كان ثالوثاً صعباً على تركيا وسوريا حين اجتمع عليهما الزلزال وسواد الليل ومناخ عاصف شديد البرودة، فكانت الفاجعة التي هزّت وجداننا وأوجعت قلوبنا، فلم تشفع مآسي السوريين أن تترفق بهم الطبيعة حتى زادتهم ألماً على ألم، آلاف القتلى والجرحى واستنفار كامل لإغاثة المنكوبين.
تابعت المشاهد المؤلمة التي تتخللها قصص تراجيدية تستحق أن تُروى، فوجدتني أتخيل ما يحدث ويصوره بالقلم، وقلت لنفسي: كيف بدأت الحكاية؟ ماذا لو كنت هناك؟ كيف سترى المشهد؟ فقلت:
وقف بعيداً ينظر من تلة عالية تطلّ على مشهد بانورامي، أو إن شئت فقل مشهد سماوي تجلّت فيه جماليات القدرة الإلهية، مروج خضراء وطبيعة ساحرة، مناخ شتائي يُحفّز المشاعر ويلهب العواطف ويرخي الأعصاب، يُحررها من قيود التعب وفوران الغضب، وقَف مُغمض العينين فاتحاً ذِرَاعَيْهِ يستقبل نسيم الهواء برحابة صدر، يتسع أفق آماله إقبالاً ورغبة في الحياة، وينصت بأذنيه يسمع شدو البلابل في فضاء واسع، أرضه مخضرّة وجباله عالية تمر مرّ السحاب.
بينما نفسه منتشية بمناظر طبيعية أخاذة، سمع صوت رجّة شديدة قلبت كل شيء حوله، رجّة عنيفة حوّلت المنظر البانورامي البديع إلى منظر كابوسي، ومآس مروعة تفوق قدرة البشر، كان زلزالاً مدمراً حطم كل شيء، وأفسد عليه خلوته التأملية في القدرة الربانية.
ركض بسرعة نحو الأصوات التي تستغيث، فرأى البيوت تتهاوى فوق رؤوس أصحابها، والناس تجري في الشوارع كالمجانين وما هم بمجانين، ولكن غضب الأرض شديد، تحول هدوء الأرض وسلام الطبيعة إلى معركة شرسة مع البشر، كشّرت عن أنيابها وزلزلت البيوت من تحتها، وشُقت الأرض نصفين وأخرجت أثالقها، وقال الجميع ما لها؟ وتساءلوا: هل ربك أوحى لها؟
نُسفت المنازل نسفاً والناس تصرخ وتنادي والأرض صماء لا تسمع، بل تزداد غضباً كلما اشتد الصراخ وكثرت الحشود، وكأن لسان حالها يقول: إن تصرخوا سبعين مرة لن أسمع لكم!
غضب مروع لم يعهده أحد من قبل، كانوا يسمعون عنه في كتب أجدادهم وتاريخ بلادهم، انتفض الجميع واستنفرت الجهود لإنقاذ الناس، والمباني تتهاوى واحداً تلو الآخر، انغمس وسط الناس وشاركهم البكاء ومشاعر الحزن، حتى سمع امرأة تقول: "واه يا ابنتي، أهديتك قبراً وكنت أظن أنني أهديتك بيتاً"، فعلم أنها أهدت ابنتها بيتاً قبل يوم من وقوع الكارثة، فتحول حفل الأمس إلى مأتم اليوم.
تعمّق أكثر وسط الحُطام فوجد صوتا رخيماً لا يكاد يُسمع لضعفه ووهن مصدره، كانت فتاة صغيرة سقط فوقها حائط لكنه ظل مائلاً، كانت تحتضن طفلاً صغيراً ويدها على رأسه تحميه من الأذى، وحين أحسّت بمن يقترب منها قالت: "أنقذني يا عمي وأنا بصير خدامة إلك!".
هكذا نطقت ببراءة ممزوجة بعجز طفولي تحت صخرة صماء أشد قهراً، كلمات بريئة غمرت قلبه بالحزن وشلّت حركته، ثم نظر بعينه ذات اليمين فرأى أباً مكلوماً يمسك بيد ابنته تحت ركام بيته، تعلو ملامح وجهه معانٍ بليغة اختصرتها نظراته وصمته وكأنه يقول: لا بلاغة تفوق بلاغة المشهد وأهواله.
ظل يجري هنا وهناك يساعد الجرحى ويواسي المكلومين وينقذ من غمرهم الركام، ورغم هول الموقف وشدة المحنة، رأى زلزالاً أشد وأقوى من زلزال الأرض، رأى التعاضد والتكاتف، لمس عملياً الروح الواحدة والعاطفة المشتركة، الجميع ينصهر في شعور واحد، لا صوت يعلو فوق صوت الإنسانية، لا مكان لغربة اليد واللسان، سادت لغة واحدة يفهمها الجميع، والتأمت جراح وشروخ تحت وطأة الكارثة، وكأن الأزمات جاءت لترمم سنوات من الكراهية والعنصرية.
تزلزلت الأرض وتحطمت لكنها في المقابل عالجت ورمّمت، حين أحبوا بعضاً ولم يختلفوا، عندما تسابقوا في عمل الخير ولم يكترثوا، فوقف متعجباً من رؤية هذا السيل الجارف من المشاعر وفيض الإنسانية الغزير، وقال لنفسه: هل كنّا بحاجة إلى وقوع زلزال ليخدم بعضنا بعضاً؟ لماذا لم نسمع أصواتاً عنصرية تدعو للمفاضلة بين الناس في أولوية الإنقاذ؟.
ظل يتساءل حتى هداه عقله إلى فهم عميق لحكمة ما يراه، فقال: ما وُجدت هذه الأزمات إلا لتكون حارساً لإنسانيتنا، باعثة لكل معاني الرحمة المركبة في النفس، وهذا من بعض أسرار القدر، أنه جعلنا بالألم والشقاء رحماء فيما بيننا، فلولا تلك الأزمات لعِشنا في الحياة مفاليس من كل خير، زلزلوا نفوسكم ليخرج منها كل معنى جميل وخلق أجمل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.