عجلة التاريخ لن تعود للوراء.. كيف نتحرك للحل في سوريا؟

تم النشر: 2023/02/02 الساعة 08:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/02 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
رئيس النظام السوري بشار الأسد/رويترز

حاولت في مقالين سابقين أن أتحدث عن استراتيجية مفتوحة للخروج من المأزق السوري، استراتيجية أجد أن السوريين بكل الخلافات السياسية التي بينهم يجب أن يكونوا الأطراف الفاعلة فيها، … تحدثت في المقال الأول عن وجهة نظرٍ أرى أن على المعارضة السورية أن تتبنّاها؛ لكي تكسر الجمود السياسي المحيط بها، وتحاول أن تتفاعل مع الواقع من أجل تحقيق الأهداف التي خرج من أجلها الشعب السوري، ولو عبر إطار ضيق وخطوات مرحلية متباعدة، في ظل سياق سياسي ودولي لم يعد يهتم لما يحدث لسوريا وللشعب السوري، ولم يعد ينفع فيه التوقف والانتظار لحدوث انفراجة لا أسباب لها ولا حتى مؤشرات.

بينما تحدثت في المقال الثاني عن الفرصة الأخيرة من وجهة نظري أمام النظام؛ لكي يخرج من عقدة إلغاء الآخر، والارتهان للقوى الخارجية التي تستهلكه بلا مقابل، في محاولة للاستجابة لمطالب الناس ولإنقاذ البلاد من مصير أشد سوءاً مما هي عليه. وإنقاذ نفسه في المقابل من مصير أشد سوءاً مما يتوقعه لو استمر في إصراره على الطغيان والاستبداد، لأنه هو الآخر لم يعد موجوداً على الخارطة العالمية إلا كمافيا مجرمة يجب ملاحقتها، ولا ينفعه الاستمرار فيما هو فيه إلا بزيادة رقعة وزمن الموت والدمار دون أي فرصة حقيقة للنجاة. 

وإنني لم أعوّل على حصافة المعارضة ولا على إنسانية النظام، بل على فرصة سياسة أجد أن الطرفين يحتاجانها، ومن الحماقة أن يضيعها أحدهما، لأن احتمالية النصر صارت شبه معدومة، ولا أعتقد أن أحداً يرغب في احتماليات الفناء. وفي رفع تكلفة هذه الحرب العبثية على الناس، واستجلاب مزيد من الموت والدمار بلا خيارات إضافية ممكنة. فما نريده هو إيقاف الموت والقتل، إيقاف شلال الدماء، والتقدم خطوة نحو الأمام، مهما كانت هذه الخطوة معقدة ومؤلمة. 

وقد وردتني ردود أفعال متباينة حول المقالين امتدت على مساحة واسعة من وجهات النظر، ابتداءً من التأييد والتفهم والتقبل، وصولاً إلى الرفض والمقاطعة والتخوين. وإنني أتفهم جميع وجهات النظر تلك وأرحب بها، ولا أجدني متحاملاً على أيٍّ منها مهما بلغ من عسفٍ واتهام، ولكنني أرى بالمقابل ضرورة الاستمرار في طرح أفكارٍ غير تقليدية وفي فضاء مفتوح دون سقف معين لكي تتحرك المياه السياسية الراكدة، عسى أن تساهم هذه الأفكار يوماً في إيجاد مخرج ما للمأزق الذي وقع به السوريون وما زالوا يترنّحون في مساراته الضيقة. 

لا يمكن لعجلة التاريخ أن تعود للخلف، فالتغيير أصبح حتمياً، ولكن نحن فقط، في كل جهات هذا الوطن من نستطيع تحديد كُلفته، وأعتقد أنه علينا أن نتوقف عن اختيار الدماء ككُلفة غير منتهية لهذا التغيير، فضلاً عن كونها كُلفة ذات أبعاد انتقامية ستقف عائقاً في سبيل أي بناء محتمل للبلاد. 

إنني لا أريد أن يفلت أي مجرم من المحاسبة، ولكنّ السياسة أحياناً تفرض علينا أن نؤجل الحسابات أو أن نلغيها من أجل خيارات أفضل للجميع، وهذه فرصة لكي يعيد المتورطون حساباتهم، ويعملوا على إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل الوصول إلى الدمار الكبير. 

والعدالة المثالية هي قيمة غير متاحة في عالمنا هذا الذي لا يهتم إلا لمصالح الأقوياء فيه، وقيم المصلحة فيه مقدّمة على القيم الإنسانية، وأعتقد أن هذا واضح جداً، فعالم يقع أمامه أكثر من مليون قتيل ومئات آلاف الجرحى والمغيبين والمعتقلين، ولا يحرك ساكناً باستثناء التصريحات المتأسفة على المذبحة المتواصلة والإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري من قبل روسيا وإيران والنظام حفاظاً على توازنات ومصالح لا تضع أي قيمة للبشر في موازينها، هو عالم لا يرغب بالعدالة، ولا يعمل من أجل الإنسان، وإنما من أجل خدمة من يمتلكون القوة، وفي سياق عنصري بحت… لذلك لا بدّ من بعض التنازلات والتضحيات الشجاعة من أجل إيقاف الحرب والاتفاق على الخطوة القادمة. 

النظام ليس في وضع أفضل من المعارضة سياسياً، وإن تقدمه الميداني هو تقدّم للدول الراعية له، وهو يدرك هذا جيداً؛ لذلك فإن القرار الميداني هو في يد تلك الدول، والقرار السياسي هو مناورة لمصالح مشتركة مع تلك الدول، التي لن تتردد في تغيير قاسٍ للأشخاص والأجهزة إذا لم تتحقق مصالحها التي تديرها في سوريا؛ لذلك لا بد من الوصول إلى خيارات جيدة ومتصالحة مع كل الأطراف على الساحة السورية إذا أردنا أن ننتقل خطوة للأمام كأعداء يرسمون خريطة الطريق القادمة (هدنة طويلة الأمد) على أقل تقدير. 

أعتقد أنه من العقلانية أن نتوقف عن التفكير بالشهداء، مقابل التفكير بالحياة، فمصير المعتقلين الذين يتجرعون الموت كل يوم دون أن نستطيع منحهم أملاً بانتهاء المعاناة أو حتى الشهادة، هو ما يجب أن يشغل تفكيرنا ويقود عملنا السياسي في الفترة المقبلة، كما علينا أن نفكر بمصير ملايين الناس التي يمكن أن تموت إذا بقينا نتمترس خلف خيارات حمقاء لن تستفيد منها سوى القوى المحيطة بنا، والتي تبني مخططاتها على موت السوريين. 

إنني أعتقد أن القوة الرئيسية التي يمكن التعويل عليها في هذا الوقت هي وحدة السوريين على كامل الأرض السورية؛ وحدة من تجمعهم المعاناة مهما اختلفت الجغرافيا التي يسكنونها، ومهما اختلفت القوى التي تتحكم بمصيرهم. 

أستطيع أن ألمح بوضوح دموع نازحي الخيام على الأطفال المشردين في شوارع دمشق وحلب وهم يحاولون إيجاد ما يسد رمقهم في مكبات القمامة، كما أنني أستطيع سماع أنين المتعبين من البرد والجوع في اللاذقية وحماة وحمص ومدن الشرق وجعاً على من يقاسون ذات الجوع والبرد في مخيمات الشمال ومدنه الباردة. 

إن الشعب الذي تقتله العذابات ما زال ينتمي لذات الهوية والتاريخ والثقافة، لن يتغير السوريون بفعل السياسة والسياسيين، والجميع لا يرغبون باستمرار القتال. وإننا أمام فرصة لتقديم البنية الاجتماعية كبديلٍ عن البنى الحاكمة في المناطق ذات النفوذ المختلفة، فالشعب السوري ما زال موحداً وقادراً على الالتقاء من جديد رغم كلّ ما مرّ به.

لا يمكن الاستمرار في تجاهل مطالب الناس بعد أكثر من إحدى عشرة سنة على الأزمة في البلاد، كما لا بدّ من القبول بالتغيير،  فالأشياء لا تثبت على حالها إلا إذا ماتت وانتهت، والفناء نفسه يتلاشى ولا يقيم على الصورة التي وصل إليها. 

لا بدّ للنظام من أن يساهم في طيّ صفحات الماضي عبر إخراج المعتقلين السياسيين من سجونه، فالاختلاف هو سيد المرحلة القادمة، ولا يمكن تعريف كل اختلاف على أنه إرهاب، على الدولة أن تعي هذا، وأن تكون مستعدةً للحوار، وللمشاركة، وتفهم مطالب الناس، إذا أرادت حماية نفسها وحماية ما تبقى من سوريا، وحماية ما تبقى من معاني الوطن. 

وأولئك الفاسدون الذين اعتادوا على تخوين كلّ من يقف في وجه أطماعهم، يجب أن نجعلهم ضحية الخطوات القادمة، يجب أن يبدأ الناس في محاربة الفساد، وفي الوقوف بوجه الفاسدين، ويجب أن تفهم الدولة أن التغيير سيكون أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه. 

نحتاج أن نكون أكثر جديةً في المفاوضات، نحتاج أن نطوي الصفحات القاسية التي تعرضنا لها بإرادة من يملكون المبادرة اليوم، من أجل ألا تُطوى عليهم في القريب العاجل؛ لأن الاستمرار في تجويع الناس وزيادة معاناتهم سينفجر قريباً كمأساة لن يستطيع أحد تحمّل تبعاتها. 

إنني لا أحاول أن أقنع أحداً بالتخلّي عن الحق والعدالة والحرية، ولا أريد أن يتوقف النضال في سبيل هذه القيم مهما تغيرت الظروف، ولكنني في كل ما أكتب أحاول أن أتخطى هذه المرحلة العقيمة، أحاول أن أطالب الجميع بالتحرك خطوة واحدة، وفي أي اتجاه، أحاول أن أشرح أن الصراخ لا يغيّر المعادلة، وإن الأساليب القديمة لم تعد تنفع لصنع التغيير، والسكون واللافعل لا يمكن أن يستمر، والتمترس خلف المواقف دون قدرة على إنفاذها هو تمترس حول الموت، بينما نحن نحتاج أن نستعيد إرادة الحياة، نحتاج أن نفعل أي شيء لكي نخرج من المأزق الذي وقعنا فيه والذي يستنزفنا جميعاً دون أي مقابل.  

أريد أن أنقذ الناس من أحلامنا، لكي يتمكنوا من صنع أحلامهم التي يؤمنون بها، فهم الضحايا، وهم من يُفترض أن نفكر بهم، ونعمل لأجلهم، فلا قيمة للنصر الذي يكون على أكوام الجماجم والأجساد وركام الوطن. 

إنني أمدّ يدي في الاتجاهين، أريد أن أصافح نفسي التي تقع على جهتين من هذا الوطن ولست معنياً بعدد الذين سيتهمونني بالخيانة، ولكنني معنيٌّ باستعادة الابتسامة الجميلة على وجوه أبناء وطني، معنيٌّ بالخروج من جحيم الضياع الذي نعانيه، معنيٌّ بالتغيير القادم لا محالة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد وديع العبسي
مدير عام صحيفة حبر السورية
صحفي سوري
تحميل المزيد