تحليلات وتوقعات وقراءات سياسية متعددة أعادها منطاد الصين الشارد فوق سماء أمريكا إلى الواجهة، ما بين رهانات على أنه عملية مقصودة لأغراض خفية، وأخرى تراه مجرد منطاد ضلَّ طريقه ليدخل أجواء دولة تتخبط في خلافات لا منتهية مع الصين، هذا الشبح الذي كان بإمكانه أن يعيد مصطلح حروب النجوم، وحروب الفضاء من جديد، في وضعية تشابه الحرب الباردة حين كانت المناطيد والقمر الصناعي سبوتنيك السوفييتية تدق أجراس الإنذار لدى الأمريكيين.
التوتر في العلاقات الأمريكية – الصينية عاد من جديد بين الفعل ورد الفعل حول المنطاد الذي حلَّق فوق رأس الأمريكيين لأيام، والذي اعتبرته واشنطن منذ الوهلة الأولى ذا أغراض تجسسية بالنظر إلى التوجّس الأمريكي الكبير من سياسات بكين، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالتجسس عبر المجال الجوي، أو عبر تقنيات الإنترنت الحديثة.
ما يعيد بنا الذاكرة إلى حادثة تطبيق "تيك توك" وكيف اعترفت شركة التطبيق الشهير، في أغسطس/آب 2020 أنها استخدمت التطبيق للتجسس على مراسلين صحفيين أمريكيين، وأن المعلومات تلك وصلت إلى مقرات الشركة في الصين.
أصرت بكين على رواية يصعب تصديقها معطية تفسيراً أن المنطاد كان يستخدم لبحوث الطقس وخرج عن مساره، وهنا يمكن القول إن السبب رغم سخافته إلى أنه قد يكون صحيحاً، فالصين لن تغامر بمنطاد تجسس، وهي تعلم جيداً أنه في أي وقت يتم الكشف عن عملية تجسس فتحصل الدولة المستهدفة على مبررات، وكيف سيكون الأمر لو كانت تلك الدولة أمريكا؟
إن تحليق المنطاد الصيني فوق مواقع أمريكية حساسة قد يكون له سبب آخر، فالتوقيت اللافت الذي دخل فيه المنطاد خط الأزمة، والذي تزامن مع عشية زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى بكين بعد قطيعة لسنوات؛ حيث كانت آخر زيارة لوزير خارجية أمريكي للصين عام 2018، والرهانات الكبيرة التي كانت معلقة على تلك الزيارة، والتي على رأسها تحسين العلاقات بين البلدين، غير أنها أُجلت لوقت غير معلوم، وهو ما فتح باب الشك فيما إذا كان المنطاد الصيني يهدف إلى تأجيل الزيارة بشكل غير مباشر.
إلغاء زيارة بلينكن يضاف إلى التوترات المتصاعدة بين القوتين العظميين، في وقت تتزايد فيه السياسات الحساسة بين القادة الديمقراطيين والجمهوريين الذي يرغب كل منهما بأن ينظر إليه على أنه متشدد بما يكفي حيال الصين.
في وقت لا تُبدي فيه هذه الأخيرة أية بوادر ملموسة لتحسين علاقاتها مع أمريكا، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من عدم اليقين في العلاقات الثنائية المتوترة بالفعل خلال الأشهر القادمة.
لم تكن زيارة بلينكن وحدها السبب في تفاقم أزمة المنطاد، فحتى استخدام القُوّة وليس الدبلوماسيّة في التّعاطي مع هذا الاختراق ومن الرئيس الأمريكي شخصيّاً، أدى بشكل مباشر إلى المزيد من سوء التقدير والتعامل مع المشاكل بطرق لا ترقى إلى مستوى خفض التوتر، غير أن الرد الصيني على إسقاط هذا المنطاد باستخدام القُوّة غير معروف حتى اللحظة.
لكنّ الأمر شبه المُؤكد أن رد الصين سيكون بإحدى الطرق التي اعتادت عليها كزيادة التنسيق بدرجة أكبر مع الحليف الروسي في الحرب الأوكرانيّة، أو بشكل مشابه لرد أمريكا بإسقاط أيّ طائرة، أو سفينة أمريكية تخترق الأجواء أو المِياه الإقليميّة الصينيّة في خليج تايوان أو بحر الصين، وهو ما قد يزيد من حدة التوترات بين بكين وواشنطن.
واقعة المنطاد ليست أول الخلافات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فلدى البلدين ما يكفي من الأسباب لتصعيد النزاع بينهما، على رأسها موضوع تايوان، وكذلك الدعم الصيني لروسيا وإيران وكوريا الشمالية، غير أنه لا يمكن إنكار أن هذه الحادثة أدخلت العلاقات الأمريكية – الصينية منعطفاً جديداً، وأياً ما كانت تبعات عملية إسقاط المنطاد، فإن الجهود الأخيرة التي بُذلت لتفادي صدام مباشر بين واشنطن وبكين لن تكون قادرة على تفاديه في حال ما إذا واصل أحد الطرفين استفزاز الآخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.