أعلنت الأسبوع الماضي أسرة الشاب السوداني المدان هو وأربعة آخرين بمقتل الدبلوماسي الأمريكي "جون غرانفيل" وسائقه الخاص عبد الرحمن عباس عام 2008، إطلاق سراحه بصورة رسمية بعد 15 عاماً من السجن كان قد قضاها في انتظار تنفيذ حكم الإعدام عليه بسجن (كوبر) بمدينة الخرطوم بحري.
عبد الرؤوف أبوزيد محمد حمزة هو نجل الداعية السلفي "أبوزيد محمد حمزة" أحد أبرز شيوخ الدعوة السلفية في السودان ويعتبر من المرجعيات الفكرية لجماعة "أنصار السنة المحمدية" الدينية بالسودان، ومن السلفيين الأوائل الذين عرفوا بالتمترس الفكري الحاد الذي غزوا به بلادنا ولا تزال أفكارهم المتشددة منشرة بفكرهم الكاره للفِكر الصوفي المتسامح منذ عشرات القرون في السودان.
القرار الذي أصدرته المحكمة العُليا في البلاد يوم الإثنين الماضي بالإفراج عن عبد الرؤوف، برأيي خطأ كبير وفادح أساء لكل التقديرات الممكنة في هذا التوقيت بالذات.
وهذا بلا شك سيضر بعلاقاتنا الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية طال الزمن أم قصر إن لم تحل مثل هذه القضية بشكل جذري وواضح، تبقى هذه الدوامة وتبقى الاستفهامات الكبيرة بلا أجوبة.
لماذا أطلقوا سراحه الآن وبأي حجة؟
حتى يومنا هذا لم تُعلق أي جهة رسمية في البلاد على إطلاق سراحه، وظل فقط شقيقه يقول في تصريحات: "إن عملية إطلاق سراح أخيه جاءت بقرار من المحكمة العليا استندت فيه المحكمة إلى التسوية التي سرت بملايين الدولارات في العام 2020 بين ضحايا الهجمات الإرهابية والسلطات السودانية في ذلك الوقت"، لرفع السودان من قائمة العقوبات.
الأمر الذي تنفيه الولايات المتحدة الأمريكية جملةً وتفصيلاً على لسان الناطق الرسمي باسم خارجيتها نيد برايس، الذي نفى في بيان قال فيه: "ليس دقيقاً أن الولايات المتحدة الأمريكية وافقت على إطلاق سراح عبد الرؤوف في إطار اتفاق 2020 الذي أدى إلى شطب اسم السودان من القائمة السوداء للدول الراعية للإرهاب"، وأعرب برايس عن انزعاج بلاده إزاء ذلك القرار، ودعا الحكومة السودانية للتراجع عنه.
هكذا جاءت ردة فعل الولايات المتحدة الأمريكية.
استراتيجياً، هذا رد طبيعي في ظل صمت حكومة السودان الغريب الذي جعل أمريكا وبصورة رسمية تعرب عن قلقها وتصف العملية بأنها من جانب واحد، أي من طرف السلطات السودانية فقط، دون التوصل معها إلى تسوية حقيقية تطوي ملف القضية الإرهابية، وطالبت بإعادة القبض عليه مجدداً.
الأمر الذي يفسر جلياً بأنها غير راضية تماماً، والذي يثير القلق أكثر بأن تعود وتتأثر العلاقات بين البلدين رغم التعافي الكبير الذي كانت قد شهدته في عهد فترة حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وتطورت حتى استقرت في أغسطس 2022 بإرسال واشنطن سفيرها الحالي (جون غودفري) كأول سفير لها يحل في الخرطوم منذ 25 عاماً من تدهور العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ما بين الماضي والحاضر ظلت علاقاتنا الدبلوماسية مع أمريكا متأرجحة في ظل تعاقب الحكومات العسكرية المختلفة التي عادةً ما تنقلبُ على الحكومات المدنية قصيرة الأجل وسرعان ما تخطفُ المشهد برمته، ونشهد مثل هذه التطورات ليبقى السودان في مكانه، في ضوء مناورات إقليمية ودولية متكالبة على بلادنا، لإبقاء العسكريين في سدة الحكم مهما كلف الأمر، حتى تتحقق مصالحهم وتستفيد حكوماتهم من مثل هذه الكروت لأجل الضغط، وإن كان ذلك على حساب السودان وشعبه لا يهمهم في شيء.
الأمر غير عادي، فشتان ما بين أن تُخلي المحكمة العليا في البلاد سراح شخص عادي مُدان في قضية جنائية عادية قضى فيها فترة حكمه، وشخص مدان بجريمة إرهاب عالمية اعترف بفعلها الشنيع، وهو لا يُنكر ذلك حتى في إفاداته المسجلة لوسائل الإعلام.
إن إطلاق سراحه في هذا التوقيت لغرضٍ ما ولردة فعلٍ ما تريده سلطة الانقلاب سواء بإرادتها أو بإرادة دول حليفة لها رُغم التغييرات الكبيرة والثورة المناهضة لها ما زالت الضغوط عليها تتوالى بشكلٍ كبير لحثها على استخدام ربما آخر كروتها، مثل إطلاق سراح هذا الشخص وإن كان يشكل خطراً حقيقياً لأمننا القومي إن لم يكن يشكل إخلاء سبيله تهديدات دولية وإقليمية حال تمكن من الهرب أو لم يتمكن بكل تأكيد، كل شيءٍ وارد.
ليس دفاعاً عن أمريكا ولا حباً فيها، ولا حباً في اعتذار عبد الرؤوف للشعب الأمريكي ولا لطلبه بالعفو الشخصي عنه، فذاك شيء وهذا آخر، على الرغم من قوله إنه نبذ كل تلك الأفكار المتطرفة خلفه بعد مراجعات فكرية عميقة، وإنه لم ولن يعود ينتمي إلى أي منظمة أو جماعة أخرى، أقول: تبقى جريمته ومن معه وصمة عار تلاحقهم وحدهم، وتبقى مصالح بلادنا العليا وأمنها القومي هي الأهم من أخطاء الشُخوص وتوبتهم الذاتية عن شنائع الفِعال.
على الدولة ألا تتعامل بالعاطفة ورود الأفعال بل بالذي هو أعدل وأقوم وإعادة النظر في هذه القضية ومراجعة قرار إطلاق سراحه ضرورة؛ للتوصل لحلول مع الإدارة الأمريكية وأسرة المواطن الأمريكي القتيل والسوداني القتيل بشكل رسمي لإنهاء هذا الملف بشكلٍ كاملٍ دون أي نقوص؛ لتكون العدالة الحقيقية هي الفيصل.
إن عدم التوصل إلى تفاهمات بالتأكيد سيؤثر على دبلوماسية العلاقات بين البلدين حاضراً ومستقبلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.