ظلَّ السودان على المستوى الرسمي لكل الحكومات المتعاقبة عليه متشدداً من حيث المبدأ ضد أي علاقة تجمعه مع إسرائيل. أما على المستوى الشعبي، فقد يصل التشدد إلى مستوى العداء الصارخ ضد فكرة التطبيع نفسها حتى، وإن جاءت من السلطة الفلسطينية نفسها، أو من مجاهد في قامة الرئيس المرحوم عرفات.
ينبع عداء السودانيين ضد موجات التطبيع من سببين رئيسيين: أولهما الانتهاكات المستمرة التي تقوم بها إسرائيل للحقوق الفلسطينية بصورة متطرفة وممنهجة ومحمية ومدعومة من أمريكا والعالم الغربي. أما السبب الثاني: فهو عقائدي يوضح فيه القرآن والسنة كيفية تعامل المسلمين مع الطغاة والظالمين والمعتدين، إذ لا يمكن موالاتهم ولا مصالحتهم بسبب طغيانهم واعتدائهم.
لم يقل الإسلام إن هذا العداء مطلق وأبدي، ولم يقُل بسبب أفكارهم وعقائدهم، وإنما بسبب سلوكهم المتمثل في عدوانهم وظلمهم، خاصة إذا كان هذا العدوان والظلم على فئة مسلمة، وهو ينطبق بصورة كاملة على "إسرائيل" التي ما زالت تغتصب كل يوم مزيداً من الأراضي الفلسطينية وتهدم المنازل وتقتل القيادات والمواطنين وتنتهك حرماتهم.
كما أنها تعتدي على العديد من الدول العربية وكان من ضمنها السودان، كما تعربد استخباراتها في الفضاء العربي، و تخطط لتقسيم الدول العربية، تعلن ذلك صراحةً وتزرع الجواسيس وتجند العملاء.
للمقارنة بين موقف كل من حكومتي الرئيس السابق عمر البشير وخلفه الرئيس البرهان، فإن حكومة البشير كانت صارخة العداء ضد إسرائيل، بينما انقلب الرئيس البرهان على موقف السودان التاريخي رأساً عن عقب، بل وصلت به الجرأة أن وصف إسرائيل بأنها ليست عدواً.
ولخوف البرهان من ردة الفعل الشعبية العنيفة، فقد انتهج منهجاً لبناء العلاقة مع إسرائيل، اتسم بالمراوغة والتعتيم واستغلال الأزمات الداخلية لتمرير خطوات التطبيع المتلاحقة، وهذا ما سوف نفصله في هذا المقال.
البرهان والتطبيع
دون أي مقدمات، تفاجأ الشعب السوداني في بداية شهر فبراير 2020 بلقاء جمع بين الرئيس البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في دولة أوغندا، ولم يسمع الشعب السوداني بخبر ذلك اللقاء إلا عبر القنوات الفضائية الأجنبية، ولم يعرف تفاصيل الصفقة وبنودها التي بسببها تجاوز الرئيس البرهان كل الإرث السوداني في التعامل مع إسرائيل.
بعد افتضاح سر ذلك اللقاء، عقد مجلس الوزراء السوداني اجتماعاً وأصدر بياناً أدان فيه اللقاء وأكد أنه تصرف فردي من البرهان لم يخطر به الوزراء، إلا أن البرهان لبس بذلته العسكرية وسكّنهم بتصريحاته التي ذكر فيها أنه ومن أجل مصلحة بلاده مستعد للتعامل حتى مع الشيطان.
لكنه لم يحدد ما هي هذه المصلحة ومن الذي يحددها وكيف يحددها وهل فعلاً لا يمكن تحقيقها إلا عبر إسرائيل وهل يملك هو التفويض اللازم للقيام بها رغم أنه مجرد حكومة انتقالية، ولماذا لم يواجه شعبه بهذه الحقيقة إلا بعد أن فضحها الإعلام الخارجي. تميزت تصريحات الوزراء بالاضطراب والتناقض بين مؤيد ومعارض وصامت وسادت الفوضى في مجلس الوزراء، وسارعت الأحزاب السياسية في إصدار بيانات الإدانة مثل حزب الأمة القومي والحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب المؤتمر الشعبي وحزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وخطباء المساجد والمنظمات.. الخ.
بينما ظهرت القليل من الأصوات المرحبة بالتطبيع تمثلت، وانتهى الجدل عند هذا الحد ومرت الأيام وانغمس الناس في ضنك العيش ومتطلبات الحياة القاسية ومتابعة لعبة القط والفأر في العلاقات السياسية المضطربة وأحداثها المتلاحقة، وكأن شيئاً لم يكن فيما يتعلق بالتطبيع.
دور البيت الأبيض في تطبيع العلاقات
بعد لقاء أوغندا، وفي أكتوبر 2020 أعلن في البيت الأبيض عن اتفاق سلام يقود إلى التطبيع الكامل، بين السودان وإسرائيل، والذي بموجبه تم إنهاء حالة العداء بين البلدين، وفتح صفحة جديدة من التعاون مع التركيز على المجال الزراعي والطيران وتعزيز الديمقراطية وزيارة الوفود وإعفاء الديون ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية.
إلا أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب تم بواسطة صفقة أخرى دفع السودان بموجبها تعويضاً للإدارة الأمريكية قيمته 335 مليون دولار، ولتوفير هذا المبلغ قامت حكومة حمدوك بشرائه من السوق السوداء المحلية، وطباعة ما يقابله من العملة المحلية، مما تسبب في انهيار قيمة الجنيه السوداني من 65 إلى 550 مقابل الدولار الواحد، فارتفع التضخم من 70% إلى أكثر من 500% وتضاعفت الأسعار بأكثر من 30 ضعفاً وانعقدت 3 مؤتمرات خارجية لدعم حكومة السودان لم تحصل منها حتى على الفتات.
في 5 يناير 2021 وقع السودان في السفارة الأمريكية بالخرطوم على "اتفاقات إبراهام"، وهي الاتفاقية بين إسرائيل والدول العربية لتعزيز معاني التسامح والتعايش بين الشعوب في حياة تنعم بالأمن والكرامة!، ترى أي حياة كريمة تعيشها شعوب المنطقة وعلى رأسها الشعب الفلسطيني؟!
وقع عن الجانب السوداني وزير العدل، وهو طالب دكتوراه في إحدى الجامعات الأمريكية، بينما وقع وزير الخزانة الأمريكي كضامن، كما وقَّع السودان وأمريكا وبالتزامن، على اتفاقية أخرى تسهل حصول السودان على التمويل "وهذا ما لم يحدث حتى الآن".
زيارة إسرائيلية لمقار التصنيع الحربي السودانية
في نوفمبر 2020 أعلن رسمياً عن زيارة وفد إسرائيلي أمني استخباراتي؛ حيث فتح له الخرطوم أبواب منظومة التصنيع الحربي السوداني، دون أن يعلم أحد حتى الآن لماذا يركز الإسرائيليون على زيارة التصنيع الحربي السوداني، ولماذا فتحت لهم القيادة السودانية أبواب هذه المؤسسات الحساسة، التي مكتوب على أبوابها ممنوع الاقتراب والتصوير، للمواطنين، بينما تفتح لوفد مخابرات إسرائيلي!.
بتاريخ 2 فبراير 2023 تفاجأ السودانيون بزيارة لوزير خارجية الكيان الصهيوني إلى الخرطوم، وبتصريحاته المستفزة والمسيئة التي قال فيها: إن الخرطوم تحولت من عاصمة اللاءات الثلاث إلى نعم الثلاثة، وهي نعم للمفاوضات نعم للتطبيع نعم للاعتراف، ولم ينسَ الجملة الابتزازية، المبهمة أن الخرطوم من الآن فصاعداً، تستطيع الحصول على القروض والتمويل من المؤسسات الدولية.
من جديد ضجت الخرطوم بالبيانات المنتقدة وبخطب الدعاة في المساجد لا سيما صلاة الجمعة، والمقالات الصحفية المعترضة، بينما مسيرة التطبيع تمضي بقيادة البرهان وحميدتي وكأنَّ شيئاً لم يكن.
لقد انقسم المجتمع، وأصبح السودان مسرحاً لأجهزة المخابرات اعترف أحد وزراء الخارجية على عمالته وقال: "أعترف ولا أعتذر"، تعقيباً عن دوره في فرض عقوبات على السودان/ واستأسدت السفارات الأجنبية وصارت تسير الحكومة كيف تشاء، اعترف السيد حميدتي نائب رئيس المجلس السيادي السوداني اعترافاً موثقاً منشوراً بالصورة والصوت بأن السفارات الأجنبية هي التي تسيرهم.
العلاقة بين حكومة الإنقاذ والكيان الصهيوني
مثلت حكومة البشير أكثر الحكومات السودانية تشدداً ضد التطبيع، ومثل خطابها الديني الأيديولوجي رافداً مهماً في تقوية العداء ضد دولة إسرائيل، وترجمت ذلك بالتزامات إضافية تمثلت في مد فصائل المقاومة الفلسطينية بالسلاح والتدريب والدعم المادي والمعنوي والإعلامي، وبذلك تكون قد دخلت في عداء مباشر مع الحكومة الإسرائيلية، إلا أن كلمة وزير الخارجية السوداني الأستاذ "علي كرتي" أمام اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة.
في عام 2012، مثلت أكثر المواقف العربية عداء لإسرائيل في العقود الأخيرة، والذي لم يوجه انتقاده لإسرائيل، بقدر ما انتقد موقف الحكومات العربية وموقف الجامعة العربية في التخلي عن مبدأ المقاومة والبحث عن وهم السلام.
كما شنت طائرات إسرائيل خمسة غارات جوية على السودان في الأعوام 2009 "مرتين" و2011، و2012 و2017، وفي عام 1998 ضربت أمريكا مصنعاً للأدوية في الخرطوم وفي عام 2012 ضربت إسرائيل مصنعاً حربياً للذخيرة بمدينة الخرطوم.
لقد استغلت أمريكا وضع حكومة السودان غير المستقر، ووجودها على قائمة الدول الراعية للإرهاب والانقسام السياسي الحاد داخل المجتمع السوداني واستجابت بعض الدول العربية لتطبيق الحصار على السودان، بالإضافة إلى طلب بعض السودانيين من أمريكا لفرض عقوبات مشددة على السودان.
كما صرح لأول مرة وزير خارجية سوداني بدوره الشخصي في فرض العقوبات الأمريكية على السودان بقوله في تلفزيون السودان الرسمي: "أعترف ولا أعتذر"، وهو وزير خارجية السودان الأسبق في حكومة عبد الله حمدوك د. عمر قمر الدين وكان هذا التصريح عام 2020، حيث استغلت أمريكا هذا الوضع، لتضع شروطاً إضافية لرفع العقوبات والحصول على التمويل، وهو تطبيع الحكومة السودانية لعلاقتها مع إسرائيل.
لم تقلل حكومة السودان في عهد عمر البشير من موقفها المتشدد من التطبيع مقابل كل هذه التعقيدات والضغوط والعقوبات والحصار، بل دخلت في المرحلة الأولى من المفاوضات المباشرة مع الإدارة الأمريكية، والتي يتم بموجبها رفع كل العقوبات الاقتصادية عن السودان في عهد الرئيس أوباما.
ثم بدأت المرحلة الثانية من الحوار الثنائي المباشر والتي تم تحديد خمسة مواضيع ينبغي على السودان الإيفاء بها في توقيتات محددة تنتهي برفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، ولكن لم يكن التطبيع مع إسرائيل شرطاً في كل تلك المفاوضات، وما إن بدأت المفاوضات حتى قامت الثورة ضد الرئيس السابق عمر البشير، أما من الناحية الاقتصادية فقد كانت قيمة الجنيه السوداني في آخر عهد البشير 65 جنيهاً، مقابل الدولار، ولقد انخفضت قيمة الجنيه السوداني في عهد التطبيع ليرتفع سعر الدولار الواحد إلى أكثر من 550 جنياً سودانياً، وكان التضخم 70% في عهد البشير مقابل 500% في عهد حكومات التطبيع.
أوضحنا في هذا المقال تطورات العلاقة السودانية – الإسرائيلية خلال حكومتَي الرئيس البشير والرئيس البرهان، وأشرنا إلى المسار النقيض الذي سارت عليه العلاقة بين البلدين من العداء الصارخ في عهد البشير إلى التطبيع الكامل في عهد البرهان، بالإضافة إلى منهج التعتيم الذي أدار به البرهان هذا الملف حتى على بعض وزراء حكومته، حين أدلى بمقولته المشهورة: "أنا مستعد للتفاوض حتى مع الشيطان من أجل مصلحة بلادي".
فهل فعلاً سيجني السيد البرهان ثمار التطبيع المحصورة في قضيتين، هما رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب ورفع القيود على حصول السودان على قروض التمويل؟ فقد تم إقحام القضية الأولى بسبب ضعف حكومة البرهان رغم دفعها تعويضاً بقيمة 336 مليون دولار.
أما قضية الحصول على القروض من صناديق التمويل الدولية، فهي مجرد ابتزاز أثبتت الدول الكبرى أنها لا تفي منه إلا بالفتات، وأن روشتة البنك الدولي ما هي إلا وسيلة لمزيد من التبعية السياسية والإفقار الاقتصادي.
لذلك لم يكن السودان مضطراً للتطبيع في وجود خيارات أخرى أقل تكلفة، وفوق ذلك، فإن التطبيع نفسه لم تتم إدارته وفق خطة قومية استراتيجية تحقق المصالح الاستراتيجية الكبرى.
وأخيراً.. فإن التطبيع قضية كبرى تفوق تفويض الحكومات الانتقالية، وليس مخولاً القيام به إلا عبر حكومة منتخبة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.