حظي النظام المصري الحاكم منذ استيلائه على السلطة، مطلع يوليو 2013، بمعونات خليجية نقدية وعينية سخية، بداية من الأسابيع القليلة التالية لمجيئه ولمدة عام كامل، لكن تراجع أسعار النفط منذ منتصف عام 2014 حوّل شكل تلك المعونات إلى ودائع وقروض خليجية، كان بعضها بلا فائدة، والآخر بفائدة متدنية، ومع توسع النظام الحاكم في مشروعاته غير المدروسة، كان السبيل أمامه هو المزيد من الاقتراض الخارجي من مؤسسات ودول أخرى.
وفتح اتفاق النظام المصري مع صندوق النقد الدولي على تنفيذ برنامج إصلاحي أواخر عام 2016، البابَ أمامه للمزيد من الاقتراض الخارجي، بخلاف ما حصل عليه من صندوق النقد الدولي والدول الحليفة بنحو 24 مليار دولار، بواقع 12 مليار دولار من كل طرف، بعد توسعة في طموحاته بإنشاء عاصمة جديدة، وغيرها من المدن الجديدة، وتوسع الجيش في مشروعاته الاقتصادية في مختلف المجالات.
وذلك رغم حصول النظام علي موارد ضخمة من الأموال الساخنة التي تدفقت للحصول على الفائدة المرتفعة، التي فاقت الفائدة بغالبية الدول الناشئة، وطرحه عدة إصدارات للسندات بالأسواق الدولية، كما استفاد النظام من أزمة كورونا بالحصول على المزيد من القروض من صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الدولية والإقليمية.
لكن ارتفاع أسعار الوقود والغذاء عام 2021، وما تلاها من تشدد البنوك المركزية بالعالم برفع الفائدة لمواجهة التضخم، وأبرزها ما قام به البنك الفيدرالي الأمريكي، أدى إلى خروج مكثف للأموال الساخنة، التي ظل النظام يعتمد عليها، لتعزيز أرصدة احتياطيات النقد الأجنبي، ودفع أقساط الديون الخارجية في مواعيدها، وتمويل الواردات، وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد من تكلفة استيراد الغذاء، وكذلك من خروج الأموال الساخنة.
بدء البيع شرط القسط الثاني للقرض
وهرع عبد الفتاح السيسي كالمعتاد إلى الدول الخليجية لإنقاذه، ولكن الاستجابة هذه المرة لم تكن بلا ثمن كالمرات السابقة، حيث تم عرض استبدال القروض بأصول من الشركات المصرية الرابحة، وهو ما أعلنه السيسي على الملأ بالربع الأول من العام الماضي، بعد تعثر مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد يكفل له الاستناد إليه الاقتراض من جهات أخرى.
وبالفعل بدأت عمليات البيع للأصول للصناديق السيادية الخليجية، في أبريل الماضي، لحصص من بعض الشركات لصندوق إماراتي، ودفعة أخرى في أغسطس لصندوق سعودي، بخلاف بيع جزئي لحصص أخرى من الشركات لشركات إماراتية وسعودية طوال شهور العام الماضي، واستمرار المشاورات مع الصندوق السيادي القطري وشركات قطرية، لشراء حصص بشركات مصرية، وزيارة الجنرال بصحبة مسؤولين عن ملف البيع للبحرين وسلطنة عمان لعرض حصص من شركات للبيع.
ولإرضاء صندوق النقد الدولي، الذي طالب في مفاوضاته مع مصر، بسعر صرف مرن للجنيه المصري أمام الدولار، ورفع سعر الفائدة وبيع الأصول لسداد أقساط الدين الخارجي المستحقة، خاصةً مع كبر حجمها، جرى الحديث عن إعداد وثيقة لتخارج الدولة من بعض الأنشطة الاقتصاية، واستمرارها بأنشطة أخرى، وزيادة حجمها بأنشطة ثالثة، وطالت مدة إعداد الوثيقة أكثر من عام حتى صدرت بنهاية العام الماضي.
ولأن صندوق النقد كان قد اشترط عند موافقته على إقراض مصر بالشهر الأخير من العام الماضي، ربط دفع باقي أقساط القرض بتنفيذ مطالبه، والتي تتأكد من تنفيذها بعثات دورية لخبراء الصندوق لمصر، ونظراً لقدوم بعثة لخبراء الصندوق خلال الشهر المقبل لإعداد تقرير منح الدفعة الثانية من القرض.
فقد سارعت الحكومة بالإعلان عن طرح 32 شركة للبيع قبل أيام، في نحو 18 نشاطاً، منها شركتان تابعتان للجيش، لا تعلنان أية بيانات مالية عن أدائهما، وهو عدد قابل للزيادة، حسب تصريح رئيس الوزراء، وذلك بداية من الربع الأول من العام الحالي ولمدة عام، على أن يتم تنفيذ نسبة 25% من برنامج البيع المعلن خلال النصف الأول من العام الحالي.
وهو ما يتسق مع ما جاء بتقرير صندوق النقد عن مصر، الصادر في العاشر من الشهر الماضي، والذي حدد بالأرقام والتواريخ قيمة مبيعات الأصول المطلوب من الحكومة المصرية الالتزام بها، والتي تبدأ بقيمة 2 مليار دولار خلال العام المالي الحالي، الذي ينتهي بنهاية يونيو المقبل، ثم بقيمة 4.6 مليار دولار بالعام المالي التالي، ثم بقيمة 1.8 مليار دولار بالعام المالي 2024/ 2025، ونظراً لبقاء أقل من خمسة أشهر على انتهاء العام المالي الحالي، فقد حددت الحكومة المصرية بيع ربع الشركات التي أعلنت عنها خلال تلك الشهور.
فجوة تمويلية وواردات وسداد ديون.. ما وراء بيع الشركات المصرية الحكومية
والسبب الرئيسي لعملية البيع للأصول هو سد الفجوة التمويلية، التي حددها الصندوق بخمسة مليارات دولار خلال النصف الأول من العام الحالي، والتي تستمر بالسنوات المالية الخمس التالية بقيمة 17.4 مليار دولار، وقدّرتها جهات دولية أخرى بقيمة أكبر مما حددها الصندوق، حيث يحتاج النظام المصري إلى سد العجز الدولاري الموجود بالجهاز المصرفي، والذي بلغ حسب بيانات البنك المركزي المصري 19 ملياراً و975 مليار دولار بنهاية العام الماضي.
ويلي ذلك الوفاء باحتياجات المستوردين المتراكمة والمؤجلة، منذ مارس الماضي، بعد التضييق على الواردات حينذاك، وهي الواردات السلعية التي بلغ متوسط قيمتها الشهرية 8.7 مليار دولار، بالعام الماضي، في ظل التضييق، ويواكب ذلك سداد أقساط وفوائد الدين الخارجي، التي قدر صندوق النقد الدولي قيمتها خلال العام المالي الحالي بقيمة 48.9 مليار دولار، وبالعام المالي المقبل 51 مليار دولار، وبالعام المالي 2024/ 2025 بنحو 54.6 مليار دولار.
ومن هنا فقد توسعت الحكومة المصرية في عدد الشركات المعروضة للبيع، مع الأخذ في الاعتبار تحديد الزبائن نوعية الشركات المطلوبة، كما تم الشراء من قبل الصندوقين الإماراتي والسعودي من قبل، اللذين حدّدا الشركات بالاسم، حتى إنه كان من بينها شركات غير حكومية، وكذلك كما تشير الأنباء المعلنة عن الشركات التي طلب الصندوق القطري شراء حصص منها، خاصة أن البدائل المتاحة أمام النظام المصري للحصول على موارد دولارية حالياً محدودة.
حيث تسبب استمرار رفع بنك الاحتياطي الأمريكي للفائدة في عزوف استثمارات الحافظة، عن العودة للأسواق الناشئة حالياً، إضافة إلى العائد السلبي لعوائد أدوات الدين الحكومي المصري رغم ارتفاعها، بسبب تخطي معدل التضخم تلك العوائد، والذي بلغ 31% بالشهر الماضي، حسب البنك المركزي، وجاء خفض وكالة موديز للتصنيف الائتماني لمصر مؤخراً ليزيد المشكلة تعقيداً، كما أدى ارتفاع أسعار الفائدة بالخارج لصعوبة طرح سندات مصرية بالخارج في الوقت الحالي.
أرباح جيدة للشركات المُباعة
ويتسبب بيع الشركات المطروحة في خسارة الموازنة المصرية فوائض تلك الشركات الحكومية، بينما تعاني من عجز مزمن، زاد السيسي من حدته بتوجيهه لبعض الجهات بإنشاء صناديق تحتجز فوائضها، بدلاً من ذهابها لوزارة المالية كا هو معتاد، مثلما حدث مع الجهات التابعة لوزارتي الإسكان والصحة وهيئة قناة السويس.
وتتضح جودة الشركات المعروضة للبيع من خلال كبر قيمة أرباحها، بالقياس إلى حقوق ملكيتها، فشركة دمياط لتداول الحاويات بلغت أرباحها بالعام المالي الأخير 2021/ 2022 نحو 674 مليون جنيه، وهو ما يعني بلوغ نصيب السهم الواحد من أسهم الشركة البالغ قيمته 10 جنيهات نحو 33.7 جنيه في العام، مقابل 26.4 جنيه حققها السهم كربح بالعام المالي السابق.
وتكرر ذلك بشركة بورسعيد لتداول الحاويات التي بلغت أرباحها بالعام المالي الأخير 509.5 مليون جنيه، ليصل نصيب السهم البالغ قيمته خمسة جنيهات نحو 15.5 جنيه كربح في عام واحد، وبلغت أرباح البنك العربي الإفريقي 149.2 مليون دولار بالشهور التسعة الأولى من العام الماضي بالقوائم المستقلة للبنك، وتزيد إلى 153 مليون دولار بالقوائم المجمعة، نظراً لإعلان قوائمه المالية بالدولار لوجود مساهمة كويتية في حوالي نصف رأسماله، وحقق بنك القاهرة خلال الشهور التسعة الأولى من العام الماضي أرباحاً بلغت 2 مليار و896 مليون جنيه، وكانت أرباحه خلال عام 2021 قد بلغت 3.6 مليار جنيه، أما المصرف المتحد فلا ينشر قوائمه المالية منذ تأسيسه عام 2006 وحتى الآن، وهو ما يتكرر مع شركات أخرى مشتركة لا تنشر قوائمها المالية.
وحققت شركة مصر للتأمين بالعام المالي 2020/ 2021 أرباحاً، بلغت 2 مليار و235 مليون جنيه مقابل 2. 235 مليون جنيه بالعام المالي السابق، وهو ما يعد أعلى ربح بين شركات التأمين العاملة بمصر، وتلاها بقيمة الربح شركة مصر لتأمينات الحياة وهي المرشحة أيضاً للبيع، لتربح ملياراً و622 مليون جنيه بالعام المالي 2020/ 2021، مقابل ربح مليار و546 مليون جنيه بالعام المالي السابق.
وهكذا بلغت أرباح الشركات التابعة لقطاع الأعمال العام المعروضة للبيع بالعام المالي 2020/ 2021، نحو 385 مليون جنيه بشركة المعادي للتنمية والتعمير، من حقوق ملكية بلغت ملياراً و111 مليون جنيه، ليصل العائد على حقوق الملكية بها 35%، وكان الربح بشركة مصر لأعمال الإسمنت المسلح 135 مليون جنيه، من حقوق ملكية 197 مليون جنيه، ليصل العائد على حقوق الملكية بها 68%، وحققت شركة النصر للإسكان والتعمير ربحاً بـ294 مليون جنيه، من حقوق ملكية 667 مليون جنيه، ليصل العائد على حقوق الملكية بها 44%.
وحققت سيناء للمنجنيز ربحاً 123 مليون جنيه، من حقوق ملكية 693 مليون جنيه، ليصل العائد على حقوق الملكية بها 18%، وبلغ ربح شركة النصر للتعدين 300 مليون جنيه، من حقوق ملكية 2 مليار و268 مليون جنيه، ليصل العائد على حقوق الملكية بها 13%، وبلغت أرباح شركة البويات والصناعات الكيماوية- باكين- 40 مليون جنيه من حقوق ملكية 414 مليون جنيه، ليصل العائد على حقوق الملكية بها 10%، وحققت المصرية للسبائك الحديدية ربحاً 19.8 مليون جنيه.
وكما يتسبب بيع الشركات المصرية الحكومية وبيع تلك الأصول في خسارة المالية تلك الفوائض، فإنه يزيد من صعوبة مهمة أي حكومة قادمة، في ضوء ضيق المجال أمامها، لسداد الديون المحلية والخارجية الضخمة، التي تسبَّب النظام الحالي فيها، والتي بلغت 155 مليار دولار للدين الخارجي حتى سبتمبر الماضي، أما الدين العام الداخلي فلم يتم إعلان رقمه منذ منتصف عام 2020، حين بلغ حينذاك 4 تريليونات و742 مليار جنيه مع استمرار زيادته خلال الفترة التالية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.