شهد عام 2023 رغم مرور شهر فقط على بدايته، لقاءات دبلوماسية وأمنية مكثفة لترتيب الملفات الإقليمية وفي مقدمتها الملف الفلسطيني، فضلاً عن ملف التطبيع العربي مع إسرائيل، والملف الإيراني، ولفهم ما يحدث نحتاج أولاً للإشارة إلى بعض أبرز تلك اللقاءات قبل تحليل أبعادها.
ففي 9 يناير/كانون الثاني، استضافت أبوظبي اجتماع عمل لمسؤولين من أمريكا والإمارات والبحرين والمغرب ومصر وإسرائيل تحضيراً لعقد قمة جديدة في المغرب خلال مارس/آذار القادم، شبيهة بقمة النقب بالعام الماضي، ثم استضافت القاهرة في 17 يناير/كانون الثاني، قمة ثلاثية بحضور ملك الأردن ورئيس السلطة الفلسطينية، وفي اليوم التالي استضافت الإمارات قمة جمعت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن دون حضور السعودية والكويت.
في 10 يناير/كانون الثاني، سافر وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، إلى واشنطن للقاء كبار المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، بينما زار مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، تل أبيب في 18 يناير/كانون الثاني، حيث اجتمع مع الرئيس الإسرائيلي ووزيري الخارجية والدفاع ورئيس أركان الجيش. وفي 24 يناير/كانون الثاني، سافر وزير الدفاع الإسرائيلي، جالانت، إلى واشنطن لعقد سلسلة من اللقاءات قبل أن يقطع زيارته عقب هجوم القدس في 27 يناير/كانون الثاني، بينما زار نتنياهو الأردن في 24 يناير/كانون الثاني، حيث اجتمع مع الملك عبد الله.
وفي 23 يناير/كانون الثاني، اجتمع ويليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في القاهرة مع كبار المسؤولين المصريين، ثم اجتمع بيرنز في 27 يناير/كانون الثاني مع نتنياهو. وفي 29 يناير/كانون الثاني، التقى بيرنز مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. ثم زار وزير الخارجية الأمريكي، بلينكن، في 29 و30 يناير/كانون الثاني القاهرة ورام الله وتل أبيب. بينما اجتمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع مديري جهازي المخابرات المصرية عباس كامل، والأردنية أحمد حسني، في رام الله بتاريخ 31 يناير/كانون الثاني.
وفي أول يومين من شهر فبراير/شباط، زار الرئيس التشادي إسرائيل، حيث أعلن افتتاح سفارة لبلاده في تل أبيب، بينما زار وزير الخارجية الإسرائيلي الخرطوم، واجتمع مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، وأعلن تسلمه مسودة اتفاق تطبيع من السودان على أن يُوقَّع الاتفاق بعد تشكيل حكومة سودانية مدنية. فيما تسلم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، دعوة لزيارة القاهرة خلال الأسبوع القادم، كما سيزورها الأمين العام لحركة الجهاد زياد النخالة.
أحداث واكبت اللقاءات
تزامنت اللقاءات المذكورة مع تعرض منشأة عسكرية في مدينة أصفهان الإيرانية لهجوم شنته 3 طائرات مسيرة في 27 يناير/كانون الثاني، وقالت مصادر إسرائيلية لموقع أكسيوس إن المنشأة المستهدفة تطور فيها طهران بمساعدة موسكو صواريخ فوق صوتية، بينما زار وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، طهران في 29 يناير/كانون الثاني، حاملاً رسالة من واشنطن تتعلق بإحياء التفاوض حول الملف النووي الإيراني، ووقف المساعدات الإيرانية لروسيا في حرب أوكرانيا.
وفي بداية يناير/كانون الثاني، حرص وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، على اقتحام المسجد الأقصى خلال الأسبوع الأول من تولي حكومة نتنياهو مهامها، فيما شرعت الحكومة الإسرائيلية في اتخاذ إجراءات عقابية شملت اقتطاع 139 مليون شيكل من أموال السلطة الفلسطينية لصالح عائلات المستوطنين القتلى، وصوّت الكنيست بالقراءة الأولى على مشروع قانون لسحب الجنسية أو الإقامة من منفذي عمليات المقاومة من عرب 48، كما تدرس تل أبيب اعتقال أفراد عائلات المقاومين وترحيلهم إلى الضفة، فضلاً عن إغلاق منازلهم وهدمها. فضلاً عما سبق، فقد قُتل 35 فلسطينياً خلال شهر يناير/كانون الثاني فقط، فيما شهد قطاع غزة قصفاً إسرائيلياً بعد إطلاق صواريخ منه تجاه المستوطنات القريبة.
قراءة في أبعاد اللقاءات والأحداث
تدفع الإدارة الأمريكية باتجاه إعادة ترتيب الملفات الإقليمية في المنطقة مع بداية عام جديد شهد تسلم حكومة نتنياهو للحكم، وبدء تحشيد غربي لتقديم دبابات وأسلحة متطورة لكييف مع ازدياد شراسة المعارك في أوكرانيا، مما يتطلب تهدئة الأجواء في الشرق الأوسط وبالأخص في الملف الفلسطيني، مع إرسال رسائل إلى طهران تمزج بين العصا والجزرة بهدف ردعها عن مواصلة تزويد روسيا بعتاد عسكري تستخدمه الأخيرة في حرب أوكرانيا.
تسعى واشنطن إلى كبح جماح تيار الصهيونية الدينية في الحكومة الإسرائيلية عن التصعيد داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر منحه مكافآت أخرى تشمل ضم مزيد من الدول العربية والإسلامية لقاطرة التطبيع، وهو ما بدأ مع تشاد والسودان، فيما يدور حديث عن قرب انخراط موريتانيا وإندونيسيا في عملية التطبيع قريباً، كما تجري مشاورات مع الرياض أيضاً لدفعها إلى اتخاذ خطوة شبيهة.
وفي الأراضي الفلسطينية، تعمل واشنطن على نزع فتيل التصعيد الذي حدث في يناير/كانون الثاني، عقب مجزرة مخيم جنين التي شهدت استشهاد 10 فلسطينيين، وهجوم القدس الذي أسفر عن مقتل 7 إسرائيليين، ولذا أعلن توم نيدس السفير الأمريكي في إسرائيل، أن بلاده تعارض أي خطوة من شأنها الإضرار بالوضع الراهن في الأماكن المقدسة بالقدس، كما طرحت واشنطن خطة لدعم أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، بالأخص في نابلس وجنين، بهدف تفكيك البنية التحتية لمجموعات المقاومة هناك، كما تشجع على استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل الذي أعلنت السلطة تعليقه عقب مجزرة جنين، وهو ملف ناقشه مديرا المخابرات الأردنية والمصرية مع محمود عباس، لكن في المقابل تشتكي السلطة من أن الخطة الأمريكية تراعي المطالب الإسرائيلية دون أن تحقق شيئاً للفلسطينيين.
عملياً تعاني السلطة الفلسطينية من تداعيات غياب أفق لأي حل سياسي، وإفلاس عملية التسوية السلمية، فضلاً عن الخلافات بين كبار أقطابها مع تقدم عمر أبو مازن البالغ 87 عاماً، وبالتالي لم يعد في جعبتها تقديم المزيد لخطة واشنطن.
أما القاهرة فيناط بها الضغط على محمود عباس للتجاوب مع خطة واشنطن، فضلاً عن حث حركتي حماس والجهاد على التهدئة مقابل بعض التسهيلات الاقتصادية التي تشمل استمرار منح تصاريح عمل إسرائيلية لعمال من قطاع غزة؛ لتخفيف نسبة البطالة وتحسين الأوضاع الاقتصادية للسكان.
وفيما يخص إيران، حرصت واشنطن على توجيه رسائل دعم واضحة لحلفائها في تل أبيب والخليج بالتزامن مع رسائل تحذير إلى طهران، حيث جرت في يناير/كانون الثاني مناورة عسكرية كبيرة بين الجيشين الأمريكي والإسرائيلي تحاكي تنفيذ هجوم ضد إيران، في رسالة تهدف إلى إعادة طرح الخيار العسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية على الطاولة، فيما أرسل الهجوم على أصفهان بالتزامن مع زيارة بيرنز وبلينكن لتل أبيب، رسالة بوجود ضوء أخضر أمريكي لتنفيذ إسرائيل للهجوم، كما أكد بلينكن التزام واشنطن بمنع طهران من حيازة قنبلة نووية، بينما حملت زيارة وزير خارجية قطر جزرة، مفادها أنه يوجد مسار مختلف في حال غيرت إيران سياساتها وبالأخص فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا.
تتمثل العقبة الأبرز أمام مساعي واشنطن لإعادة ترتيب ملفات المنطقة في حكومة إسرائيل الحالية، التي تتشكل من خليط يضم بعض عتاة المتطرفين دينياً ممن لا يتعاملون بشكل نفعي بقدر ما يتعاملون بناءً على خيارات دينية وأيديولوجية، فتصريح بن غفير عن مواصلته اقتحام الأقصى بعد زيارة نتنياهو للأردن يمثل نموذجاً لما هو منتظر، ويتوقع أن تحاول الحكومة الإسرائيلية كعادتها المزج بين الحصول على إيجابيات التطبيع، مع مواصلة السياسات القمعية ضد الفلسطينيين، مما سيدفع باتجاه مزيد من التصعيد لا التهدئة، كما أن الضغط على إيران قد يدفعها إلى الرد والإضرار بمصالح منافسيها في المنطقة.
وفي المحصلة يتوقع أن تفشل جهود الإدارة الأمريكية، لأنها لا تعالج جذور الأزمات بقدر ما تحاول تبريد الملفات بما يخدم مصالح تل أبيب بالدرجة الأولى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.