لا يسع المرء وهو يرى الخراب الذي خلّفه الزلزال الذي ضرب جنوب غرب تركيا وشمال غرب سوريا، إلا أن يأسى لأرواح من استُشهدوا ، وأن ينحني إجلالاً لفِرق الإنقاذ، ويُحيّي كلَّ من أبدى التضامن في المنتظم الدولي.
يشعر المرء بالعجز وهو يرى صور الأنقاض، ويُمزقه الأسى وهو يرى صور الموتورين ممن فقدوا قريباً، أو أقارب، ويستشعر التقدير والإعجاب بفِرق الإنقاذ والمتطوعين الذين يبذلون قصارى الجهود لإنقاذ من يمكن إنقاذه حين كان يمكن الإنقاذ، ويزيحون الركام من الأنقاض، ويساعدون المنكوبين. يفعلون ذلك رغم البرد الشديد وظروف العمل الصعبة، في استماتة وتضحية تفرض الاحترام.
الاعتبارات الإنسانية، ولا شيء غيرها ينبغي أن يسمو، وبالأخص في الحالة السورية، بعد الذي عانته سوريا من دمار، وفراغ السلطة، وعجزها، والحصار المضروب على البلد. الشعب السوري يسمو على كل الاعتبارات، وهو من يتوجب مواساته، وتضميد جراحه في هذا الظرف العصيب.
ويمكن أن نأمل، بعد ذلك، استحضار ما تُذكرنا الطبيعة إياه، وهي أنها لا تعترف بالحدود التي تُفرّق بين الدول، وأن بين الجماعات المتاخمة للحدود أواصرَ لا ينبغي أن تُصرم. ولذلك تتوجب رؤية جديدة في العلاقة بين تركيا وسوريا. وقد يخفف من أثر الفاجعة انبعاث رؤية جديدة في العلاقة بين البلدين تتجاوز الحدود المرسومة على الخريطة، وتستشرف سبل التعاون بينهما، بل مع دول الجوار، ومنها التعاون حول شرايين المياه التي تربط ما بين تركيا والعراق وسوريا.
سيكون أثر الزلزال على شعب سوريا أشد وطأة إن تُرك لحاله بعد الذي بُلي به من دمار، وتقتيل، وتهجير، وحرمان.. العزاء الوحيد الذي قد يخفف من الكارثة، بعد الابتلاء الشديد الذي عاناه الشعب السوري، هو هبّة من لدن المنتظم الدولي، والدول الشقيقة، والجوار، لإعمار سوريا وتضميد جراح الشعب السوري.
يعلمنا التاريخ أن بعض الزلازل غيّرت مسار التاريخ، زلزال لشبونة في القرن الثامن عشر كان لحظةً فارقة في مسار البشرية. رأت بعض الاتجاهات في الزلزال عقاباً إلهياً، وهو ما انتصب له مفكرون أحرار ليدحضوا مزاعم من قالوا بذلك، ما أعطى شحنة للفكر الحر، وما ألهم فولتير بقصيدة تضمنت روح التسامح.
في 1979، ضرب الزلزال غرب الجزائر في مدينة الأصنام، والتي أضحت تسمى بعدها شلف (وهي كلمة أمازيغية تعني المكسو بالثلج)، وعبّر المغاربة عن تضامنهم مع إخوتهم في الجزائر، رغم الجفاء بين البلدين، وصادف ذلك عيد الأضحى، وتبرع المغاربة بعائدات جلود الأضاحي، وبدّد ذلك جليد الجفاء بين البلدين.
وقَبله ضرب زلزال مدينة أكادير المغربية سنة1961، وعبّرت الدول العربية والإسلامية عن تضامنها، وتضمنت برامج التعليم في العالم العربي في الكتب المدرسية فاجعة أكادير، وتضمنت الكتب المدرسية في المغرب قصيدة لشاعر من سوريا، عن زلزال أكادير، ما يذكّر باللُّحمة التي كانت تربط العالم العربي، وتهلهلت بعدها حتى لَيكاد المرء يشك بأنها وُجدت من قبل.
ونأمل أن تسود رؤية مغايرة للعلاقات الدولية بعد الزلزال، وسبل مواجهة الكوارث الطبيعية.
ولا يمكن نسيان أو تناسي "حرية التعبير"، التي أبدتها مجلة شارلي إيبدو بالتشفي بأرواح من قضوا تحت الأنقاض. زعمت المجلة السيئة الذِّكر، أن الزلزال والخراب الذي خلّفه، يُعفي من إرسال الدبابات.. تكشف الصورة الكاريكاتيرية التي حملتها المجلة عن المخبوء في تصورات بعض الشرائح الغربية، ما يُتستر عنه، أو يتم الدفاع عنه باسم "حرية التعبير". لا يمكن تجاهل الصمت المطبق الذي ساد فرنسا إثر الكاريكاتير الشنيع. لم يصدر بيان من لدن الهيئات المهنية أو لجان الأخلاق أو المسؤولين، مثلما فعلوا في أحداث سابقة أقل أهمية، وفي سياق غير سياق فاجعة لدولتين.. ولئن ارتأت السلطات الفرنسية أن ترفع الصور الكاريكاتيرية المسيئة لرموز الإسلام التي تضمنتها المجلة المذكورة، رداً على مقتل صامويل باتي، فلا ينبغي للسلطات التركية أن تصمت على هذا الاستهتار بحق الإنسان في الحياة والإزدراء بكرامة الإنسان، ما قامت به مجلة شارلي إيبدو، في سياق فاجعة كبرى، جَراءَة المجلة في الإساءة تستوجب تفسيراً رسمياً، مثلما ينبغي فضح هذا الزيغ المهني والأخلاقي على مستوى المنتظم الأممي.
وحريٌّ بمن يتشفّون- ممن نشاطرهم العقيدة واللسان- بمن قضوا في الزلزال، أن يلتزموا الصمت إن أعجزهم أن يواسوا المكلومين، أو يقدموا الدعم للمنكوبين. ولا ينبغي الصمت على هؤلاء، فبالأحرى الترويج لترهاتهم على منابر الخطابة. يا للحسرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.