لا يمكنك أن ترى السياسة في العراق كمواطن متساوي الحقوق مع غيره عندما لا تملك خلفية حزبية، لها جناح مسلح، وعشائري، واقتصادي. أما إن كنت على علاقة مع هذا أو ذاك من الأحزاب السياسية العراقية، فأمورك بخير.
الانتماء السياسي الحزبي أصبح ضرورياً لأي مواطن عراقي اليوم. فهو المفتاح الذي به تستطيع أن تفتح أي مؤسسة حكومية لك بها حاجة، وفاتورة تريد أن تدفعها.
والميدان الذي سوف أخوض في أمواج أوحاله المتلاطمة هو رياضة كرة القدم، التي تعد الرياضة رقم واحد في العراق. ورغم كونها الرياضة رقم واحد بالعراق، إلا أنها تعاني إلى هذا اليوم من تردي وفساد مستشرٍ في جميع مفاصلها. وطبعاً هي حالها حال أخواتها وإخوانها، ولا يجب التمييز بينها وبين البقية التي تحولت للقمة سائغة لنفوذ الأحزاب السياسية.
فهي بنظر صانع القرار السياسي لا تعدو إلا أن تكون ريعاً انتخابياً يُلجأ لها عند اقتراب الفصل الانتخابي بشقيه النيابي، ومجالس المحافظات التي توقف العمل بها منذ سنة 2013. وهذا ما يفسر الاحتفاء بالمنتخب العراقي من قبل أغلب الطيف السياسي العراقي.
كما أن اللاعب الرياضي، وغيره ممن يعملون أو يمتهنون تقديم الخدمات في المؤسسات الرياضية. ينتفعون من واقع الانتماء السياسي في توفير الحماية الإدارية، والمال، والنفوذ الرياضي، ويكسب في المقابل جمهوراً غالبيته من الشبان الذين يفتقدون لوعي سياسي صحي.
الواقع الرياضي لكرة القدم ابتداءً من الفرق الشعبية، وانتهاءً بالمنتخب الوطني، والذي يعتبر أعلى مراتب الطموح لأي لاعب هاوٍ ويريد أن يحترف.
ثم إن هذه المرتبة وعملية التسلق إليها لا تحتاج لياقة بدنية، ومهارة عالية، مثل لياقة تبديل الجلود، وتغيير الموقف السياسي من حين إلى آخر. كُثر هم اللاعبون والمدربون المعروفون، وبعضهم نجوم في عالم كرة القدم، ينخرطون في هكذا علاقات. ومحمد كاصد، حارس مرمى المنتخب العراقي الوطني السابق واحد من هؤلاء، فعائلة كاصد توالي مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، وشقيق كاصد الأكبر "شهيدٌ" ضمن "جيش المهدي"، الجناح المسلح للتيار.
في إحدى مباريات فريقه الأسبق، الزوراء، خلع محمد قميصه لتظهر على القميص الداخلي صورة الصدر. وعلى الرغم من أنها كانت مخالفة لقوانين الرياضة التي تمنع "الإجهار السياسي" داخل الملاعب، غير أن اتحاد الكرة لم يتخذ أي إجراء أو عقوبة بحقه.
أما على الجانب الآخر تتقاسم الميليشيات وأحزابها جزءاً من هذه الصنعة، خوفاً من الملاحقة العشائرية، أو من جانب الأحزاب والفصائل، طلبوا إخفاء أسمائهم.
ذكر أحدهم، وهو يدرب فريقاً ينشط في الدوري الممتاز، إن مدربين زملاء له يرغبون في تسلم قيادة فرق، "ولا يزعجهم فرض بعض الأسماء عليهم، سواء من قبل إدارات الأندية أم الجماهير". هذا يخلق شبكة متداخلة من الأحزاب السياسية وإدارات الأندية واللاعبين. المدربون بدورهم تربطهم علاقات تصل حتى إلى الجمهور.
في مؤتمر انتخابي سابق لائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، ألقى مدرب المنتخب الوطني الأسبق، حكيم شاكر، كلمة ملؤها المديح والثناء، قال فيها: "إن العراق والمالكي لا يتفرقان"، وإن الأخير "يجب أن يبقى رئيساً للوزراء".
ومع أفول نجم نوري المالكي بعد سيطرة تنظيم الدولة "داعش" على ثلث مساحة العراق في 2014، وقضت الأحداث والاتفاقات السياسية بخروجه من رئاسة الوزراء. وفي المقابل، صعدت أسهم التيار الصدري، فأصبح حكيم شاكر مقرباً منه وعُيّن العام الجاري مستشاراً رياضياً لنائب رئيس البرلمان حاكم الزاملي، القيادي في التيار.
وفي أحد قرارات اتحاد الكرة قرر حرمان جماهير ناديي القوة الجوية والزوراء من حضور المباريات بعدما أطلقوا هتافات سياسية ضد المالكي ورددوا شعار خصومه الصدريين المعروف: "إيران برا برا.. بغداد تبقى حرة". غير أن العقوبة لم تنفذ، وسمح لهم بحضور المباراة اللاحقة.
ليس الانتماء السياسي للرياضيين يقتصر على الأحزاب والفصائل الشيعية فقط، فالقوى السُنيّة لها باع في هذا الأمر أيضاً. كما هو باعها في الاحتراب فيما بينها على المناصب الوزارية وما دونها. فنشبت حرب واشتباكات لفظية علنية على منصب وزير الشباب والرياضة بين حزب "الحل" بزعامة جمال الكربولي، ورئيس حزب "تقدم" محمد الحلبوسي، حالما خرج المنصب من عهدة الأحزاب الشيعية، ولم يتوقف هذا النزاع إلا بفوز الكربوليان، جمال وشقيقه محمد، على الكرسي، وأجلسا عليه قريبهما أحمد العبيدي.
لنحو 60 عاماً استضاف الملعب بطولات على مستوى العراق، فقد استضاف مباريات من بطولة الدوري العراقي الممتاز، وبطولة كأس العراق لكرة القدم، كما استضاف بطولة كأس فلسطين التي شاركت فيها فلسطين والسعودية والكويت. فما كان من وزارة الشباب والرياضة، في نيسان 2016، سوى أن تحيل ملعب نادي الثورة الرياضي إلى الاستثمار، على الرغم من أن أرضه غير عائدة لها، لتحويل واحد من أقدم الملاعب في كركوك والعراق إلى مركز تسوق "مول"، وبعد توقيعها العقد مع وزارة الشباب والرياضة وهيئة الاستثمار الوطنية، ملعب وطئت أرضه أشهر نجوم العراق بكرة القدم، منهم فلاح حسن وحسين سعيد والراحل أحمد راضي وناظم شاكر وسهيل صابر وغيرهم.
ومن لاعبي كرة السلة مجيد عبد الحميد وعبد الوهاب الساعدي (قائد جهاز مكافحة الإرهاب حالياً)، حيث مثل منتخب سلة نادي الثورة عام 1991. كما يعد الملعب قلعة لإعداد الأبطال في رياضة المصارعة، منذ المؤسس الراحل مهدي وحيد.
إن قصة الفساد الرياضي إلى هنا سوف لن تنتهي، لأن قصة الفساد هي جزء صغير يرتبط بشكل وثيق بالصورة الأكبر للفساد في العراق. صورة أجزم أنها ليست لها وجود إلا في العراق. ولأنه يمتلك من الثروات الطبيعية، والطاقة البشرية التي هي على أهبة الاستعداد، لتغيير واقع هذا البلد، والنهوض به لمصاف دول العالم الأول لو توفرت الفرصة لهذه الطاقات الشبابية، وخارطة فكرية توجه بوصلتها في تسلم زمام المبادرة. إلا أن المتربعين على سدة السلطة واحتكارهم، وأبنائهم، والدوائر المقربة منهم، صناعة القرار، وتقرير مصير البلد والعباد بما يتناسب مع مصالحهم الفئوية الضيقة، والأنانية تقف شاخصة وبكل قوة ممانعة لأي عملية استئصال لجذور الفساد.يصنَّفُ العراق في مؤشر مدركات الفساد العالمي ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث احتلّ المرتبة 157 في التقرير الصادر عن منظّمة الشفافية الدولية عام 2021. الفساد في العراق يعكس صراعاً على تقاسم الاقتصاد الريعي بين الفرقاء السياسيين وقوى السلطة والنفوذ، وبهذا أصبح عبارةً عن شبكات عنكبوتية، فهو لا يقف عند حدود شخصيات ذات مناصب عليا في الدولة، وإنما يمتدّ ليشمل مافيات سياسية، وشخصيات خارجة عن التوصيف السياسي والطبقات الاجتماعية، تعمل على وفق علاقات شخصية مع شخصيات حكومية أو حزبية متنفّذه، أو أنها تعمل بعناوين "مكاتب اقتصادية" تابعة لأحزاب سياسية أو ميليشيات مسلّحة. وتصف ممثلة بعثة الأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت، الفساد في العراق بأنه "سبب جذري رئيسي للاختلال الوظيفي في العراق، وبصراحة، لا يمكن لزعيم أن يدعي أنه محصن منه".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.