دار جدلٌ كثيف حول ضرورة إصلاح منظمة الأمم المتحدة، والوكالات التابعة لها، وتوسيع عضوية مجلس الأمن الدولي، وإعادة النظر في الدول التي تملك حق النقض "الفيتو"، والاستجابة للمتغيرات التي طرأت علی العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتی لاحت بوادر اندلاع حرب عالمية ثالثة تهدد بفناء الكون الذي نعيش فيه، خاصةً بعد نشوب "الحرب الروسية – الأوكرانية".
لكن وسرعان ما انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية، وحليفاتها، ودول الاتحاد الأوروبي، بشكل أو بآخر في العمليات العسكرية بالإمداد الكبير بالأسلحة الحربية المتطورة والمعدات اللوجيستية، والضغط الهاٸل علی الاقتصاد الروسي، بقصد تركيع الدب الروسي، وتمهيداً لفرض الهيمنة علی ذلك البلد الشاسع المساحة، المتعدد الموارد، المعتد بتاريخه، المتمسك بقيمه، الرافض للثقافة الغربية.
اتخذت الحرب لبوساً آخر يتعدی السيطرة علی الرقعة الجعرافية من أراضي جزيرة القِرم، وإقليم دونباس التابعتين لاوكرانيا قبل الحرب، والتي ضمتها روسيا لجمهوريتها الاتحادية، وارتفع سقف الاصوات التي كانت تنادي بضرورة إصلاح الأمم المتحدة، إلی وجوب قيام نظام عالمي جديد يسحب البساط من تحت أقدام أمريكا المهيمنة علی منظمة الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها، وهنا لن تجد روسيا نفسها وحيدة في هذا الميدان!
دور الأمم المتحدة في نيل الشعوب المُسْتَعْمَرة لاستقلالها
قبل الحرب العالمية الثانية كان هناك "نظام الانتداب" اسم الدلع للاستعمار، ومن الدول العربية، كانت هناك سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين تحت الانتداب الإنجليزي.
قامت شعوب هذه البلدان بثورات دامية ومتصلة ضد دولتي الانتداب، حتی نشبت الحرب العالمية الثانية، والتي بذلت فيها دولتا الاستعمار لشعوب هذه الدول وعوداً براقة، حملت أفكاراً جميلة، تُفضي إلی بزوغ فجرٍ جديد علی شعوب المنطقة، ويصح وصفها بأنها فكرة رائعة ولكنها ليست عملية.
في مٶتمر يالطا في جزيرة القرم علی ساحل البحر الأسود من ٤ إلى ١١ فبراير/شباط ١٩٤٥م، اجتمع روزفلت وتشرتشل وستالين، وكان من بين ما اتفقوا عليه قيام هيٸة للأمم المتحدة، يكون لها مجلس أمن دولي، ويكون لهم فيه مقاعد داٸمة، لها حق النقض "الفيتو".
بتاريخ ٢٦ يونيو/حزيران ١٩٤٥م جری التوقيع علی ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على أنها منظمة حكومية دولية، وحدد الميثاق الأغراض، وهيكل الإدارة، والإطار العام لمنظومة الأمم المتحدة، بما في ذلك أجهزتها الرئيسية الستة وهي: الأمانة العامة، والجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومحكمة العدل الدولية، ومجلس الوصاية.
المبدأ العالمي الجديد!
المبدأ العالمي الجديد يقوم علی أنّ الشعوب المتخلفة، والمستعمرة مسٶولية من مسٶوليات المجتمع الدولي كله، وأن العلاقة بين الدولة المستعمِرة، والدولة المستعمَرة، ليست علاقة خاصة بينهما، إنما هي علافة عامّة، ومن حق الأمم المتحدة، بل من واجبها كممثلة للمجتمع الدولي أن تتدخل فيها.
اتُّفِقَ علی تقسيم البلاد غير المُستَقِلة إلی فٸتين؛ الفٸة الأولی هي المستعمرات بوجهٍ عام، والفٸة الثانية هي المستعمرات التي كانت خاضعة لنظام الانتداب قبل الحرب، وكذلك المستعمرات التي كانت تستعمرها "دول الأعداء"، يعني دول ألمانيا وإيطاليا واليابان.
الدول من الفٸة الثانية وُضعَت تحت الوصاية، بما يعطي الأمم المتحدة حق الهيمنة علی هذه الفٸة، لكي تشرف "الأُمم المتحدة" عليها بتكوين جهاز خاص يُسمی "مجلس الوصاية" يُراقب إدارة الدولة الوصية للبلد المشمول بالوصاية، بكل ما في كلمة الرقابة من معنی، والهدف النهاٸي لتك الوصاية هو "إعداد شعب الدولة المشمول بالوصاية، للاستقلال الكامل، طبقاً لمعاهدة محددة".
كانت البلدان التي تحت الوصاية حوالي "11 دولة" معظمها دولاً إفريقية والدول الوصية هي: إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا ونيوزيلندا وأُستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وجاء تشكيل مجلس الوصاية بما يضمن الأغلبية في المجلس للدول القوية "ذات العضوية الداٸمة" في مجلس الأمن لإبطال أي قرار يهدد مصالحها، وهذا ما يفيد بأن الدول الوصية لم تكن راغبة في إنهاء وصايتها والجلاء عن البلدان التي سيطرت عليها، ومنحها الاستقلال.
الصومال تحت الوصاية
شعب الصومال يدين غالبيته بدين الإسلام، ولديه لهجات محلية كثيرة، لكنه يُفَضِّل اللغة العربية، ويتسمی بالأسماء العربية، ويمتهن الرعي والتجارة والصيد، وكانوا لا يهتمون بالزراعة، لأنَّها كانت في نظرهم حكراً علی المستعمر الإيطالي الذي يمتلك الجرارات والطلمبات والآلات الحديثة، وفي ذات الوقت لا يعرفون هم الوساٸل البسيطة كالمحراث والساقية والشادوف وغيرها من الأدوات اليدوية.
كان الصومال مقسماً بين الدول المستعمِرة، إنجلترا، وفرنسا وإيطاليا، عندما فرضت عليه الأمم المتحدة الوصاية، وعينت لذلك مجلساً كان أحد أعضاٸه "السفير المصري كمال الدين صلاح"، والذي قَدِم إلی الصومال "بهذه الصفة الأُممية".
المبعوث الأممي المصري في الصومال
السفير كمال الدين صلاح، دبلوماسي مصري مهني محنَّك، عمل في بداية حياته بالسلك الدبلوماسي في "القدس" عام ١٩٣٦م، ومقاومة الاحتلال الإنجليزي الإسراٸيلي في أوجها، ثمَّ نُقِلَ إلی "اليابان"، حيث الحرب اليابانية الصينية هي مشكلة العالم الأولی، ومن اليابان، إلی "بيروت"، وكانت الحرب العالمية الثانية قد نشبت.
كان كمال الدين ينشط في مساعدة المجاهدين العرب الفارين من قبضة الإنجليز في فلسطين والعراق وإيران إلی بيروت، الشيء الذي أزعج "لورد كليبرن"، الذي طلب من الحكومة المصرية سحبه من بيروت.
فكانت الحرب قد شارفت علی الانتهاء، فنُقِلَ إلی "سان فرنسيسكو" التي كان يوضع فيها حيتٸذ ميثاق الأمم المتحدة، ثمَّ أُلغي أمر نقله ونُقِلَ إلی اليونان، ومنها إلی عمان ثمَّ تشيكوسلوفاكيا، ثمَّ إلی دمشق ومنها إلی ستوكهولم، ثمَّ عُين قنصلاً في مارسيليا مركز نشاط الثوار الجزاٸريين.
ثمَّ اختير عضواً في مجلس الوصاية علی الصومال، والوصاية مدتها عشر سنوات من ١٩٥٠م إلی ١٩٦٠م لتنال بعدها دولة الصومال استقلالها، بعد إعداد شعبها ليكون مٶهلاً لإدارة بلاده بنفسه، ويا لها من فكرة راٸعة كما تبدو للوهلة الأولی، لكنها ليست كذلك عملياً.
جهود مصري للحفاظ على هوية الصومال
السفير المخضرم، الخبير الدولي "كمال الدين صلاح"، جاء إلی مقديشو، لكن ليس ممثلاً لمصر هذه المرة بل ممثلاً لهيٸة دولية، نبيلة المقاصد، مستقلة ومحايدة تهدف إلی تهيٸة الشعب الصومالي للاستقلال في الموعد المضروب، في عام ١٩٦٠م بالضبط كما يقول نظام الوصاية.
لم يكن غِراً لتنطلي عليه أحابيل المستعمر، فشرع من يومه الأول في بناء علاقات وطيدة مع شعب الصومال، يقول السفير في قصاصات مذكراته:
"قمت بجولة في أنحاء الصومال دامت أسبوعين، قطعتُ خلالها ثلاثة آلاف ميل، علی سيارة جيب، اجتزتُ أراضي صحراوية، وغابات استواٸية، ومناطق زراعية، ومراعي وسهولاً وهضاباً، ولقد اختلطتُ في هذه الرحلة بالأهالي، وتحدثتُ إليهم، وصليتُ معهم في مساجدهم، وخطبتُ فيهم شارحاً وضع بلادهم، والدور المناط بهم ليحققوا استقلالهم، ودور الأمم المتحدة لمساعدتهم".
يضيف: "إن الناس هنا في حالة فقرٍ شديد، كثيرون منهم يعيشون علی الفطرة كيوم هبط أبونا آدم إلی الأرض، عشرات الأُلوف شبه عُراة، يأكلون مما يحصلون عليه من الغابات، من صيد، ويشربون ألبان الإبل والأبقار والأغنام، لكنهم متقدمون جداً في فهمهم السياسي والقومي بشكلٍ عجيب".
"فتجد عندهم في أقصی الغابة من يمتلك "راديو ببطارية" يلتف حوله الآخرون لمتابعة الاْخبار يتابعون معاهدة الجلاء عن مصر، والحِلف العراقي التركي، ومٶتمر باندونق".
"لقد عاش الاستعمار في هذه البلاد لعشرات السنين دون أن يصنع لها شيٸاً، ويتجاهل المستعمر رسالة الأمم المتحدة للدولة المستعمرة لكي تنقل هذا الشعب إلی مستوی حضارة القرن العشرين، وأن تعلمه كيف يحكم نفسه، وكيف يُشارك ساٸر الشعوب جهادها التقدمي" انتهت قصاصة السفير.
قد عقد العزم السفير المصري كمال صلاح علی القيام بدوره، كممثل للاُمم المتحدة بأن يقف في وجه هذه المٶامرات، وقد اجتهد ما وسعه الجهد ضمن الإطار المحدد بتكليفه في البعثة، بدعم المطالب الصومالية في ترسيخ المقومات الأساسية لشعب الصومال الناشٸ والتي تتلخص في:-
- اللغة الرسمية وخيارهم اللغة العربية.
- الدين وخيارهم الأوحد هو دين الإسلام.
- التعليم الملاٸم لتاريخ الصومال وشخصيته.
- الكيان الاقتصادي الملائم.
سعی لاستقدام معلمين من الأزهر لتعليم اللغة العربية ومبادٸ الدين الإسلامي، وجابه العقبات التي وُضِعت في طريق ذلك، وسعی في استجلاب مزارعين مصريين، لتعليم الصوماليين أسس الزراعة التقليدية البسيطة.
كما سعی إلی توفير فرص تعليم شباب وطلاب صوماليين بالجامعات والمعاهد المصرية، وناضل من أجل ذلك، واحتد مع زملاٸه في المجلس ونافح من علی منبر الأمم المتحدة وجاهر بقناعاته هذه، حتی قررت الدواٸر الاستخبارية الغربية التخلص منه نهاٸياً وإخماد صوته وإلی الأبد.
لكنه كان ثابتاً علی خطِّه يجادل ويناقش بأقوی الحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ضد المحاولات الغربية لجعل لغتهم الإيطالية والإنجليزية هي اللغة الرسمية بدلاً عن اللغة العربية، إذ يتعذر تلقي علوم الطب والهندسة والأدب والفنون بلغة بداٸية كاللهجات الصومالية، وآزرته الأحزاب الصومالية، مثل حزب وحدة شباب الصومال، وبقية الأحزاب التي أصرت في مناقشاتها مع لجنة الأمم المتحدة علی التمسك باللغة العربية.
في ما حاربت اللجنة هذا الاتجاه، والذي يعني فتح الباب لانتشار اللغة العربية وروح التحرر، وبالمحصلة تهديد المصالح الغربية، بتحريضٍ خَفِي من مصر.
اغتيال مبعوث أممي مصري
بينما كان السفير الأممي يعبر الشارع أمام منزله هاجمه رجلٌ صومالي بسكين طويل غرسه في ظهره، عدة مرات، ليسلم الروح قبل بلوغه المشفی وراح فداءً للعروبة والإسلام، وكان رأس الرمح الذي أرادت به مصر أن تخترق به دياجير الظلام، وتسحق به روح الظلم الساٸد في الصومال.
وقد ذكر الصحفي المصري أحمد بهاء الدين مؤلف كتاب مؤامرة في إفريقيا "أن السفير كمال الدين راح ضحية استراتيجية عالمية واسعة والذي قتله هو الاستعمار في إفريقيا".
يعد هذا غيضاً من فيض لجهود رموز مصرية مخلصة للدفاع عن الأمم العربية والإسلامية، والإفريقية، علی مختلف الصُعُد، هذا بجانب وقوفها علی الدوام دعماً للمطالب المشروعة للشعوب الإفريقية، والعربية والإسلامية فی كل المنابر الدولية والميادين الأخری، وما كانت جهود السفير المغدور من أجل مصر، ولكن من أجل حق الشعوب في نيل حقوقها المشروعة حتی بذل روحه رخيصةً في سبيل المبادٸ، ومحاولاته المستميتة من أجل إشعال المزيد من الأضواء؛ لينير الدروب في أرجاء القارة السمراء، ليطرد الوحوش الاستعمارية الكاسرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.