الأمل.. كلمة صادقةٌ وماكرة على السواء، ولكننا وعلى رأي محمود درويش محكومون بها.
الأمل الذي حملناه معنا إلى ساحات الحرية في 2011، وجعلناه يتغلب علينا بأنَّ التغيير قدرنا، هو نفسه الأمل الذي ما فتئ يُغتالُ منذ تلك اللحظة حتى هذه الليلة، مع كلِّ أنَّةٍ من معتقل، صرخة من مصاب، نفحة من برد تغتالُ ما بقي منه كل شتاء في مخيمات لجوئنا اللامنتهية، في خيامنا الواقفة في العراء، وتحتها الجياع، تحتها الجياع المحكومون بالأمل.
أملُ أنْ تُهدمَ الخيمة، وتتدفأُ جدران المنازل بأنفاس أهلها، ويرى بقيتنا النور خارج قضبان العتمة، وأن نجتمع، كلنا، كلنا نحنُ مَن أنهكنا تعب العقدِ كله، ونحيا عليه مجدداً.
قد تتعجَّبُ -عزيزي- كيف أتحدَّثُ عن الأمل في أيام الموت هذه، وقد اهتزت إنسانية كل صاحب ضميرٍ للمشاهد الخارجة من مناطق الزلزال المنكوبة.
على مدار اثني عشر عاماً تقريباً تنقَّل المشهد السوري بين صورٍ شتى، ولعلَّ مشهد الأيام الأخيرة كان بين ثلاث صور:
الأولى: للطفل الذي يلتهم موزته بعد ساعات طويلةٍ تحت الرماد.
والثانية: للجميلة التي تضع يدها بما مكنَّها الله من قوة فوق رأس أخيها لتحميه من السقف المنهار فوق كليهما.
والثالثة: للموت.. للجثث وللضحايا.
أمَّا وقد تمكَّن الموت منَّا كما في كل مرةٍ، فقد اخترت أن أرى الأمل.
في كل مرةٍ يُخرِج المنقذون أشخاصاً أحياء من تحت الأنقاض، ترتفع التكبيرات بين الحاضرين، ولا يمكنك إلا أن ترى دموع المنقذين من فرق الدفاع المدني الذين أنهكتهم الأيام الأخيرة، ثمَّ ترى الخارجين بابتساماتهم، بصمودهم، بقوتهم.. أيّ قوة هذه التي يملكها هؤلاء الذين بقوا لأيام تحت الأنقاض، ثم خرجوا ليسألوا عن بقيتهم؟! أي قوة تملكها هذه الصغيرة التي ظنت أنها بيدها الصغيرة ستحمي رأس أخيها من السقف المنكبّ فوقهما؟ إنَّه الأمل، نعم يا عزيزي، إنه الأمل.. ولكنَّه أمل من نوع آخر -إذا صح التعبير- أملٌ محكومٌ بالإرادة، إرادة الحياة.
فإذا كان هؤلاء الذين كتم الرّدم أصواتهم وأنفاسهم، قد بقوا بهذه الإرادة وهذا الأمل، فكيف لأحدنا أن يفقده؟
لا شكَّ أن كلاً منّا قد نابه اليأس مراراً وتكراراً، ولكن الوقت اليوم هو وقتٌ للعمل، وقت ليسابق أحدنا الزمان أياً كان مكانه وأياً كانت قدرته، أن يبحث عن دوره ومهمته ليخفف من وطأة هذه الكارثة بأيِّ شيءٍ يمكنه فعله.
على مدار اثني عشرة عاماً لم يكن للسوريِّ سوى أخيه السوري، السوري الحر الذي عانى وتعب وقاسى، وعرفَ معنى الشدة، ولأيام طويلة الآن لم تصل للسوريين سوى مساعدات السوريين في الداخل، الأيادي التي ترفع الأنقاض هي أيادي السوريين وحدها، والدموع التي انسكبت هي دموعنا نحن، نحن الذين تركنا وحيدين مع أقدارنا.
ولكنني على يقين أننا قادرون على النهوض من الرماد، كما كنا دائماً، وكما سنبقى، فليأخذ أحدنا بيد الآخر، وليبادر بما تيسر له من التبرعات والمساعدات، وخصوصاً ممن هم في الخارج، فأولئك الذين تحت الردم هم بقيتنا، فلنمسح عن الناجين منهم غُبار التعب.
الرحمة لشهدائنا، والمجدُ كل المجدِ لأولئك الذين وصلوا ليلهم بنهارهم حتى يُنقذوا مَن تسعفه أنفاسه حتى هذه اللحظة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.