دائماً ما كنت أقف مشدوهاً ومندهشاً أمام تصوير الله -تعالى- للصحابة وهم في غزوة الخندق، إذ يقول سبحانه {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ} حتى عشت هذاالمعنى.
ففي فجر يوم الإثنين، 6 فبراير 2023، في مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا، كنت نائماً ومبيتاً في سكن للطلاب السوريين، وإذ بي عند الساعة الرابعة والربع فجراً أسمع صوت شاب جهوري يصرخ بصوت عالٍ، ويقول: "لا إله إلا الله"، ففزعت من نومي، وهرعت إلى باب غرفتي، وكان كل شيء يتحرك ويهتز حولي.
خرجت من الغرفة مسرعاً إلى باب الشقة لأتفاجأ بالكثير من الشباب والطلاب يتدافعون ولا يلوون على أحد، الكل يتدافع ويتزاحم حتى يخرج من البناء، وكأنها لحظة الحشر.
أخلينا عمارتنا السكنية لنجد الشارع مكتظاً بالعائلات والنساء والأطفال والرجال، الكل مرتعب، مذعور، ومرتعش من شدة البرد.
كنا ننظر لبعضنا البعض، ولا نعرف ماذا يحدث، وماذا سيحدث، إلا أن الحناجر كانت تتعالى: يا رب، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، حتى أن البعض كان يتهامس بأن يوم القيامة قد بدأ!
هدأ الوضع قليلاً، وظننا أن الزلزال قد انتهى، وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأت الكارثة الحقيقة، وبدأت المباني تتساقط من حولنا وبداخلها سكان لم يكونوا قد أخلوها بعد، أو ظنوا أنها مجرد هزة واحدة.
لقد رأيت في هذا اليوم أهوالاً لا أعرف كيف أنساها حتى الآن.
رأيت رجالاً ينهارون وينهمرون في البكاء وهم يحاولون إخراج جيرانهم وأهلهم من تحت الأنقاض، لكنهم يُخرجون جثث موتى لا أحياء.
رأيت شاباً في مقتبل عمره خرج من تحت الأنقاض بلا أبويه، يبحث عنهما وينادي بأعلى صوته باسميهما، لكن أصوات البكاء والصراخ والنجدة والإسعاف والتكبير تتداخل، ولا يقدر عقلك على استيعاب ما يحدث!
رأيت أناساً يرتعشون من شدة البرد، لكنهم لا يبالون، ويحاولون المساعدة والإنقاذ بملابسهم الرقيقة، المخترقة بسبب الزلزال، حينها قلت في نفسي:
لو كان الناس في أوقات السلام والأمان يغمرون بعضهم البعض بهذه الرحمة والإنسانية لتغيّرت الدنيا بأسرها.
هذه الأزمة جعلت الناس يتقاربون إلى حد كبير، فهذا يتقاسم طعامه مع الآخر، وذاك يذهب للتبرع بالدم، وثالث يسأل ماذا أفعل؟
الآن نحن نعيش في الشارع وتختلط عليّ المشاعر في مثل هذه اللحظات العصيبة التي أتذكر فيها حال المهجّرين السوريين، وحال مسلمي ميانمار، وكل الشعوب التي هُجّرت من أوطانها وبيوتها وتُركت في العراء.
إنها تجربة قاسية على النفس، أسأل الله -عز وجل- أن يخفف أثرها على الشعبين، التركي والسوري، لكني أظن أن أثرها سيظل باقياً في نفسي إلى الأبد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.