خلال الـ100 عام المنصرمة، اخترقت البشرية آفاقاً جديدة من التقدم نحو التكنولوجيا بكل جوانبها، وإحدى هذه الجوانب التي تُنظر بسيناريوهات غير متوقعة، هو الذكاء الاصطناعي، والذي استطاع خلال الأشهر المنصرمة أن يحصد انتباه العديد من جمهور العوام، وكما كانت السينما وكما ستكون دائماً، مرآة لتلك السيناريوهات، فهي تسرد بالفعل كل السيناريوهات المحتمَلة لظهور ما يسمى الذكاء الاصطناعي، منذ عقود مضت.
لذا، وقبل أن ندخل في حديثنا المعتاد حول السينما، دعني أولاً أخبرك بما تعنيه جملة "الذكاء الاصطناعي".
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
ظهر هذا المفهوم لأول مرة عام 1955 على يد عالم الكمبيوتر John McCarthy، والذي يعتبر أحد الآباء المؤسسين لهذا المجال، أما المفهوم ذاته فهو يعني قدرة الآلة أو الكمبيوتر أو الحاسوب على التعلم ومحاكاة ذكاء البشر عن طريق التعلم، بقيام وظائف وعمليات معقدة من تلقاء نفسها دون تدخل من البشر.
ومنذ عام 1955 وحتى هذه اللحظة، ظهرت العديد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والتي تساعد البشر بالفعل في أداء وظائفهم اليومية، ولكن حتى وقت قريب وقبل تطور مفهوم تعلم الآلة أو الـ"machine learning" كان الذكاء الاصطناعي محدوداً بعض الشيء.
ولكن بعد تطوير مفهوم التعلم الذاتي للآلة، ظهر العديد من التطبيقات المذهلة والمخيفة على حد سواء، فهناك على سبيل المثال نموذج "Midjourney"، والخاص بتحويل نصوص من الكلمات البسيطة إلى لوحات فنية مبهمة يحاكي فيها نسق وهوية أعظم الرسامين والفنانين الذين مروا عبر التاريخ.
ثم هناك "Dalle"، والذي يستطيع إنتاج صور أكثر واقعية باستخدام نصوص بسيطة عن طريق التعلم الذاتي والمحاكاة، وهناك أيضاً "Chatgpt"، والذي يحاكي المحادثات البشرية بشكل مقبول حتى الآن.
وبالطبع هناك غير هؤلاء الثلاثة العديد والعديد من نماذج الذكاء الاصطناعي، والتي تتطور يومياً، في محاولة لمحاكاة ذكاء البشر وقدرتهم على التعلم وتكوين وعي مسبق لتجاربهم اليومية، ولكن جميع هذه النماذج حتى الآن لا تزال تعاني من عقبات قد لا تتجاوزها لسنوات طويلة قادمة في المستقبل، وفي النهاية حتى هذه اللحظة، فإنها تحاكي فقط ما تراه من إبداع البشر، بالتالي لن تستطيع أن تبدع بنفسها أبداً.
وبالطبع كعادة الإبداع البشري، لم يترك أي سيناريو متخيل لتطور الذكاء الاصطناعي، فقد طرحه بالفعل سواء في أدب الخيال العلمي، أو السينما أو الدراما، وهذا يأتي بنا لحديثنا الأساسي في هذا المقال عن فيلم M3GAN الجديد، والذي استطاع أن يحصد نجاحاً غير متوقع في وقت يتحدث فيه الكل عن اكتمال نعش السينما مقابل صعود شبكات العرض.
فيلم M3GAN
في البداية تتحدث قصة الفيلم عن ميغان، وهي دمية بحجم امرأة طبيعية، تحتوي داخل رأسها على أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، وقمة ما حققه تطوير الذكاء الاصطناعي، وقد صُممت عن طريق صانعة الروبوتات جيما.
وميغان هي حقاً رفيقك المثالي، فهي تمتلك القدرة على العناية بطفلك في غيابك، يمكنها أيضاً أن تصبح الابنة المثالية لأبوين فقدا أبنائهما، يمكنها أن تكون صديقتك إن كنت بائساً لهذه الدرجة، ويمكنها بالطبع أن تكون معلّمة، رفيقة لعب، مساعدة، موظفة، كل شيء، فميغان يمكنها أن تكون أي شيء بالنسبة لك.
تبدأ الأمور بالتعقد قليلاً في حياة جيما حين تصبح بشكل غير متوقع الوصية على قريبتها ذات الثمانية أعوام، وهنا تأخذ الأمور مساراً مرعباً وغير متوقع على الإطلاق.
استطاع الفيلم بتكلفة 12 مليون دولار فقط أن يحقق افتتاحية في أول أسبوع عرضه تتجاوز الثلاثين مليون دولار، بل تمكن كذلك من حصد نجاح نقدي واضح بتقييم 94% على موقع Rotten Tomatoes.
وهذا النجاح الملحوظ لفيلم رعب صدر في السينما في وقت تجاهد فيه الأعمال السينمائية الكبرى للأبطال الخارقين مثل Black Adam على سبيل المثال لتحقيق أرباح من شباك التذاكر، يدفعنا للتحدث عن هذا الفيلم، ولماذا حقق هذا النجاح الجماهيري والنقدي.
عن فيلم M3GAN
يأخذنا الفيلم عبر سردية تداعب الخيال السوداوي البشري، فالبشر بطبعهم يخشون المجهول وغير المتوقع، وفكرة الذكاء الاصطناعي، تقدم كلا الصفتين للمشاهد العادي، وعلى نفس النسق تظهر فكرة وعي الآلة، والتي انبثقت من فكرة الذكاء الاصطناعي بطبيعة الحال، وحين يفكر الإنسان العادي في هاتين الفكرتين ببعض التعمق، يجد سيلاً من السيناريوهات المرعبة وغير المتوقعة والتي تضعه تحت رحمة آلة عديمة الروح والمشاعر.
وهذه التركيبة بأكملها يقدمها الفيلم على طبق من ذهب للمشاهد، فنحن لا نستطيع وضع أنفسنا داخل رأس الآلة أو داخل عقل الحاسوب الذكي، نحن أصلاً لا نستوعب حتى الآن بعض تصرفات البشر وهم بشر، فكيف بنا ونحن أمام آلة تحاكي تفكير البشر ولا يمكن توقع ما قد تصل إليه من استنتاجات وقرارات بناء على معطيات قد تكون فاسدة أو معطوبة من البداية.
كذلك يقدم الفيلم نقداً واضحاً لفكرة تعطش الرأسمالية للذكاء الاصطناعي، فبشكل ملحوظ في واقعنا المعاصر، تشجع الرأسمالية بفجاجة واضحة على سرعة تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي لما سيقدمه لها من بديل رخيص جداً للعقل البشري الذي تحتاجه في كثير من الجوانب.
فجيما تفعل ما تمارسه الرأسمالية على الدوام، تتخذ الحل السهل، وتقدم للطفلة المسؤولة منها نموذجاً غير بشري كي يرعاها، وهذه هي المشكلة.
بشكل عام، يمكن وضع الفيلم في قائمة طويلة من الأعمال التي تنبأت وتشاءمت بمسار تطور الذكاء الاصطناعي، والصفة الممتازة لهذا الفيلم والتي تجعله يتفوق على الكثير من أقرانه هو كونه قدّم سردية واقعية قد تحدث في المستقبل القريب بالفعل، بالتالي هي مفهومة وملموسة بشكل كامل للجمهور الذي شاهده، ولك أيضاً أيها المشاهد إذا لم تكن قد شاهدته بالفعل.
والآن دعني أرشح لك ثلاثة أفلام ستجعلك تخشى وتتوجّس بكل تأكيد من فكرة الذكاء الاصطناعي:
2001: A Space Odyssey -1
أحد أهم التحف الفنية الخالدة، للمخرج العبقري ستانلي كوبريك، فبعد اكتشاف شيء غامض على القمر، يتم إرسال رحلة فضائية عبر الفضاء لكشف غموض ذلك الشيء، ولكن الحاسوب الخارق ذا الذكاء الاصطناعي المتطور يقرر أنه يعلم الأفضل بشأن الرحلة وحياة رواد الفضاء الذين معه، هنا في هذا العمل التاريخي سترى بنفسك مقدار الرعب الذي قد يحمله الذكاء الاصطناعي بين طياته.
2- Her(2013)
يقرر ثيودور الكاتب، الذي يعاني من الوحدة، شراء تطبيق ذكاء اصطناعي ليساعده على الكتابة، ولكن حين يكتشف قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلم والتكيف وعلى التعبير عن مشاعر، يبدأ ثيودور بالسقوط في شباك حبه، مما يضعه في مأزق نفسي حقيقي.
يقدم هذا الفيلم قصة ممتازة تفكك واقعنا المعاصر، وفكرة الحاجة العاطفية التي قد تستغلها الرأسمالية لتقديم منتج جديد من الذكاء الاصطناعي.
3- Ex Machina
أحد أفلامي المفضلة، ويسرد قصة كايلب سميث، المبرمج الشاب الذي يحصل على فرصة المشاركة في تجربة تطوير ذكاء اصطناعي عبر التفاعل مع روبوت أنثى، يأخذنا الفيلم في رحلة مرعبة وكئيبة عبر أروقة مظلمة وباردة للذكاء الاصطناعي، بل يقدم نظرة مرعبة لقدرة هذا الذكاء على محاكاة البشر ومشاعرهم بالرغم من عدم امتلاكه لما نسميه بالقلب أو الروح.
في النهاية، لا يزال مجال الذكاء الاصطناعي في بدايات طريق تطوره، وبالتالي كل سيناريوهات نتائجه ليست سوى في الغيب، ولكن أحياناً ربما علينا أن نستمع لخيالاتنا وخوفنا الداخلي، فهي التي ضمنت نجاة البشر حتى الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.