي وضعها "آدم سميث" في كتابه "ثروة الأمم" في عام 1776، أرست قواعد علم الاقتصاد الكلاسيكي، وأدت إلى حدوث أكبر وأسرع طفرة اقتصادية وتكنولوجية شهدها التاريخ، وساهمت في دفع عجلة التنمية في العالم أجمع.
لكن ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة تغيرات واحتياجات كثيرة لم نتخيلها من قبل، وبدأت الحكومات تهتم بالاستدامة والتركيز على المسؤولية المجتمعية التي تقع على عاتق مجتمع الأعمال والشركات الخاصة، لذلك هناك حاجة ملحة إلى إعادة النظر وتغيير المبادئ والنظريات الاقتصادية السائدة، ولقد حان الوقت لاستكشاف نظريات وحلول اقتصادية جديدة، لمواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية في القرن الحادي والعشرين.
آن الأوان لنتخلى عن المصالح الفردية والهادفة لتحقيق مستويات أعلى من الدخل والرفاهية، والانتقال إلى تطبيقات اقتصادية لا تتنافى مع الطبيعة الإنسانية وتكون جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات العالمية لتحقيق المصلحة العامة.
لا بد من إيجاد آليات تضمن توزيع الثروات بشكل عادل، وكما تؤكد "رايورث"، لن يتحقق هذا الأمر إلا بقرارات سياسية تضمن إعادة صياغة التشريعات المختلفة وقوانين الضرائب بما يضمن القضاء على الفقر والبطالة، فترك الأمور على حالها لا يؤدي إلا لاتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وللأسف هذا هو واقعنا الحالي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.