من ألحان سيد درويش إلى راب ويجز.. ما الأسباب التاريخية التي غيّرت الموسيقى في مصر؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/04 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/04 الساعة 12:41 بتوقيت غرينتش

نحتاج للبحث في كل مرة نظن فيها أننا نعرف كل شيء، وأن ما هو في صدارة المشهد الحالي ليس إلا نتاج تحولات ضخمة سابقة. ولعوامل عديدة منها الاجتماعي والثقافي والسياسي نتطرق لكتابة حقيقية عن الأسباب التي أسهمت في صنع المشهد الموسيقي في مصر، وكيف تتطورت الأغنية في مصر، وما الذي كان قبل الأغنية، وما الذي يدفع المتصدر للصدارة. تُجيبنا "فيروز كرواية" المطربة والباحثة المصرية عن أسئلة عديدة في كتابها الصادر حديثاً عن دار "ديوان" للنشر والتوزيع، والبداية من السؤال الذي طرحه عنوان كتابها.

كل ده كان ليه؟ في البدء حيث الطقطوقة والعوالم

في مقدمة الكتاب يقول الناقد الموسيقي اللبناني "فادي العبدالله"، إن هذا الكتاب لا يمكن اعتباره كتاباً تأريخياً بالرغم من أنه يتحدث عن حقب عديدة، بدأت وانتهت من خلال سرد أدق التفاصيل، وهو أيضاً ليس كتاباً عن أسباب صدارة مطرب بعينه أو لون موسيقي واحد عن باقي الألوان، وليس عن علاقة الموسيقي والموسيقى بالسلطة، في الحقيقة هو كتاب عن كل هذه الأشياء.

تبدأ فيروز كتابها من نهايات القرن التاسع عشر، وتبدأ في شرح الحالة الاجتماعية والسياسية أولاً لهذا الوقت، والتي بالطبع تنعكس على الأوساط الثقافية والفنية والموسيقية في كل عصر.

الطقطوقة والعوالم

في البداية توضح فيروز التطورات المختلطة عن الكلمة الواحدة، فمن الطبيعي في وقتنا الحالي ألّا نلتفت للفارق بين كلمتَي العوالم والغوازي، ولكن فيروز تقول في الصفحة رقم 20 من كتابها:

"ظهر تصنيف لفنانات الأداء في تلك المرحلة- والمقصود بها القرن التاسع عشر- يميز بين الغوازي (الراقصات) من جهة، ومن جهة أخرى العوالم، وهن المغنيات العالمات بفنون كتابة الأشعار والتلحين والارتجال. ترتقين في مجال عملهن إذا اكتسبن المعرفة بالمقامات الشرقية والقدرة على عزف الآلات الموسيقية مثل العود والآلات الإيقاعية، كان لا بد للعالمة أن تمتلك صوتاً حلواً، ومعرفة جيدة باللغة، وقواعد نظم الشعر والتلحين التلقائي لمقطوعات ملائمة للمناسبات، بما يسمح لها أن تغني على سطح مرتفع داخل الحرملك، كان مخصصاً للتخت المصاحب لها من ثلاث أو أربع نساء". ثم تُشير في الصفحة التالية لتعريف آخر هام عن الغوازي، فتقول: 

"أما الغوازي فهن الراقصات اللواتي ترقصن سافرات في الشوارع، وأمام المقاهي، وفي الموالد، وأحياناً على هامش حلقات الذكر والإنشاد، باستثناء شهر رمضان. وبين الفئتين- العوالم والغوازي- ظهرت تنوعات لمؤديات الطبقات الشعبية، أو عوالم وغوازي شعبيات، تؤدين الغناء والرقص للفئات الشعبية والعاملة في أحيائها الشعبية ومناسباتها".

يوضح التعريف الفارق الكبير بين المصطلحين، ورغم ذلك يذوب هذا الفارق كُلياً مع الزمن بين عامة الناس، ولا يصبح معروفاً إلا بين أغلب المعنيين باللغة أو بعالم الفن. 

في القرن التاسع عشر وحتى اختفاء الطقطوقة كفن موسيقي في القرن العشرين، مع ظهور نجوم الأغنية الطويلة والإذاعة والتلفزيون، شهد المشهد الموسيقي المصري تحولات كبرى، بسبب أحداث اجتماعية وسياسية مهمة، يمكن أن نعتبر من أبرزها ملل الجمهور من الطقطوقة وميله نحو التجديد، أو محاولات وصم كل ما كان قبل ثورة 1919 مجرد غزو ثقافي، وكل ما صاحبه كان مُنتجاً غير أصيل، لا يُعبّر عنّا باعتباره تُركياً من بلاد الدولة العثمانية؛ لذا لا يمكن الاعتداد به أو البناء عليه، رغم أن هذا الرأي يصلح- على حد تعبير فيروز- كرأي سياسي أكثر من كونه ثقافياً أو يعبر عن منتج موسيقي من الطبيعي أن يشترك في إنتاجه العديد من العوامل، بالإضافة لطبيعة أي موسيقى في كونها مزيجاً متعدداً من كل ما سبقها لصنع لون مختلف وجديد.

أسطورة سيد درويش: الرجل الحاضر دائماً!

وُلد درويش في عام 1892 في الإسكندرية، وحضر للقاهرة في 1917 وقدّمه على المسرح الشيخ "سلامة حجازي"، الذي أسهم في تطوير المسرح الغنائي بشكل كبير بمحاولاته العديدة لإيجاد روابط بين اللحن والكلمة أو الدراما والتلحين. وفي سنوات قليلة نجح "سيد درويش" في ترسيخ مكانة حقيقية له، يتم استدعاؤه من خلالها بعدها بعدة سنوات في مؤتمر الموسيقى العربية 1932 رغم وفاته قبلها بتسع سنوات، إلا أنه وبسبب محاولاته في خلق منتج موسيقي مصري يحمل في طياته هوية غير مستعارة كُلياً من الخارج.

سيد درويش

 تلعب الأحداث السياسية دوراً بارزاً في قصة الصدارة والنجاح، وتقول فيروز كرواية في كتابها، إن ريادة سيد درويش جاءت من خلال غنائه لثورة 1919، والتي كانت حدثاً وطنياً مهماً منح لموسيقى درويش دورها القومي، ومنحه مشروعية الريادة للتجديد، وإضافة وحذف ما يراه مُناسباً ليصبح منتجاً موسيقياً مصرياً.

"في اللحظات التاريخية الفاصلة تحتاج القوى الجديدة وممثلوها إلى إنتاج سردية جديدة تُكرس دورها كطليعة قيادية، وتشرح اتجاهها الأيديولوجي. وبقدر ما كانت ثورة 1919 منتجة لنخبة سياسية جديدة، كانت كذلك طاقة دبَّت في مجالات متعددة كالاقتصاد والثقافة والفنون".

فيروز كرواية/ كل ده كان ليه

مرة أخرى يتم استدعاء سيد درويش مرة أخرى، وذلك بعد ثورة 1952 للتدليل على قيمة مشروعه الريادي في خلق منتج موسيقي مصري خالص، بالرغم من وجود العديد من الأسماء التي صاحبت سيد درويش خلال رحلته القصيرة، بالإضافة لوجود العديد منهم أسهموا في إكمال المسيرة من بعد موته المفاجئ، إلا أن درويش وحده لأسباب غير معروفة كُلياً سيصبح هو أيقونة عصر التجديد الأبرز. 

محاولات سيد درويش ونجوميته في المسرح الغنائي ستُلهم آخرين، أمثال محمد القصبجي وزكريا أحمد، اللذين سيقترن اسماهما باسم أم كلثوم على طول مسيرتها، وتعاونهما معها، ولكن درويش بموته الصادم في عمر 31 سنة سيُجبر الآخرين على ذكره، باعتباره الرجل الذي هاجم في مسرحياته الغنائية الطبقة الحاكمة بلا خوف، ومنح فنه لثورة 1919 لدعمها، وهو ما سيمنحه لقب فنان الشعب في الذاكرة الجمعية والفنية على حدٍّ سواء.

أم كلثوم: آنسة ثم ست ثم أم للأمة

في كتابها ترصد فيروز كرواية التحولات الكبرى والصغرى حسب رؤيتها، والتي شكلت المشهد الموسيقي خلال فترات محددة، ومع التتابع الزمني تصبح كلمة سردية هي الأكثر دقة لوصف هذا الكتاب. في فصل حمل عنوان هذه الفقرة أشارت فيروز للأسباب الاجتماعية الكبيرة التي صنعت أسطورة أم كلثوم، بدقة وبراعة تمكنت من تقديم أسباب عديدة تضعنا بمسافة قريبة من كوكب الشرق. 

جاءت أم كلثوم إلى القاهرة للاستقرار فيها عام 1923. تقول فيروز 

"لكن اكتشاف الأب لصوت ابنته الجميل جعله يضمها إلى جولاته وابنه في أنحاء ريف مصر والوجه البحري. وسرعان ما تفوقت على أخيها لتصبح المنشدة الرئيسية للقصائد والموشحات الدينية ومن خلفها الأب والأخ كبطانة، لتصبح كذلك مصدر النجاح والدخل لأسرتها، وتغدو من

شدة ذاع صوتها وزاد الطلب عليها في قرى ومراكز الدلتا لسنوات، قبل أن تنتقل إلى الاستقرار في العاصمة".

ستحتاج أم كلثوم لسنوات عديدة أخرى للخروج من السلطة الأبوية المُسيطرة عليها، فبعد وفاة الأب في 1927 ستتخذ المسيرة شكلاً مختلفاً، أكثر نضوجاً واتساقاً، مع اختيارات أحمد رامي العائد حديثاً وقتها من فرنسا ليصنع مع أم كلثوم ثنائية سيتم استدعاؤها في الخمسينات باعتبارها أسهمت في الحفاظ على القيم والأخلاق وغيرت الصورة السيئة للمطربة وعالم الفن بشكل كامل.

 مع ظهور الإذاعة والتلفزيون كوسائط متعددة أكثر انتشاراً وأكثر قدرة على نشر الفنون سيتحول شكل النجاح والاستمرارية من خلال سيطرة المطرب/ المطربة على هذه الوسائط، ومن قبلهما بقليل سيلتصق لقب كوكب الشرق بأم كلثوم بعد 10 سنوات تقريباً في القاهرة، وبمرور الوقت ستتحول أم كلثوم كصورة أيقونية راسخة في الوعي الجمعي المصري والعربي من الآنسة التي غنت القصائد والأغاني الطويلة وظهرت في الأفلام كواحدة من أبناء الطبقة المتوسطة التي تحافظ على نفسها في مجتمع سيئ وتصل إلى غايتها فتمثل بذلك نموذجاً مُلهماً وعظيماً لنساء ما بعد ثورة 1919، ثم تصل إلى مرحلة الست التي تُطرب العالم العربي بأكمله، من خلال غنائها للقصائد والأغاني التي يعجز أي أحد عن أدائها بمثل قدرتها، ثم تتحول مرة أخرى من خلال تغير اجتماعي آخر في حياة من حولها وحياتها من الست التي تُسلطن مستمعيها إلى أم للأمة المصرية والعربية بعد نكسة 1967 لتسعى بكل جهدها لدعم قوات الجيش المصري، وتعريف العالم بأكمله بحقيقة القضية المصرية التي تخص العرب بأكملهم، ومن خلال الغناء لصالح المجهود الحربي تتحول إلى رمز وطني لا يغيب في أي مناسبة قومية أو اجتماعية، تصبح أم كلثوم من خلال قرارات عديدة وأسباب اجتماعية وثقافية وسياسية لا تُحصى واحدة من رموز مصر التي لن يمحوها الزمان.

جيل الكاسيت: من لولاكي إلى كيفي كدة

ما أقدمه هنا هو مجرد لمحة بسيطة عن عمل هام، وباختزال شديد أحاول أن أشير لكتاب يفتح أبواباً عديدة في مجالات مختلفة، تُعد قراءتي السريعة لكتاب "كل ده كان ليه" مجرد محاولة للتعارك مع مفاهيم فنية قد تبدو معقدة لمن لا يدرس الموسيقى، بالرغم من أنها تتشابك مع أحداث اجتماعية وسياسية أخرى. 

في الكتاب تسرد فيروز قصة الموسيقى بصورة غير تقليدية، وبلا اختزال، وبشرح وهوامش طويلة تحمل مصادر متعددة عن القصص المتشابكة أو المصطلحات الهامة. يأتي القسم الأخير من الكتاب لسرد قصة وسيط آخر أسهم في صنع نجومية العديد من المشاهير، ومرة أخرى يتم توضيح أن الصدارة في كثير من الأحيان لا تعني الجودة، فإن أبرز هؤلاء اختفوا وكأنهم لم يوجدوا قط!

في الثمانينيات انتعش السوق الموسيقي المصري بظهور "الكاسيت" كوسيط موسيقي سيُسهم في انتشار المنتج الموسيقي بشكل أكبر، وفي منتصف الثمانينات ومع صعود "حميد الشاعري" كأب روحي للعديد من النجوم الشباب الذين ستصدر لهم أعمال عديدة تحت رعايته ستتحول الصدارة لتعريف وقتي قصير الأمد في أغلب الأحيان، وسيقتنصها مؤقتاً بصورة عشوائية أشخاص مختلفون حتى ينجح صاحب النفس الأطول في الحصول عليها، وقولبتها في صور مختلفة لتصاحب في أحيان عديدة النجم، والأكثر شهرة، وصاحب المنتج الأكثر جودة من غيره.

 في سنة 1988 صدرت أغنية "لولاكي" التي يعرفها جميع المصريين بالرغم من عدم معرفة أغلبهم لاسم صاحبها، الأغنية الأكثر شهرة في هذا الوقت كانت من غناء صوت غير معروف وهو "علي حميدة"، ولكن عن طريق موسيقى "حميد الشاعري" المعبأة عن طريق الأجهزة الإلكترونية ستصبح هذه الوصفة السحرية لإنتاج أغنية ناجحة في بعض الأحيان، وساحقة النجاح- كما في حالة لولاكي- النجاح الذي حققه حميد من خلال اعتماده على الموسيقى الإلكترونية بدلاً من الآلات الحية سيثير غضب النقابة التي ستسعى لإيقافه، بالطبع نحن هنا لسنا في حاجة للإشارة لتشابه ما حدث مع حميد الشاعري وموجته الموسيقية الضاربة، وبين ما يحدث مع مغني الراب والمهرجانات في الوقت الحالي، رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً!

الإشارات تُحيلنا لحقيقة عدم تغير المجتمع أو أصحاب المناصب مع أي موجة موسيقية جديدة مع غض النظر عن حقيقتها أو قيمتها. وبعد سنوات سيصبح أيضاً انتشار الموسيقى عبر الإنترنت هو استدعاء آخر لانتشار الكاسيت، الذي منح الناس في مصر لسماع أغاني الشاب خالد الجزائري أو مايكل جاكسون! 

ومع وجود العديد من الأغنيات التي حققت نجاحات ساحقة، بالرغم من اختفاء أصحابها من المشهد الموسيقي بشكل عام، فإننا نستعيدهم مرة تلو الأخرى مع كل موجة جديدة كما يحدث الآن مع مغني الراب أو الأغنية الشعبية، الذين باتوا مطالبين بأداء أغنية مكررة واحدة للحصول على رضا أعضاء النقابة، أو الحصول على تصريح بالغناء.

 الأغنية الشعبية هذه باتت مصاحبة لذكر أحمد عدوية أو شعبان عبدالرحيم حصراً، لم يعد مقبولاً خروج أي أحد عن هذا الإطار لا عن طريق التجديد ولا طرح رؤى مختلفة من خلال أنماط غير المعتادة، عند أصحاب السلطة الموسيقية. أو كما حدث مع مغني الراب الذين أحدثوا ثورة موسيقية غير مسبوقة من خلال الانتشار عبر الإنترنت، والاعتماد على أنفسهم في كتابة محتوى معبر عن مشكلاتهم الاجتماعية، كل هذا غير مقبول ما دام خارج الإطار والنمط والنسق المترهل من كثرة بيروقراطيته. يبدو إيقاف مغني الراب والمهرجانات المتكرر تماماً كمحاولات إيقاف حميد الشاعري منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ويبدو هياج الرأي العام على هؤلاء كالذي حدث مع كل مطرب جديد، سخر من الشكل الغنائي الذي سبقه وثار عليه، واعتبره غير معبر عنه، لذا تبدو استعادة نجاح -لولاكي- في مكانها حينما نقارنه بأغنية -كيفي كدة- لأحمد علي، المعروف إعلامياً بويجز. 

لأننا ومن خلال سردية فيروز كرواية الهامة والنقدية، نبدو لأنفسنا بتتبع الأثر نكرر كل ما حدث في الماضي، ولا نكرره بنفس التعقيد والبساطة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد