أطلق بعض من المُؤرِّخين العرب المُعاصرين على الفترة المُمتدَّة بين 550 و557هـ/ 1155-1162م، تسمية "سنوات القلق"؛ نظراً لما طرأ فيها من مُشكلات وكوارث بحياة أهل الشَّام، والأناضول تحديداً.
تُوفي خلال هذه الفترة السلطان مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي، صاحب قونية، وخلفه ابنه عز الدين قلج أرسلان، الذي واجه في مُستهلّ حياته السياسيَّة مُشكلات كثيرة، لعلَّ أهمها ثورة أخيه شاهنشاه ضدَّ حُكمه، فاستغلَّ جيرانه الدانشمنديُّون والروم والأرمن والزنكيُّون انشغاله بالصراع الداخلي، وحاول كُلٌّ منهم السيطرة على قسمٍ من دولة سلاجقة الروم، فنشبت صراعاتٌ عديدة، انتهت بتوطيد عز الدين المذكور سُلطته. وبزغ في هذه الفترة أيضاً نجم الفارس الصليبي أرناط، (رينو دي شاتيون= Renaud de Châtillon)، الذي اشتُهر بِشدَّته على المُسلمين، وقلَّة حفظه لعهودهم، وكان حينذاك قد تزوَّج قسطنس، أميرة أنطاكية، وأصبح بموجب هذا الزواج حاكم تلك الإمارة، وما إن تولَّى حتَّى أرسل في أوائل سنة 551هـ، المُوافقة لسنة 1156م، قوةً عسكريةً هاجمت حلب، وعاثت فساداً في بعض أعمالها، فهاجمه الملك العادل نور الدين محمود زنكي، وأجبره على المُهادنة.
لكنَّ أبرز ما حلَّ خلال هذه الفترة من مصائب، وشغل المسلمين والصليبيين عن الحرب، كان سلسلة من الزلازل العنيفة (بلغت قُرابة أربعين زلزالاً)، التي ضربت الديار الشَّاميَّة وأهلكت الآلاف ودمَّرت الكثير من البلاد ما بين 551 و553هـ/ 1156-1158م، وكانت ذُروتها سنة 552هـ، الموافقة لسنة 1157م، فيما عُرف بـ"زلزال حماة".
يذكر ابن القلانسي، الذي شهد هذه الكوارث، أنَّ بداية الزلازل كانت ليلة الخميس، 9 شعبان 551هـ، المُوافق 27 سبتمبر 1156م، وفيه وقعت زلزلة عظيمة، رجفت بها الأرض ثلاث مرات أو أربع مرات، أي لحقتها ثلاث هزَّات ارتداديَّة على الأقل. ثُمَّ وافاها في ليلة الأربعاء، 22 شعبان 551هـ، المُوافق 10 أكتوبر 1156م، زلزلةٌ شديدة، ثُمَّ تبعها زلزال آخر، ثُمَّ جاءت "ثلاثٌ دونهنَّ"، أي ثلاث هزَّات ارتداديَّة كما يُفهم، وبعد يومين، أي السبت 25 شعبان، المُوافق 12 أكتوبر، وقعت زلزلة عنيفة جداً، يقول ابن القلانسي: "ارتاع الناس منها في أول النهار وآخره، ثُمَّ سكنت بقُدرة مُحرِّكها سُبحانهُ وتعالى".
وكانت حلب وحماة ونواحي الشَّام الشمالية الأكثر تضرُّراً بهذه الزلازل، فانهدمت مواضع كثيرة فيها، منها برجٌ من أبراج مدينة أفامية التاريخيَّة. ثم تتابعت الزلازل، وازدادت شدَّةً وعُنفاً، ففي يوم الأربعاء، 29 شعبان 551هـ، المُوافق 17 أكتوبر 1156م، وقعت زلزلة في آخر النهار، تبعتها أُخرى في الليل. وفي يوم الإثنين 1 رمضان، المُوافق 18 أكتوبر 1156م، وقعت "زلزلة مُروَّعة للقلوب وعاودت ثانيةً وثالثةً، ثُمَّ وافى بعد ذلك في يوم الثلاثاء ثلاثة زلازل، إحداها في أوَّله هائلة، والثانية والثالثة دون الأولى، وأُخرى في وقت الظهر مُشاكلة لها، ووافى بعد ذلك أخرى هائلة أيقظت النيام، وروَّعت القُلُوب مع انتصاف الليل، فسبحان القادر على ذلك".
وما إن انتصف شهر رمضان حتَّى ضرب البلاد زلزالٌ عظيم جديد، ثُمَّ توقفت الزلازل حتى دخل شهر شوَّال، ففي يوم الأحد الثاني من الشهر المذكور، الموافق 18 نوفمبر، "وافت زلزلة أعظم ممَّا تقدَّم روَّعت الناس وأزعجتهم، وفي يوم الخميس سابع شوَّال المذكور وافت زلزلة هائلة في وقت صلاة الغداة، وفي يوم الإثنين تلوه وافت زلزلة أُخرى مثلها، ثُمَّ أُخرى بعدها دونها، ثُمَّ ثالثة، ثُمَّ رابعة. وفي ليلة الأحد الثاني والعشرين من شوَّال وافت زلزلة عظيمة روَّعت النُفُوس، ثُمَّ وافى عقيب ذاك ما أُهمل لكثرته…". ويذكر ابن القلانسي أنه لا أبنية تهدَّمت في دمشق وضواحيها، على عكس حلب وشيزر، التي كثُر فيها الخراب والدمار، وقُتل كثيرٌ من أهلها، وأما سكان كفرطاب وحماة فهجروهما خوفاً على حياتهم.
تجدَّدت الزلازل ابتداءً من شهر صفر سنة 552هـ، المُوافق لشهر أبريل سنة 1157م، واستمرت مُتقطِّعةً حتَّى شهر ذي القعدة، المُوافق لشهر ديسمبر، وتعرَّض وادي نهر العاصي لزلزلة تبلغ من العنف الغاية، وعَظُم الضرر في حماة حتى سمَّى المؤرخون الزلزال "زلزال حماة". وتضررت دمشق هذه المرة، فهرب الناس من بيوتهم وسكنوا البراري لفترة، وهُدم أغلب ما أُعيد بناؤه في حلب وحماة والبلاد الشماليَّة، وانهارت آثارٌ قديمة عديدة، وسقطت قلعة شيزر على رؤوس مَن فيها من أُمراء بني مُنقذ، ولم ينجُ منهم إلَّا الأمير الأديب، والفارس المُجاهد أُسامة بن مُنقذ، الذي كان حينها في دمشق. وطالت أضرار الزلزال كُلاً من حمص وسلميَّة ومعرَّة النُّعمان وطرابُلس الشَّام وجُبيل وبيروت وصُور.
يقول ابن القلانسي في وصف هول الكارثة، والرُّعب الذي أحدثته في النفوس: "ووردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه، ويُرعب النُفُوس ذكره، بحيث انهدمت حماة وقلعتها وسائر دورها ومنازلها على أهلها من الشيوخ والشُّبان والأطفال والنسوان، وهُم العدد الكثير، والجمّ الغفير، بحيث لم يسلم منهم إلَّا القليل اليسير.
وأمَّا شيزر فإنَّ ربضها سلم إلَّا ما كان خرب أولاً، وأمَّا حصنها المذكور فإنَّهُ انهدم على واليها تاج الدولة بن أبي العساكر بن مُنقذ، رحمه الله، ومن تبعه، إلَّا اليسير ممَّن كان خارجاً. وأمَّا حمص فإنَّ أهلها كانوا قد أُجفلوا منها إلى ظاهرها وسلموا، وتلفت مساكنهم، وتلفت قلعتها، وأمَّا حلب فهُدمت بعض دورها وخرج أهلها، وأمَّا ما بعُد عنها من الحُصُون والمعاقل إلى جبلة وجُبيل فأثَّرت فيها. وأُتلفت سلميَّة وما اتَّصلت بها إلى ناحية الرحبة وما جاورها، ولو لم تُدرك العباد والبلاد رحمة الله تعالى ولُطفه ورحمته ورأفته، لكان الخطب الأخير، والأمر الفظيع المُزعج…".
قدَّر باحثون مُعاصرون في ورقة بحثيَّة نُشرت في دوريَّة "حوليَّات الفيزياء الأرضيَّة = Annals of Geophysics"، سنة 2005م، قُوَّة زلزال حماة المذكور بقرابة 7.4 درجة على مقياس العزم، كما قدَّر المركز الوطني للبيانات الفيزيائيَّة الأرضيَّة (National Geophysical Data Center) مجمل ما حصده من ضحايا بقُرابة 8 آلاف إنسان، وجعلوا درجتها وفق مقياس ميركالي المُعدَّل (Modified Mercalli intensity scale) تترواح بين الثامنة المُصنَّفة "شديدة" (VIII Severe)، والتاسعة المُصنَّفة "عنيفة" (IX Violent).
وتوالى وقوع الزلازل في سنة 553هـ، الموافقة لسنة 1158م، ولكنها لم تكن بالشدة نفسها، وقد شُغل المسلمون والصليبيون معاً بهذه الزلازل، وانصرفوا إلى عمارة ما تخرَّب من المُدن، وما تهدَّم من القلاع، فتوقفت بذلك العمليات العسكرية لفترة من الزمن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.