24 ساعة بالمدينة المنكوبة.. هنا كهرمان مرعش؛ حيث يتضامن الجميع لإنقاذ ما تبقى

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/13 الساعة 12:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/13 الساعة 12:26 بتوقيت غرينتش
ضحايا من أمام الركام بعد الزلزال المدمر - خاص لعربي بوست

على إثر الصدمة بعد ساعات بسيطة من لحظات زلزال تركيا وسوريا العنيف حاولت سريعاً الالتحاق بالمتطوعين في إدارة الكوارث والطوارئ التركية "أفاد" بعد الإعلان عن الحاجة لمتطوعين، وليومين متتاليين فشلت في الالتحاق والذهاب للمناطق المنكوبة.

في اليوم الثالث، تحركت إلى مطار صبيحة لاتخاذ طائرة إلى ولاية أضنة ومن ثم أتحرك من هناك إلى كهرمان مرعش مركز الزلزال.

وصلت الطائرة مدينة "أضنة" بعد ساعة تقريباً، في المطار كان هناك العديد من الطائرات العسكرية التي أحضرت مساعدات عاجلة منها المكسيكية والإماراتية والإيرانية والسعودية، تحدثت مع فريق من المنقذين البريطانيين كانوا على متن الطائرة وأخبروني أنهم متوجهون إلى كهرمان مرعش للإنقاذ وهم في انتظار سيارة صديق ليقلهم للمكان.

تحركت أنا لأتخذ سيارة من محطة الباصات، ولحُسن الحظ كانت متوقفة إحدى السيارات المتجهة لمرعش بعد دقائق، تحركت مع السيارة وبعد ساعة تقريباً بدأت ملامح الخراب تظهر على جانبي الطريق، وخيم مؤسسة أفاد في كل مكان في القرى على الطريق والمنازل كلها تقريباً مُهدمة أو على وشك السقوط.

الأشجار في الجبال مائلة باتجاه الجنوب في مشهد قاسٍ والمئات منها خُلع تماماً من جذوره، كانت الأشجار المائلة تشير للجميع باتجاه الكارثة تماماً.

ورغم المشاهد الكثيرة التي تابعتها على مواقع التواصل وتلك التي أشاهدها على الطرق إلى مرعش لم أكن أعرف حجم الصدمة التي سأتلقاها لحظة دخولي مدينة كهرمان مرعش.

خاص لموقع عربي بوست

الساعات الأولى

حينما نزلت في محطة الباصات كانت بوادر الكارثة جَلية لا تحتاج إلى شرح، تحولت محطة الباصات لملجأ سريع لضحايا الزلزال في المدينة، كثير من الملابس وبقايا الطعام على الأرض في كل مكان ما يوحي بفوضى عارمة وسريعة قد حدثت هنا، عائلات تتخذ من مقاعد البلدية في المحطة مأوى وأطفال جالسون في صمت وآخرون يركضون في الفراغ بلا هدف حول صفائح النار التي يتخذها المتضررون للتدفئة بوضع الحطب بها والكرتون.

في الخارج كانت الصدمة تتسرب إليّ سريعاً، كل الفواصل الخضراء بين الطرقات مكدسة بعائلات تجلس في العراء حول نار التدفئة، سيارات مفتوحة الأبواب ينام في داخلها الأطفال، رغم ضجيج الكارثة إلا أن الغالبية العظمى الآن من المتضررين الذين مررت عليهم كان يلفهم الصمت وحيرة الآتي المجهول، التقيت الكثيرين ينامون بين أكوام من الأكياس والملابس تحت ضوء الشمس البسيط الهارب من السماء.

بعد كيلو متر من العائلات المشردة على جوانب الطرق التقيت مكاناً كتب عليه أرض المعارض، أمامه العشرات من رجال الجيش والجندراما التركية، وفي داخله مئات الخيام من مؤسسة أفاد. توجهت مباشرة للمكان وجدت عمليات الإنشاء ما زالت قائمة للخيام، على اليسار مجموعات توزع الشوربة الساخنة على المتضررين بعد اصطفافهم في طابور طويل، وعلى الجانب الآخر طابور آخر لتوزيع الملابس حسب العمر للتدفئة وتلافي البرد.

التقيت بطفل سوري من حلب يلعب بكرة قدم حين رآني أصور رفع بيديه علامة النصر، استوقفني المشهد، بأى انتصار يحتفل الطفل المشرد مرتين من حرب وزلزال؟!

تحدثت معه وحكى لي في كلمات بسيطة أنه استيقظ من النوم وفتح الباب فوجد الزلزال وأن الأرض تهتز، هكذا بكل بساطة شرح كارثة أطاحت بالآلاف من الضحايا، أعلم تماماً من كل قلبي أن الأرض لم تهتز فقط وانتهت الحكاية، ربما قلبه الصغير، وذاكرته المقاومة لتوالى المصائب والوَجع معاً لم تحتمل الحفاظ على بقية التفاصيل، فكان هذا الاختصار محاولة منه للهروب من الذكرى الصادمة في سواد الليل الأخير.

خاص لموقع عربي بوست

الطريق إلى مستودع المساعدات 

كنت قد رتبت ارتباطاً مع جمعية "ما أعطيته هو لك" وهي جمعية تعمل في 25 دولة حول العالم لمساعدة المحتاجين والمنكوبين ولديها خبرة كبيرة في العمل الإغاثي. المدينة معدومة من المواصلات تماماً لذلك اتخذت طريقاً مشياً قرابة 11 كيلو متراً على الأقدام.

أتاحت لي هذه الفرصة رصد الكارثة على مهلٍ، فما من منزل قائم، وكأن المدينة كلها على الأرض حرفياً، كنت مدهوشاً من حجم الدمار القائم، استوقفني أحد الواقفين أمام مصنع منهار وقال لي: من أين أنت؟ أخبرته أنني مصري.

ربما استوقفه علم مصر الذي أضعه جنباً إلى جنب مع العلم التركي على حقيبتي، سألته عن المكان الذي أتوجه له، صاح على أحد مساعديه وقال له أن يأخذني بالسيارة إلى مكان مستودع الجمعية، أخبره المساعد أن البنزين ربما لا يكفي كي يعود هو فصرخ به فقال بالتركية:

"الشاب أتى من مصر للمساعدة وأنت تحدثني عن البنزين، أوصله إلى مكانه وعد أنت مشياً". 

شكرته كثيراً وبعد دقائق بالفعل كنت أمام مستودع الجمعية، فشكرت موُصلي.

كان المستودع عبارة عن شركة منسوجات تضرر جزء منها وقررت الجمعية بعد موافقة صاحبها الاستعانة بالجزء المتبقي لعمليات الإغاثة، طابور طويل من المتضررين يصطف أمام الباب الرئيسي للحصول على وجبات طعام ومواد غذائية أساسية ومياه، عشرات الأطفال والسيدات في طابور تحت ظل برد ما قبل المغرب أمام منطقة مفتوحة يطل عليها جبل صامد في الأفق.

عيون الجميع كانت مهزومة؛ الجميع بلا أي استثناء.

جثث الثاني عشر من شباط 

خرجت مساء مع فريق الإنقاذ حيث وصلتهم معلومات عن ضحايا أحياء تحت الأنقاض في منطقة الثاني عشر من شباط في وسط المدينة.

كان المشهد كارثياً عن مشاهد الصباح؛ أضواء الإسعاف وسيارات الإطفاء والأمن تمتد لكيلو مترات في كل الشوارع من كل الاتجاهات، شوارع كاملة على الأرض تماماً بلا منزل واحد حتى قائم على خجلٍ، دمار ساحق ألمّ بشوارع هذه المنطقة .

كنت أتواصل مع صديقي الصحفي القديم أحمد سعد لحظياً بالصور والفيديوهات لما أرصد، أحاول نقل الصدمة له بشيء من التوثيق حاول توجيهي للتركيز على قصص صحفية مصورة إلا أنني فشلت في أداء مهمتي كصحفي حتى مع توجيهات أحمد المتكررة من أثر الصدمة فاستغلّ هو المقاطع التي صورتها لعمل برومو دعائي للتبرع والمساعدة فأخرجه في أفضل شكل ممكن وبدأ بنشره سريعاً.

شوارع الثاني عشر من شباط كانت غارقة بالجثث حرفياً؛ ظلام واسع وفي كل زقاق تجلس عشرات السيدات والأمهات بجوار جثث في أكياس موتى سوداء منهن الصامتات صدمة والمنتحبات قهراً.

تحركنا للإنقاذ في أحد المنازل وحين دخلنا إلى الركام للمساعدة في سحب طفل سحبنا الجسد دون رأس وانهارت أمه وصرخ والده صرخة قاتلة من الألم أصابت الجميع في صدورهم مباشرة دون تفرقة.

تراجعنا إلى ركام آخر مجاور سحبنا جثة شاب احترق جزء من جسده العلوي تماماً وتفحم بسبب حرائق الكهرباء في الركام.

أتت سيارة نصف نقل كاملة محملة بالجثث وجهتنا هيئة أفاد لنقلها لإحدى المدارس في الحي، حملنا عشرات الجثث وصُدمت أن فناء المدرسة معبأ بعشرات من الجثث الأخرى في انتظار النقل، رائحة المَوت كانت تَهب من كافة الاتجاهات، رائحة تلتصق بملابسك، برُوحك، بذاكرتك، رائحة لا تعرف الحياد بل ترسخ كثيراً من الألم في نفسك .

خاص لموقع عربي بوست

أسوأ الأحلام لن تكون بهذا الرعب

كصحفي تجوّلت في مناطق حروب وصراعات سابقة لم أرَ فيها خراباً ودماراً كالذي شاهدته في كهرمان مرعش، مرعش مَسحوقة تماماً، هُزمت المدينة البطلة بفعل زلزال ربما لم يحدث من 3 مليارات سنة وهو عمر تكون التكتلات الزلزالية في هذه المنطقة.

على المهتمين بعد أن تنتهي عمليات الإغاثة التي ستدوم طويلاً على ما يبدو أن يتوجهوا لدراسة البُعد النفسي لهذه الكارثة وكيف ستتراكم الآثار الجغرافية على هذا التغيير الذي ضرب رأس الجبل حتى عمق المدينة وأن يتعرفوا على قدر وماهية التغيير الاجتماعي الذي سيحدث بعد هذا الدمار.

كانت أغنية "مَرثية كركوك" التي يتغني بها أطفال من أذربيجان بلهجة ما بين الأذربيجانية والتركية ونطق أقرب للكردية تصاحبني طوال مشاهد الدمار.

إن كانت الأغنية صَدرت بكل هذا الأسى وتعاقب على غنائها العشرات توثيقاً لحدث أحد الأوبئة الذي ضرب شرق تركيا وصولاً لمدينة كركوك من مئات السنوات، فإن توثيق "مَرثية كهرمان مرعش" من المؤكد سيكون أكثر فادحة.

فأى موسيقى ستصل بلحن مؤلم كافية لكل هذا الوَجع في زوايا المدينة، ومن سيجرؤ أن يتغنى بأي موالٍ وأى طبقة صوتية ليروي المرثية كاملة دون اختزال.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد الطوخي
صحفي مصري
صحفي مصري
تحميل المزيد