ليست هي المرة الأولى التي تظهر فيها بوضوح حقيقة ومدى تماسك وقوة ونشاط مؤسسات المجتمع المدني البريطانية، وفي المقدمة منها الجمعيات الخيرية الإسلامية، وقت الكوارث الإنسانية عبر العالم، خصوصاً في العالم الإسلامي، والتي تفوقت سرعة استجابتها وقدراتها وإمكانياتها على الأرض لمساعدة المناطق المنكوبة في تركيا وسوريا على الدور الرسمي للحكومة البريطانية نفسها بل ودول عربية غنية.
يمثل المسلمون نسبة 8% من المجتمع البريطاني، ولكن القوة الناعمة لهم تمتد لتشمل حوالي 25% من الطبقة المتوسطة، استطاعوا من خلالها بناء منظومة كبيرة تشمل الأعمال الخيرية وأنشطة الإغاثة داخل وخارج بريطانيا، ونجحوا في مد جسور التعاون مع الجمعيات الخيرية غير المسلمة.
نتيجة لهذا التأثير الفعال للمجتمع المسلم داخل بريطانيا، انتفضت المنظمات الخيرية المختلفة والمدارس لتدشين حملات دعم سريعة وعاجلة "مادية وعينية" على التوازي مع الدور الرسمي للحكومة البريطانية.
مئات من مديري المدارس الحكومية البريطانية غير المسلمين والتي يقدر عددها بالآلاف تسابقوا في إظهار تعاطفهم مع المسلمين، وفتح الباب لجمع التبرعات من الأطفال في الأسبوع الماضي قبل إجازة منتصف التيرم التي بدأت، على أن يستأنفوا الحملة الأسبوع القادم.
التبرعات المادية التي يقدمها دافعو الضرائب تقوم الحكومة بإضافة 25% لها من خزينتها حسب القانون، وفي العادة في مثل هذه الكوارث الكبرى المتصلة بالعالم الإسلامي، يصل مجموع الأرقام إلى عدة عشرات الملايين من الجنيهات الإسترلينية في الأيام الأولى فقط، بالإضافة إلى مئات الأطنان من المساعدات العينية.
المأساة الإنسانية في تركيا وسوريا وتداعياتها خلال الأسبوع الماضي دفعت مجموعة من المؤسسات الخيرية الإسلامية البريطانية للتحرك لبناء تضامن واسع، والقيام بالدور الإغاثي المنتظر منها وقت الأزمات، وتقدمت الصفوف لتقديم المساعدات العاجلة للمناطق المنكوبة.
حملات كثيرة بدأت منذ اليوم الأول لمحنة الشعبين التركي والسوري تقودها المؤسسات الخيرية الإسلامية ومؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة للمدارس الحكومية والجامعات جنباً إلى جنب مع الدور الرسمي الذي تقوم به حكومة المملكة المتحدة.
قد اتضح جلياً دور المؤسسات الخيرية الإسلامية ببريطانيا في العديد من الكوارث التي مرت بها العديد من الدول الإسلامية، ومنها على سبيل المثال كارثة السيول في باكستان، حيث تلعب تلك المؤسسات أدواراً تفوق بأضعاف ما تقوم به الحكومات، ونظراً لأن المسلمين البريطانيين لهم تأثير سياسي ومجتمعي كبير نجد أن هناك دوراً فعالاً للمؤسسات الخيرية الإسلامية ببريطانيا في القضايا والنكبات التي تمر بها الدول الإسلامية.
من خلال التعاطي الفعال للمنظمات الإسلامية في بريطانيا فالرسالة كانت واضحة ومعبرة عن مدى ترابط العلاقات بين الشعوب وتجاوزها للحدود: قلوبنا مع الشعبين التركي والسوري في مصابهم الجلل، فالكارثة فادحة بكل المقاييس، جراء الزلزالين الأول والثاني فجر الإثنين الـ6 من فبراير بقوتهما التدميرية الهائلة والتي تم تسجيل شدتها بـ 7.8 و 7.5 درجة على مقياس ريختر، إضافة إلى توابعهما المقدرة بالمئات، والتي لم تتوقف بعد، وتسببت في دمار هائل خلف أكثر من 35,000 شهيد حتى اللحظة وأكثر من 100,000 مصاب، وأكثر من خمسة ملايين من المنكوبين النازحين عن ديارهم والقرى والمدن والولايات التي يعيشون فيها.
المحصلة التقديرية للمضارين اقتصادياً ومعيشياً تصل إلى خمسة عشر مليون شخص نتيجة الدمار، والأرقام مرشحة للتضاعف خصوصاً عدد الشهداء الذي قد يصل لرقم ثقيل مفزع في حدود المئة ألف شهيد، بعد تضاؤل الأمل في العثور على أحياء تحت الأنقاض التي لم يتم التعامل مع أغلبها في هذا الشتاء القارس.
قد لمست يوم الجمعة الذي تلي الأيام الصعبة، مدى التعاطف الذي يشعر به المجتمع البريطاني بمختلف فئاته وتنوعاته، تجاه مأساة الشعبين التركي والسوري الناتجة عن الكارثة الإنسانية تتمثل في مواقف كنت شاهداً عليها.
شاهدت مدارس حكومية إنجليزية تخصص يوماً لجمع التبرعات النقدية من الأطفال، للمشاركة منها في حملات المساعدات الضخمة التي يتولاها المجتمع النشط ممثلاً في الجمعيات الخيرية والمؤسسات المختلفة.
شاهدت مسجداً رئيسياً يدشن حملة لجمع التبرعات من خلال الجمعية التي تدير الأنشطة الخيرية به تسابق الكثير على المشاركة، حيث أعلن أن الحملة ستمتد لعشرة أيام متصلة، ومثلها العديد من الحملات بدأت وتشمل المئات من المساجد في بريطانيا.
كما أن صلاة الجمعة خصصت للحديث عن الزلزال في معظم المساجد، فخطيب جمعتنا إمام بارع لديه علم واسع، مكنه من تناول الموضوع من زوايا متعددة، يمثل المنهج الوسطي المستنير.
فور الانتهاء من صلاة الجمعة، قام حوالي ألف من المصلين بأداء صلاة الغائب على إخواننا وأخواتنا ضحايا الزلزال وهم شهداء الهدم.
لقد سارعت الحكومات من عشرات الدول ومنها بريطانيا بإرسال طواقم من فرق الإغاثة والإنقاذ منذ اليوم الأول؛ ما يعظم ويعضد من قيمة التضامن على المستوى الإنساني والرسمي في عالم تغلب عليه المادية والبراغماتية، وتعيد أصوات النزعات القومية أميالاً للخلف.
التحدي غير مسبوق، فإن رفع الأنقاض عن عشرات الآلاف من المباني التي تهدمت كلياً أو جزئياً وفتح ممرات آمنة لها وإغاثة ملايين الاشخاص لهو أمر يفوق قدرة أي حكومة بشكل منفرد؛ لذلك واجب الوقت هو العمل على تنظيم مؤتمر دولي عاجل للمانحين، تقوم من خلاله الدول والمؤسسات الدولية بمد يد العون للملايين الذين تضرروا بشدة من الكارثة وإعادة بناء المناطق المنكوبة، وذلك من خلال التعاون مع المؤسسات والقنوات الشرعية للحكومة التركية والمسؤولين عن الشعب السوري المسكين في مدن وقرى الشمال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.