لن يكون المجلس العسكري في السودان آخر حلقات مسلسل الهرولة والانبطاح في حضن إسرائيل، فقد بدأت الأحداث تتسارع في السنوات الأخيرة، وتنكشف خيوط اللعبة، وتتزايد التحالفات من خلال اتفاقيات التطبيع، التي يمكن قراءة نتائجها من قراءة تاريخ الكيان الصهيوني الاستعماري في المنطقة العربية.
عودة نتنياهو للحكم كان المؤشر للاستمرار في إكمال سلسلة التطبيع المجاني، الذي ظهر على سطح الأحداث بشكل مفاجئ ودون أسباب ظاهرة، والتطبيع مع العدو في حقيقته بدأ منذ معاهدة "كامب ديفيد" 1978 مع مصر، وتلاها ما تلاها من "اتفاقيات أوسلو" 1993 مع السلطة الفلسطينية، و"وادي عربة" 1994 مع الأردن، وهي دول دخلت سابقاً في حروب مع الاحتلال.
أما الموجة الحديثة من التطبيع، والتي قد يكون السودان أحدث حلقاتها، فإنها تتميز بالبعد الجغرافي عن فلسطين، وتأتي بعد مرحلة "الربيع العربي"، ولا شك في أن حكومة الاحتلال تسعى من خلالها للبحث عن مكتسبات في العالم العربي، قد تكون مقدمتها اتفاقيات اقتصادية وتبادلاً تجارياً وتنسيقاً أمنياً وعسكرياً.
وفي المجمل، فإن هذه الاتفاقيات تحتاج لجهد أمني واستخباراتي عالي المستوى ومكلف جِدّاً، وذلك من أجل استمراريتها لأطول فترة زمنية، فهي على المدى البعيد محكوم عليها بالفشل، وذلك للعديد من الأسباب، أبرزها أن الكيان الصهيوني بحد ذاته أبرز أسباب فشلها، فهو كيان استعماري لا يعترف إلا بالمصالح، ويبحث عن التوسع، ولا يثق بأحد في المنطقة.
كذلك فإن تلك الاتفاقيات لن تخرج عن إطارها الرسمي، فهي لا تمتلك أي حاضنة شعبية، والشعوب العربية لا تختلف عن الشعب الفلسطيني، في نظرتها للاحتلال بأنه كداء السرطان في الجسم العربي، ولا بد من إزالته حتى تحظى هذه المنطقة بالسلام الحقيقي.
أدركت حكومات الاحتلال استحالة اختراقهم لشعوب المنطقة، وهي التي تشكل تهديداً وجودياً للكيان، وذلك أحد أسباب لجوئها لهذه السلسلة الأمنية من التوسع الجغرافي في العلاقات، خصوصاً مع فشل الاحتلال في فرض سيطرته على الشعب الفلسطيني وتطور مقاومته، فجاءت سلسلة التطبيع الحديثة دون أي مقابل، وذلك ما يثير الشكوك حول خفايا تلك الاتفاقيات والأدوار المطلوبة من جميع الأطراف.
وبمراجعة تاريخية للوضع الداخلي في جميع الدول التي وقعت سابقاً اتفاقيات مع الاحتلال، فإنها لم ترَ خيراً منذ توقيع تلك الاتفاقيات المشؤومة، وتعيش مصر والأردن مراحل صعبة، بينما أصبحت السلطة الفلسطينية معزولة تماماً عن الواقع والشعب الفلسطيني، وأصبح دورها محصوراً بالتنسيق الأمني بمقابل مالي، وفقدت قيمتها وبريقها الذي صنعته المقاومة يوماً ما.
وأما تأثير تلك الاتفاقيات على الشعب الفلسطيني في الداخل والمهجر، فإنها في المرحلة الأولى لها تأثيرات متعددة، لا تلبث أن تزول بمرور الوقت، ويبقى منها الأثر المعنوي، فالدول العربية في حقيقتها امتداد قومي وديني لتحرير فلسطين، وترتبط مع الشعب الفلسطيني في وحدة المصير.
والمقاومة الفلسطينية بشقيها التنظيمي والفردي اشتد ساعدها كثيراً، وقد أصبحت في السنوات الأخيرة خارج إطار توقعات المؤسسة الاستخباراتية اليهودية، والدليل على ذلك ما تسرَّب من أخبار عن متطلبات بلينكن، ومدير جهاز المخابرات العامة الأمريكية، في اجتماعاتهم مؤخراً مع قيادة السلطة الفلسطينية، وطلبهم فرض إعادة السيطرة على بؤر المقاومة في نابلس وجنين، والتي أصبحت تمثل عبئاً كبيراً على الاحتلال، كما فعلت غزة سابقاً.
وفي كل الأحوال لن يقترب تأثير الاتفاقيات المجانية من المستوى الذي وصل له تأثير زلزال اتفاقية كامب ديفيد قبل أكثر من أربعة عقود، والتي وعلى الرغم من وقعها الصعب في حينها، فإن مقاومة الشعب الفلسطيني تطوّرت كثيراً بعد تلك المعاهدة، رغم أنها جاءت كالخنجر المسموم من الشقيق الأكبر في خاصرة العرب جميعاً.
لا شك في أن الكيان الصهيوني يعمل وفق مبدأ "النفس الطويل"، وفق خطوات مدروسة جيداً على الصعيد الاستخباراتي، ولكن خيبته ستبدأ من سوء نواياه الاستعمارية وطموحاته التوسعية، ولذلك فإن أول مسمار سيُدق في نعش الاحتلال، ويكتب نهاية وجوده في المنطقة، أن اتفاقيات التطبيع ستعمل بمرور الوقت على "تدويل الأزمة"، وتوسيع رقعتها الجغرافية والشعبية، وتدخل أطراف أخرى في قلب الحدث، بعد أن كانت ولزمن طويل تكتفي بالمراقبة من بعيد والدعاء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.