العجز والخوف..يقذف بي أحدهما إلى الآخر، ولا أعرف أيهما أرحم بي، فأسكن إليه.
منذ يوم الإثنين الماضي، وبعد وقوع زلزال تركيا وسوريا المُدمر، وأنا أعيش أياماً صعبة، أياماً شديدة المرارة، خصوصاً على كل من هو مثلي، من اختار أن يفتح عينيه بحق، ليرى المأساة التي يمر بها جيراننا من الشعوب الشقيقة، ليتألم معهم بصدقٍ، وليعيش معهم جزءاً ضئيلاً من هول التجربة على بشاعتها.
تلك المولودة التي وُجدت سليمة مُعافاة بينما هي لا زالت مُتعلقة بالحبل السُريّ لأمّها الميتة، هل هو مشهدٌ حزين، أم هي لقطةٌ تبعث على الأمل؟
ذلك الأب الجالس على الحطام وهو ممسك بيد طفلته الميتة من تحت الأنقاض، أهو مشهدٌ مُبكٍ، أم هي لقطة تجعلنا نكتب شعراً في عظمة وقوة ذلك الأب؟
هولٌ عظيم، وفاجعة كبرى، مرّت بجيراني وإخوتي، ولكنها أصابتني وإن لم تُصبني.
زلزال في تركيا وسوريا ترك أثراً شديداً في قلبي هنا في مصر.
عجزٌ مما قد حدث، وخوفٌ يصل لحد الرعب مما سيصير، وليس لنا إلا أن نقول: يارب أغثنا، فما لنا إلا سواك.
عن قصة الرعب التي تخيّلتها
كنت أسأل نفسي: ما هو الأسوأ من أن تقع من حالق؟
وهوت الإجابة على رأسي سريعاً، أن تتزلزل الأرض التي كانت ثابتة منذ لحظة من تحت أقدامك، فتتشقق، وتتكسّر، وتجد نفسك تهوي بين الحطام فتسحق جسدك كله أو بعضه، أو ربما تتركك في وضعٍ يستحيل معه أن تتنفس أو تتحرك أو تُصدر صوت استغاثة أو أنّة ألم.
أنت بالقاع، فوقك أطنان من الحجارة والحديد وأكوام من الأثقال، كانت أثاثاً فاخراً منذ دقائق قليلة.
وحدك..
عاجزٌ عن البكاء، مفطور القلب على صغارك الذين لا تعرف ما هو حالهم الآن، أو على والديك، وما قد يُعاني منه جسدهم الواهن، تحت وطء كل ذلك الثقل، الذي لا يعلم قدره سوى الله وحده، أو على أحبائك، الذين ربما تتمنى أن تكون أرواحهم قد قُبضت، حتى لا يعانوا ذلك العذاب الذي تعيشه الآن.
هل تلك هي الميتة الأسوأ على الإطلاق؟ ربما تكون.
فتخيلاتي التي أستطيع تصورها الآن، كم هي مُزعجة وكئيبة، هي لا شيء، حقاً لا شيء، جوار قصة الرعب التي عاشها بالفعل كل إنسان تعرض لمثل هذه الفاجعة، حتى لو عاش بعدها، وأقربهم أشقاؤنا بسوريا أو تركيا، الذين مرّوا بتجربة ذلك الزلزالٍ المُدمرٍ، والذي أعاد عليّ بشكلٍ شخصي قصة عمرها أكثر من ثلاثين عاماً، قصة مخيفة يعرفها كل مصري اقترب من عمر الأربعين، تُسمى زلزال 92.
زلزال 92 وقصة مدرستي التي تهدّمت
ذكّرني الحاضر بالأمس، وأعاد زلزال سوريا وتركيا إلى ذاكرتي الزلزال الذي لا يُنسى في حياة المصريين؛ زلزال أكتوبر عام 1992.
قصتي ليست قصة حزينة بفضل الله، وإنما هي قصةٌ، تحكي أكثر ما تحكي عن الخوف، خوف طفلة عمرها 11 عاماً، تدرس بالفترة المسائية في إحدى المدارس الحكومية القديمة، والتي لم تفهم، ما الذي جعل الأرض تهتز تحت أقدامها، بهذه الدرجة التي لم ترها من قبل أبداً.
أول ما أتذكره هو صوت بدا وكأنّه يخرج من تحت الأرض، صوت يُشبه الصوت الصادر من آلة حفرٍ عملاقة تخترق الأرض، صوتٌ مُقبضٌ ومخيف فعلاً.
توقفت المُعلمة عن الشرح، ونظرنا نحن الطالبات إلى بعضنا البعض في عدم فهمٍ، بعدها بدأت الطاولات والمقاعد في الارتجاج، نظرت تحت قدمي فوجدت أنّ الأمر حقيقي.
"المدرسة بتقع"
هكذا أخذت الفتيات يصرخن وهن يجرين، سقط بعضهنّ فوق بعضٍ من التدافع، كنت لحُسن الحظ في الطابق الأرضي، خرجت من الفصل أجري مثلهنّ، ولكنّي لمحت في فصلٍ آخر، صديقة لي، اسمها "رجاء"، وهي مُمددة على الأرض، وجزءاً من حائط الفصل الذي يحوي الشباك واقع بجوارها، لا أتذكر المشهد جيداً، ولكن كل ما أتذكره هو توسّل صديقتي لي كي أُساعدها، توقفت فعلاً. توقفت بينما الكل يجري وكدت أمد يدي لأنتشلها، ولكن غلبني خوفي، وركضت سريعاً وتركتها.
تركت "رجاء" كي أُنقذ نفسي، وقضيت الأسبوعين التاليين وأنا أظنّ أنّ رجاء قد ماتت، وأنّني أنا من تركتها تموت.
كان ذلك الشعور أثقل حملٍ يُمكن لطفلة أن تحمله، وأقسى ذنبٍ يُمكن لإنسانٍ أن يشعر به.
نجوتُ ولم أنجُ، أهلكني خوفي
نجوتُ بفضل الله..
نجوتُ أنا وأهلي وأحبائي من هذه المأساة.
بعض الرعب عاشه أبي الحبيب، رحمه الله، حينما هرع مُسرعاً إلى المدرسة بعد حديث الجيران عن سقوط جزءٍ منها.
لم يرني ولم أره، ذهبت إلى البيت والذي كان لحسن الحظ قريباً من المدرسة وأنا أجري، بينما هو أتى من البيت مُسرعاً يجري في الشارع كما حكى لي، ولكنّا لم نلتقِ في الطريق.
حينما لم يجدني في المدرسة، عاد إلى البيت مذعوراً، يخشى ألا يجدني هناك.
لحظات لا يُمكن وصفها من الرعب والشعور بانخلاع القلب، ولكنها انتهت بسلامٍ.
وأجمل ما في القصة، أنّ رجاء لم تمت.
بعد أسبوعين من حدوث الزلزال، تم استئناف الدراسة من جديد، وانتقلنا جميعاً إلى مدرسة أخرى، حيث إنّ مدرستي القديمة تهدّمت ولم تعد صالحة للدراسة، وحينها وجدت رجاء.
وجدتها تضحك ولا شيء بها، كنت أظنّ أنّها ستلومني أو ستخبرني بأنّها تكرهني أو تُخاصمني حتى، ولكن لم يحدث أي من ذلك.
أعتقد أنّ رجاء كانت ممدة على الأرض من الخوف، لم تحملها أقدامها، ولكنّي لم أتجاوز إلى الآن مشهد يدها الممدودة إليّ، والتي عادت خائبة الرجاء.
لم أحكِ لمخلوقٍ في حياتي عن ذلك الأمر. كان سراً بداخلي، حتى الآن.
نعم نجونا بفضل الله، نحن من تواجدنا بعيداً عن مركز الزلزال العنيف، لكن هلك بعض من إخواننا وأخواتنا هناك، وهلاكهم ذلك أورثنا شعوراً غريباً، هل نشعر بالراحة لأنّنا نجونا وهم هلكوا؟ هل نشعر بعذاب الضمير لأننا آمنون وننعم بالدفء وقُرب الأحبة بينما هم لا؟ هل نحن آمنون حقاً؟ وإذا كنّا في أمانٍ حقيقي، فلماذا يعجز بعضنا عن النوم، ولماذا يُصاب بعضنا الآخر بكوابيس مُرعبة، ولماذا أصبح الخوف بالنسبة للكثيرين منّا، وأنا واحدة منهم، مُلازماً لنا كصديقٍ حميمٍ؟
خواطري بين اللطف والبلاء
ذلك الشعور بِتُّ أعرفه جيداً حينما يمرّ من أهتم لأمرهم بابتلاءٍ شديد.
أولاً تأتي قبضة القلب والجزع ثم يأتي الألم، حتى أستسلم للانهيار في النهاية.
حدث ذلك مع الطفل المغربي ريّان وقصته المأساوية في العام الماضي، وحدث ذلك من جديد مع موت أحد الأصدقاء بعد معاناته مع مرضِ شرس، وها هو الأمر أراه يحدث الآن.
جاء في الأثر:
"واعلَم أنّ البلاء إذا نزل على العبد ينزل معه اللُّطف، فإذا تصوّرت البلاء قبل أن يقع، قد استقبلت البلاء بدون لُطفٍ فأهلَكت رُوحك".
هذا في رأيي ما يجعل الأمر أقسى علينا ممن يُعانونه حتى، نحن ممن لا حول لهم ولا قوة، ما نملكه قليل فعلاً؛ الدعاء، والمساعدة إن أمكن بالتبرعات وغيرها، وعلينا مساعدة أنفسنا قبل ذلك كله بشيءٍ فرض علينا، وهو اختبارنا الحقيقي؛ التسليم لله الواحد الأحد.
تلك الهزّة الإيمانية التي مررتُ بها أنا وكثيرون غيري بعد كل فاجعة، ربما هي الاختبار الحقيقي من وراء كل تلك الفواجع.
تلك الأسئلة التي تتكرر بعد كل كارثة: لماذا خلق الله الشر؟ لماذا يترك الله الأطفال يتعذبون قبل الموت؟ ولماذا يترك الله الظالمين يتنعمون على الأرض بلا حساب؟
هذا هو اختبارنا نحن، وعلينا ألا نرسب فيه.
عسى أن يربط الله على قلوبنا جميعاً بالصبر والرضا والتسليم، وعسى أن يُهوّن المصاب على أصحابه، وعسى أن يُنزل بكل من تأذّى من الصالحين في ذلك الزلزال المُميت منزلة الشهداء، وعسى أن يُنعم علينا بالعافية، وأن يعفو عنّا من قبل ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.