في مدح الكسل ولَعْن العمل بلا طائل.. لم لا يكون العمل اليومي 4 ساعات فقط؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/02/02 الساعة 09:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/02/02 الساعة 09:47 بتوقيت غرينتش
طبيعة الوظائف تؤثر على صحة الإنسان

في عام 1932، نشر الفيلسوف البريطاني الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، برتراند راسل، مقاله الشهير بعنوان "في مديح الكسل"، (In Praise of Idleness)، وأحدث المقال الذي يتكون من 5 آلاف كلمة صدى هائلاً حينَها، وتُرجم إلى عشرات اللغات، ومنها العربية.

ما شدّ الانتباه حينَها أنَّ الفيلسوف البريطاني تناول موضوعَ العمل من جانب غير مألوف، إذ دعا إلى تقليل ساعات العمل إلى أربع ساعات يومياً، معللاً ذلك بأن هذه المدة كافية للإنتاجية وتلبية احتياجات جميع البشر.

وكان منطقه الأساسي لدعم هذه الفكرة أن الحضارة الإنسانية في الماضي كانت تعتمد على الجهد البدني الذي يبذله الفلاحون والعمال، وبعد التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وصل إليه الإنسان، وظهور الآلات الصناعية التي باتت تعمل وتُنتج محل الإنسان، بات على الإنسان أن يخلُد إلى الراحة، حيث إنه أصبح في غنى عن بذل جهدٍ بلا طائل.

وعند التفكير في منطق "راسل"، سنجد أن السلع والمنتجات الزراعية التي نعتمد عليها في غذائنا نحصل عليها عن طريق الأراضي، التي يتم حرثها بمحركات حديثة، ويجري ريّها بالماء بأنظمة دقيقة، وتُحصد بماكينات ومحركات أيضاً، والمنتجات الصناعية التي نحتاج إليها تتم صناعتها من خلال الماكينات الضخمة التي تدور بلا كلل أو ملل، وتحتاج إلى القليل من التدخل البشري، وكل ذلك يجري نقله بالشحنات والسفن والطائرات، التي تنقل كميات هائلة بأقل عدد من البشر ممن يقودونها ويتحكمون فيها.

تقليل ساعات العمل
الفيلسوف البريطاني الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، برتراند راسل

وإذا كان الأمر هكذا، ويمكن أن يسير في معظمه بالقليل من الجهد البشري، بالإضافة إلى رؤية الفيلسوف البريطاني بأن الإنتاج الصناعي كافٍ اليوم لتلبية احتياجات جميع البشر، بحد أدنى من عدد ساعات العمل، فلماذا إذاً نعمل كل هذه الساعات التي لا تبدو كافيةً من وجهة نظر أرباب العمل، والداعين إلى المزيد والمزيد من بذل الجهد والكدح في العمل على مر سنين العمر.

في مديح الكسل ولَعْن العمل بلا طائل

تُصور لنا الرأسمالية الحديثة أن العمل هو خلاص البشر، وهو الذي يحقق ذات الإنسان ويعبر عن قيمته، وأن تقليل ساعات العمل سيؤدي بمعظم الناس إلى الكسل والفساد؛ لذا فمن الأفضل لهم وللمجتمع أن يظلوا مشغولين في العمل، وقد قال عالم الأنثروبولجيا الأمريكي ديفيد جريبر: "إن الراسمالية تخلق الكثير من الوظائف غير المجدية بغرض إبقاء الناس مشغولين"، ومن ثم يرى راسل أن القليل من عدد ساعات العمل يكفي لجعل جميع سكان العالم يعيشون عيشة سعيدة، ويخصصون باقي الوقت للترفيه والقيام بما يمتعهم.

ولا يقصد هنا أن الوقت المتبقي يجب أن يضيعه الفرد بلا هدف، ويقضيه في الطيش والرعونة، بل كان يرى أنه يحب أن يكون للفرد العامل الحق فيما هو ضروري للحياة والعيش الكريم، وأن يكون قادراً على التصرف في وقته فيما يراه مناسباً، بالتزامن مع العمل على رفع مستوى التعليم والثقافة في المجتمع، ما سيجعل العامل يقضي وقتَه في الاطلاع على الثقافة والفن، ويرى أننا ندين للراحة بالكثير من الإنجازات التي حققتها البشرية، والتي لم تكن لتحدث دون فسحة من الوقت.

ولا تنفصل فلسفة برتراند راسل عن الواقع الذي نعيشه اليوم، والمطالبات العالمية المستمرة من أجل تقليص عدد ساعات العمل، بالإضافة إلى الدراسات الحديثة التي وصلت إلى ضرورة تقليل ساعات العمل اليومي، حيث تؤكد أن ذلك سيُسهم في تحسين إنتاجية الموظف، كما تشير إلى أن الزيادة في كثافة ساعات العمل تؤدي إلى مزيد من التوتر والضغط على الموظف، ولا تعني في النهاية زيادة الإنتاجية.

وتفيد استطلاعات الرأي الحديثة أن معظم الناس ينتجون لمدة 3 ساعات فقط كل يوم. إذاً فإن من شأن تقليل ساعات العمل أن يؤدي إلى رفع الإنتاج اليومي وزيادة جودة العمل والوصول به إلى التميز والإبداع، ومن ثم تشجيع الموظفين على استغلال ساعات وجودهم القليلة في العمل في مضاعفة الجهد والتركيز على الكيف وليس الكم، الذي يتمثل في الساعات الطويلة التي يقضيها الموظف بدون فائدة أو مبرر.

تقليص ساعات العمل كحل للبطالة

وتتشابه الظروف الحالية من استمرار الحرب الروسية، وما تبعها من أزمات اقتصادية عاصفة، وارتفاع غير مسبوق في مستويات التضخم، واتجاه الاقتصاد العالمي إلى الكساد، وقيام العديد من الشركات بتسريح الموظفين، مع الظروف التي كَتب أثناءها الفيلسوف البريطاني مقاله، حيث كان العالم يعيش في فترة ما بين الحربين العالميتين، وحدثت فيها فترة الكساد الاقتصادي التي تسببت في ارتفاع البطالة في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا.

ورأى راسل حل مشكلة البطالة حينها ينطوي في تقليص ساعات العمل، وإذا عمل الموظف لأربع ساعات في اليوم فقط سيكون هناك متسع من العمل يكفي الجميع، ومن ثم لن تكون هناك بطالة.

لماذا لم تنجح فكرة راسل؟

ويظل يوم العمل المكون من 8 ساعات هو المعيار السائد منذ ما يقارب القرن على حديث برتراند، ولا تزال الدول المتقدمة ومنها الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية تعمل في المتوسط أكثر من 40 ساعة أسبوعياً، وهذا بالرغم من التقدم التكنولوجي الهائل داخل قطاعات العمل، ويصل في الدول الفقيرة ومنها أغلب الدول العربية إلى ما بين 12- 16 ساعة عمل في اليوم، وأكثر من 70 ساعة أسبوعياً داخل القطاع الخاص وفي العديد من المهن.

تقليل ساعات العمل

حتى مع المطالبات المستمرة بتقليل ساعات العمل، فلا تزال فكرة راسل بعيدة عن التطبيق طوال تلك السنوات، وبالرغم من تطورات بكافة مجالات الحياة بفضل التطور التكنولوجي الذي حققه الإنسان.

لكن ذلك التقدم التكنولوجي لم يمكّن الإنسان من تقليل ساعات العمل وزيادة ساعات راحته مثلما كان يأمل راسل، وعلى العكس من ذلك أسهم هذا التقدم في زيادة الضغط على الإنسان.

ونجد اليوم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وإمكانية العمل عن بُعد، تقوم الشركات بمنح موظفيها بعض المهام الإضافية، ليقوموا بتأديتها في غير أوقات العمل، ليستمروا في العمل بالمنزل إلى ساعات متأخرة، وهو ما من شأنه التقليل من ساعات نومهم، وبالتالي الإضرار بطبيعة حياتهم الاجتماعية، كما ينعكس ذلك سلبا على صحتهم.

كما تقوم بعض المؤسسات في الدول المتقدمة بدفع موظفيها إلى مواصلة العمل من مكان إجازتهم، حتى لو كان أثناء السفريات الصيفية، لنجد أن الحياة الخاصة تشابكت؛ إذ اختلطت فيها الأوقات المخصصة لأداء العمل مع أوقات الفراغ والإجازة، ولم يعد هناك فاصل بينهما.

وأخطأ فيما تنبأه بأن التقدم التقني والتكنولوجي يمكن أن يقضي على البطالة، إذ إن هناك عوامل اقتصادية أخرى، وهناك دراسات تفيد بأن سياسة تقليل ساعات العمل إذا تم تطبيقها يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الأجور وفقدان فرص العمل، وهو ما يؤثر على رفاهية الفرد.

تقليل ساعات العمل

كما نجد اليوم الشركات العاملة في قطاع التكنولوجيا، ومنها شركة جوجل، وشركة مايكروسوفت، وأمازون، وتويتر، وغيرها، قامت بتخفيض العمالة بما يصل إلى 100 ألف وظيفة، تم تسريحهم في غضون عام واحد، ومن المتوقع أن يحدث خلال الفترة المقبلة المزيد من سياسة تخفيض العمالة هذه، في العديد من القطاعات بمختلف دول العالم.

ولا أعرف ماذا سيكون رد فعل راسل إذا عرف أنه أخطأ التقدير، وأن التقدم التقني في عصرنا الحالي هو الذي يتمثل في "الذكاء الاصطناعي"، الذي بدأ يحل محل العديد من الوظائف في العديد من المجالات، ويُهدد عمل وظائف أخرى، وينافسها في الفرص المهنية، عن طريق تأدية نفس المهام. وهو الأمر الذي سيؤثر بشكل أساسي على طبيعة الوظائف في المستقبل، ولم يحقق للإنسان حياةً سعيدةً ومرفهة مثلما كان يأمل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد عادل
كاتب وباحث مصري
تحميل المزيد