استهلت تركيا يوم السادس من فبراير/شباط 2023 بزلزال بلغت قوته 7.7 على مقياس ريختر، إذ وقع الزلزال في تمام الـ4:17 صباحاً بتوقيت تركيا، ووقعت بؤرته في منطقة بازارجيك بمحافظة كهرمان مرعش. وأحدث الزلزال دماراً مهولاً؛ لأنه ضرب على عمق نحو 7 كيلومترات فقط من سطح الأرض.
وتضررت 10 مدن تركية بشدة من الزلزال، خاصةً في محافظات كهرمان مرعش وأديامان (حصن منصور) وهاتاي وملطية وغازي عنتاب، بالإضافة إلى الأراضي الواقعة في شمال غرب سوريا. وبعد نحو تسع ساعات من تجاوز صدمة هذا الزلزال الكبير، ضرب زلزال كبير ثانٍ المنطقة نفسها.
وفي تمام الـ13:24 ظهراً، تعرضت المدن نفسها لموجة دمارٍ ثانية مع هذا الزلزال الذي بلغت قوته 7.6 درجة. حيث ضرب الزلزال الثاني منطقة البستان في كهرمان مرعش، وانهارت على إثره العديد من البنايات التي تضررت من الزلزال الأول. ومع الأسف، لا تكفي الكلمات لوصف آثار هذا القدر المهول من الدمار.
وبعد التجربة المؤلمة لزلزال عام 1999، الذي بلغت قوته 7.8 درجة، نجحت تركيا دولةً وشعباً في الاستجابة بسرعة أكبر بعد زلزال السادس من فبراير/شباط. وتحظى أول 24 ساعة بعد الزلزال بأهمية بالغة على صعيد جهود البحث والإنقاذ؛ حيث سارعت رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ، وفريق الإنقاذ الطبي الوطني، والجيش، والعديد من المنظمات الأهلية لبدء أنشطة البحث والإنقاذ بطريقةٍ منظمة. ومع ذلك، تسببت العديد من العوامل في عرقلة جهود البحث والإنقاذ من ناحية، وترك ضحايا الزلزال في وضع عصيب من ناحيةٍ أخرى. في البداية، أدى امتداد أثر الزلزال على مساحة كبيرة للغاية إلى إظهار عدم كفاية العمل المُنجَز.
إذ لا تزال هناك بعض المناطق التي لا يمكن بدء البحث والإنقاذ فيها، رغم الأعداد الكبيرة من المتطوعين وفرق الإنقاذ والدعم، وذلك نظراً للمشكلات المرتبطة بتوريد مواد كالأدوات اللازمة ومعدات الإنشاءات.
ومن ناحيةٍ أخرى، تضررت الطرق والمطارات والأنفاق في المنطقة بشدة، وأُغلِقَت بعضها بسبب الزلزال. وبناءً عليه، تسبب هذا الوضع في ظهور مشكلات لوجستية، وزاد من صعوبة الظروف العصيبة أكثر. ونظراً لبرودة الطقس، أصبح الناجون من الزلزال ومن ينتظرون الإنقاذ تحت الأنقاض في حالة سيئة للغاية، بينما يواجهون خطر انخفاض درجة حرارة الجسم. وفي وضع كهذا، جرت تعبئة البلاد بالكامل بينما يحاول كل فردٍ بذل قصارى جهده. لكن تلك الجهود ليست كافيةً مع الأسف.
ولن يكون هذا المقال بمثابة تقييم تحليلي؛ بل سأحاول أن أنقل لكم الوضع، وأن أعبر عن مشاعري كتركي قدر المستطاع.
هناك في تركيا حالياً 13 مليون إنسان مات بعضهم تحت الأنقاض ونجا البعض الآخر، لكنهم يحاربون جميعاً من أجل حياتهم وسط ظروف بالغة الصعوبة، بينما يواجهون الجوع والبرد معاً. ودعوني أشرح لكم الوضع. عندما أقول إنهم يحاربون من أجل حياتهم، فأنا أعني كلماتي حرفياً. وإذا طلبت منك أن تخبرني بأبسط شيء أساسي يحتاجه المرء من أجل النجاة، فمن المرجح أن يقع اختيارك على شيئين:
الخبز والماء.. وهناك حالياً بعض الأماكن التي لا يمكن أن يصل إليها الخبز والماء في مناطق الزلزال. ولا يرجع السبب إلى نقص الخبز والماء في البلاد بالطبع، بل نتيجة المشكلات التي تواجه عملية نقل وتوزيع الخبز والماء. حيث أصبحت العديد من الطرق، والأنفاق، والمطارات في حالة خراب. ويمكن القول إن التنسيق المتزامن لجهود الإنقاذ في 10 مدن -يقطنها 13 مليون إنسان- يمثل تحدياً لا يستطيع أي بلدٍ في العالم اجتيازه. لكن السلطات، والمؤسسات، والشعب التركي احتشدوا جميعاً لمساعدة مناطق الزلزال بجهودٍ عامةٍ وشاملة.
وأتحدث هنا عن واحدةٍ من أكبر الكوارث المدمرة خلال العقد الماضي وعلى مستوى العالم. ونعم، هناك كوارثٌ أكثر تدميراً من مناطق الحرب في أوكرانيا، أو حتى في سوريا. ولا أعني هنا تصنيف تجارب المعاناة وتقسيمها بين الحروب والزلازل، ولا أقصد تحديد طبيعة الكوارث التي تسبب عناءً أكبر، بل أريد أن أنقل لكم مدى خطورة الوضع فقط. ودعوني أشرح لكم وجه الاختلاف بين الحرب وبين الزلزال. أولاً وقبل كل شيء، تُعَدُّ الحرب بمثابة موقف يُتيح لك اتباع استراتيجية معينة، واتخاذ الخطوات بناءً على توقعك للمخاطر. أي إن كل موقف يُؤخَذ بعين الاعتبار مقدماً في الحرب، ثم يجري اتخاذ الخطوات بما يتوافق معه.
وثانياً، تعتمد الحرب على الأهداف العسكرية عادةً حتى لو تسببت في قدرٍ من الدمار. ورغم أن الدمار يصيب أهدافاً مدنية، لكنه يغطي مساحةً محدودة ويستغرق فترةً زمنية محددة؛ مما يعني أن أسرع الحروب لن تكون سريعةً للغاية على صعيد الدمار المدني. وأخيراً، ينخرط الناس في الحرب لدوافع معينة.
ويمتلك كلا الطرفين مبرراته الخاصة التي يحارب من أجلها؛ لكن الزلزال يختلف عن الحرب تماماً؛ إذ تستطيع الكوارث من هذا النوع أن تُدمّر أي استراتيجية. وصحيحٌ أن خطوط الصدع واضحة هنا، وربما تصدُر بعض التنبؤات المرتبطة بالزلازل؛ لكن تلك التنبؤات قد تغطي فترةً زمنية طويلة للغاية، لدرجة أن الزلزال المتوقع بواسطة علماء الجيولوجيا قد يحدث بعد قرونٍ من موعده؛ لهذا تُعَدُّ الزلازل غامضةً من حيث زمانها ومكانها. ومن ناحيةٍ أخرى، يستطيع الزلزال أن يؤثر على عشرات المدن في دقيقة واحدة، تاركاً ملايين الناس وسط الحطام. واليوم، ليس هناك سلاحٌ يمكنه أن يُحدث تأثير الزلزال الذي ضرب تركيا دفعةً واحدة؛ لهذا يُمكن القول إن دمار الزلزال أكبر بمراحل، وإن إدارة أزمة كهذه أصعب بكثير من الحرب.
ويُعد الغذاء والمأوى أكثر ما يحتاج إليه الناس في منطقة الزلزال الآن بشكلٍ أساسي؛ إذ إن الأشخاص الذين لم تُدمر منازلهم بسبب الصدوع والهزات الارتدادية -الناجمة عن الزلزال- لا يمكنهم المكوث في بيوتهم. ونجح بعض الناس في الوصول إلى خيام، في ما ينام البعض داخل سياراتهم؛ بينما جرى تسكين بعضهم في المساكن الطلابية، ومعسكرات الجيش، والفنادق. لكن تلك المساحات ليست كافيةً أيضاً لأن الأعداد ضخمة. أما على صعيد الغذاء، فقد جرى تجهيز طرود المساعدات من كافة أنحاء تركيا، لكن تظل هناك مشكلات مرتبطة بالنقل والتوزيع. وساهمت العديد من دول العالم في توفير فرق البحث والإنقاذ، ومختلف المعدات، والمساعدات النقدية والعينية. وتشمل تلك القائمة أذربيجان، وقطر، وألمانيا، وباكستان، وغيرها من الدول.
ومع ذلك يظل وصول المساعدات الواردة والفرق الأجنبية إلى المنطقة صعباً للغاية. ومن ناحيةٍ أخرى، يعاني المتطوعون الذين يصلون إلى المنطقة من نقص الغذاء والماء أيضاً، كما هو حال ضحايا الزلزال. ونظراً للمشكلات التي تواجه معدات البحث والإنقاذ، بدأ الناس على الشبكات الاجتماعية في مشاركة عناوين أقاربهم وأصدقائهم تحت الأنقاض، بينما ينتظرون وصول المساعدة لإنقاذهم. وبهذا يجري تداول آلاف الرسائل بين الناس، لكن الوقت ليس في صالحنا؛ إذ يعيش الأشخاص الذين دفنوا تحت الأنقاض في مواجهة مباشرةٍ مع الموت، نتيجة الجوع وبرودة الطقس. ولهذا فإن أقوى شعورٍ يُهيمن على الأشخاص الذين لا يزال أقاربهم تحت الأنقاض هو شعور اليأس.
تُعبِّر هذه الصورة المُلتقطة في كهرمان مرعش عن وضع ضحايا الزلزال بكل وضوح. أبٌ لا يستطيع أن يترك يد طفلته التي دُفِنَت تحت الأنقاض وفارقت الحياة. ولا يحمل وجهه تعابير حزنٍ أو غضب، بل يبدو في حالةٍ من فقدان الشعور. بينما أفاد المتطوعون الذين ذهبوا إلى المنطقة بأن السكان المحليين شعروا بحالة فقدانٍ للإحساس نتيجة الصدمة على ما يبدو، بعد أن فقدوا عائلاتهم بالكامل أو بعض أطفالهم أو العشرات من أقاربهم في هذا الدمار. ولا شك أنه شعورٌ يتجاوز الحزن…
وكان الزلزال في تركيا متوقعاً منذ وقتٍ طويل، وقد جرى اتخاذ العديد من الخطوات في هذا الصدد. لكنّ أحداً لم يتوقع أن يكون الدمار مهولاً لهذه الدرجة. ومن المؤكد أن كل التدابير ستذهب سُدى في مواجهة هذا القدر المهول من الدمار. ويجب اليوم على تركيا أن تقبل بواقع الزلازل وتتحول إلى نظام العمارة الياباني، حتى تضرب مثلاً للعالم بأسره. وبدلاً من اتخاذ الإجراءات أثناء وبعد الزلزال، لا بد أن تُشيّد هياكل البناء بطريقة تحول دون تدميرها في الزلازل. ولا بد من زيادة لوائح الزلازل الحالية، وفرض صرامة أكبر على الضوابط؛ إذ يتمحور المفهوم الأساسي هنا حول الالتزام الصارم بالعمارة الأفقية.
ولا شك أن ما يثلج الصدر في هذه الكارثة برمتها هو مدى وحدة الشعب التركي، وكذلك العالم أجمع، في مواجهة كارثةٍ كهذه. وقد نفدت السلع الأساسية مثل طعام الأطفال، والحفاضات، والغذاء المُعلّب، والبطانيات، والمناديل من جميع المتاجر في تركيا حالياً. ويرجع السبب إلى قيام الجميع بشراء وتغليف تلك المنتجات من أجل تعبئة شاحنات المساعدات. ومن المؤكد أن الدعم على الساحة الدولية يؤثر في مشاعر الشعب التركي.
حيث تصدّر أصدقاء وأشقاء تركيا التاريخيون في قطر، وأذربيجان، وباكستان قائمة الدول التي تقدم المساعدات. ويشمل هذا اليونان التي توترت علاقتها بتركيا مؤخراً؛ حيث وعدت بتوفير كافة أشكال المساعدة. وعلى صعيدٍ آخر، سنجد أن الرسالة التي كُتِبَت على طرود المساعدات التركية لإيطاليا -أثناء أصعب فترات الجائحة- قد عادت اليوم في طرود مساعدات الزلزال، التي أرسلتها إيطاليا إلى تركيا. إذ كانت رسالةً بكلمات مولانا جلال الدين الرومي، وتقول: "هناك أملٌ بعد اليأس، والكثير من الشموس بعد الظلمة".
ولا خلاف على أننا سنتجاوز الكارثة إن عاجلاً أم آجلاً، وستُشفى كل الجروح. ولن يتبقى لنا سوى خسائر الأرواح والدروس المستفادة. ومن ناحيةٍ أخرى، لن ينسى الشعب التركي المساعدات التي حصل عليها. وآمل ألا تتكرر كارثة كهذه في أي بلدٍ من بلدان العالم. وفي الختام، سأشارككم أرقام حسابات رئاسة إدارة الكوارث والطوارئ أدناه، حتى تتمكنوا من أن تصبحوا الشمس في وسط العتمة. وأود ختام مقالي بتكرار كلمات مولانا التي ذكرتها أعلاه: "هناك أملٌ بعد اليأس، والكثير من الشموس بعد الظلمة".
حساب المساعدات الخاصة برئاسة إدارة الكوارث والطوارئ
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.