ينزح السوري فاراً من قدره، لا يحمل معه إلا همومه، يحاول بعدها تأسيس حياة جديدة من الصفر، لا يكاد يفعل حتى تتلقفه كارثة جديدة، إن خرج منها "سالماً" فإنه يخرج -وللمرة التي يتوقف في حينٍ ما عن عدّها- كما ولدته أمه، فهل سيستطيع مجدداً أن يغرس جذوره في موطن جديد وهو الذي يُخلع من كلِّ أرض يحط عليها رحاله؟!
هذا الشعب الذي تلقَّفه البحر، وغصَّت به الأرض، وتناوشته القذائف، وقهرته الحاجة، ما زال يحاول في كل مرةٍ أن يُولد من رماده ويعيش!
يجتمع الأمل مع الألم عليه، والفرح مع الحزن في لحظةٍ، تخرج طفلة من بين الركام، يهلل المنقذون، يسألونها: "معك حدا؟"، تجيب: "أي يا عمو، إخواتي وإمي.. بس كلهم ماتوا"!
يا لنهاية الجملة! يا لعظم المأساة بعد ثوانٍ قليلة جداً من الأمل! لو أنك تتخيل فقط، طفلة ولعشرات الساعات بين الأنقاض، تعرف أن أهلها هناك، قريبين منها، أم وإخوة، وتعرف أيضاً أن جميعهم قد فارقوا الحياة! أي ذكرى ستحمل معها للمستقبل، وقد جمع عليها حاضرها ظلمات الحرب، وظلمات الردم، وبرد الشتاء، واليُتم والوحدة! حرب وعت عليها، وموت نثر أحرفه على سنينها وفاجعة تلو أخرى! هذا جيل لم ير إلا القهر والمآسي، حتى بات يعتقدها أصل الحياة وشكلها، أي ذكريات؟! بل أي نجاة!
يهاجر الرجل بحثاً عن حياةٍ أفضل لأسرته، وفي غمضة عين يعرف أنه فقدها كاملة، أسرةٌ قضى عمراً يؤسسها، أسرةٌ باتت هي كل ما يملك في خضم هذا الزمن الذي لا يسمح للسوري بأن يملك كمشة ذكرياتٍ حتى! يفقد أمه، زوجته، أبناءه، ثم يُقال في وصف هذا الرجل بأنه: ناجٍ! أناجٍ هو من لا أهل ولا وطن؟!
يسقط السقف على سيدةٍ رفقة أطفالها، ترى السائل اللزج الأحمر يتسرب من بين شفتي أحدهم، يفارق الحياة! تسمع أنين ثانٍ ولا تملك حتى أن تتحرك إليه لعلها تتلمسه للمرة الأخيرة! تخرج الأم حية من تحت الركام، يقولون عنها: ناجية! وهي التي خرجت من تحت ردمٍ ينام على أشلاء أولادها، هل نجت هذه الأم فعلاً؟!
يجلس الأخ بجانب منزل أخيه، يقول: هذا منزل أخي، وفي البناية نفسها قريبي، تحت السقف الأول فلان، وتحت السقف الثاني عائلة فلان، فيه أحد عشر فرداً، لم أستطع أن أخرج جثثهم حتى الآن.. مرت أربعة أيام وأنا أجلس هنا.
يسمى هذا العم الذي عدَّ الأسقف مراتٍ ومرات ناجياً، فهل هو ناجٍ فعلاً؟!
علاقتنا مع الأسقف ومنذ اثني عشر عاماً ليست جيدة للأسف، نبنيها لتقتلنا! حين تقول لمن "نجا": تعال نأخذك لمنزل يؤويك. يقول: "أسقف إسمنت؟! لا أريد. أعطني خيمة".
علاقتنا مع الأسقف سيئة للغاية.
يدور أبٌ فوق أنقاض منزله الذي تحوّل لقبر جماعي، ينادي بصوتٍ مرتفع.. بصوت مفجوع ومرتفع ومنكسر في الوقت ذاته، ينادي: "حمودي ردَّ عليّ يا ابني". يصمت، ويريد في لحظتها لكل شيءٍ في هذا الكون أن يصمت، علَّه يسمع من تحت الردم بقايا أنين، ولكن للأسف انقطع الآن أنين الراقدين تحت الأنقاض.. وبقي أنين- الناجين اسمياً لا فعلياً- يكتمونه ولا يُكتم عنهم، ويُسكتونه ولا يرحمهم.. هل هذه نجاة؟! هل هذا الأب ناجٍ؟!
تجلس سيدة أخرى بجانب منزلٍ لإخوتها، تقول: "أنا أختُ رِجالٍ يا ابني، بس مصابي كبير، فقدت 12 شخصاً من عيلتي، مو رايحة إلا ليطالعوهم".
هل هذه السيدة ناجية؟!
تنامُ أُم بجانب جثمان ابنها للمرة الأخيرة، وتحلم بأن يكون هذا كلهُ حلماً، كيف لهذه الأم أن تُدعى ناجية؟!
تُفتحُ الحدود، ويعود السوريون لأرضهم، شبابٌ كان كل ما يطلبونه من هجرتهم هو الأمان، ها هم وكما تمنى الشعب يوماً.. يعودون، ولكن… كأجسادٍ، كجثث هامدة، بأكياسٍ سوداء! لم نُرد أن تكون عودتكم شاحبة هكذا، لماذا استعجلتم العودة؟!
هل يمكن أن تقاس النجاة بدقات القلب وحدها؟! ببقاء الروح بالجسد فقط؟! بالقدرة على التنفس؟! بعدم وجودنا بتلك الأكياس بدلاً عنهم؟!
يقبع آخرون في بقعة جغرافية بهذا البلد، وأحبابهم مشتتون في بُقعٍ أخرى خارجه وداخله، تفصلهم مسافات وحدود ومعابر وسياسة، تأتي الكارثة، يعرفون أنها طالتهم، يكادون بعدها لا يعرفون شيئاً، تخطر على عقولهم كل الاحتمالات، وتفترسهم بجميع أشكالها، تكبّل قلة الحيلة أيديهم، ينظرون إلى النعوات التي لا تنقطع، رقمٌ خلف رقم، وعائلة إثر عائلة.. والمفجع أنهم عوائل لا أفراد، تنخلع القلوب إثر كل نعوة، والبعد لا يرحم. يقبعون في مكانهم كجثثٍ باردة وإن لم يسقط فوقها سطح! وينتظرون.. ينتظرون المجهول، معجزة كان أو جنازة.. هل يمكن أن يكون هؤلاء ناجين؟!
يعرف السوريون للانتظار معنىً ثانياً.. الانتظار في سوريا مختلف عن أي انتظار آخر، كل شخص هنا انتظر حتماً عائلة أو أصدقاء أو أقرباء، وهو يُؤكل بأنياب التخمين، هل ماتوا؟ هل مازالوا أحياء، النزوح، الحرب، السجون، الهروب، كلها جعلت للانتظار شكلاً مغايراً يعيشه الناجي الذي ربما فرضت عليه ظروفه التي يلعنها كل ساعة، أن يكون بعيداً عن أهله أو أحبابه حين تختارهم الكوارث هدفاً لها.. وما أكثر من اختارتهم!
يتوتر الأهل والأصدقاء المغتربون، يرسلون، يتصلون، يسألون: هل أنتم بخير؟ نجيب على استحياء بأننا -دون بقية إخواننا- بخير. نشعر بأن "بخير" هذه التي تختار لنا أن نعيش مرات ومرات مرارة البقاء خلف أمواتنا، ما هي إلا وصمة عارٍ تختارنا دون غيرنا، هل نحن فعلاً بخير؟!
يجيب "ناجٍ" سوري عن هذا وقد فقد عائلته كاملة: "كلهم بخير، إلا أنا"! ويموت بعد هذا الجواب قهراً، أو يصبح بخيرٍ هو الآخر.
ربما هذا هو الجواب الأصدق، ينجو الميت هنا، ويموت من يبقى على قيد الحياة!
هنا في سوريا لا يبدو غريباً أن تجد من يسأل: لماذا أنا؟! لماذا نجوتُ؟ ربما يدور هذا السؤال الآن في خلد كثيرين، يشعر كل واحد بأنه مقصر لأنه لم يحتضن الموت بدلاً عن أحبابه، لأنه لم يستقبله كما استقبلوه.. استقبلوه هُم بشكل مباشر، بينما التف هو حول أرواح الذين يقال عنه جزافاً: ناجون.. دون أن تعرف النجاة طريقاً لقلوبهم… في هذا البلد لم ينجُ أحد.. من لم يُنكب في جسده نُكِب في روحه.. يبدو أنها عقدة الناجي، وثمن النجاة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.