في نيجيريا، تحديداً في لاغوس، أكبر مدن نيجيريا، وُلد لأم نيجيرية تُدعى هاوا، وأب هولندي اسمه سيس، هو أرناوت دانجوما، الذي وُلد في عام 1997.
وفي الرابعة من عمره، حدث له ما يحدث للكثير من الأطفال في العالم؛ حدث الطلاق بين الأبوين، واختلفت مساراتهما، وفي المنتصف كان الأطفال هُم من يدفعون ضريبة هذا القرار.
في الرابعة من عمره، رفقة شقيقه وشقيقته، تشردوا جميعاً في الشوارع، كانوا بلا أب وأم وأيضاً بلا مأوى، لدرجة أنهم كانوا ينامون في السيارات، ويطلبون أحياناً من الأصدقاء أن يسمحوا لهم بليلة هانئة في بيت يسمعون فيه ما حُرموا منه؛ وحدة الأسرة!
لكن هذا الحال لم يدم، حاله كمعظم أحوال الدنيا، بعد مدة احتضنهم أحد الملاجئ، وحصلوا على الرعاية التي لم تمنحهم إياها أسرتهم، وفي الحادية عشرة من عمره أتته فرصة لا تُعوَّض.
فرصة أن يكون إنساناً بعد كل ما رأى طوال حياته، هو الذي عاش في الفقر والتشرد، كان عليه أن ينضم إلى أكاديمية أيندهوفن الهولندية، لأنهم خرجوا من نيجيريا بحثاً عن حياة في البلد نفسه التي يعيش فيها والدهم، حتى وإن لم يكن هو نفسه يهتم بهم.
أرناوت لم يكن طفلاً قوياً، كان بلا وجهة إذا تحرينا الدقة، فقد حنان الأب ووجود الأم، وعاش مع أسرة حاضنة، وخرج إلى الدنيا ليشاهد كيف كانت مختلفة تماماً عن تخيلاته التي لم تلمس واقعها.
فرأى الأطفال يذهبون إلى التدريبات رفقة أسرهم، ورأى أقرانه يركبون أحدث السيارات ويخرجون في أماكن لا يمكنه الاقتراب منها، كان ملتزماً ويمتلك هدفاً واضحاً: أريد أن أعوض فترتي الصعبة بأي شكل ممكن!
إنها السادسة عشرة، الفترة التي يقدمون فيها عقوداً احترافية للاعبي الأكاديميات في أوروبا، وكانت هي اللحظة المنشودة، اللحظة التي انتظرها دانجوما طوال حياته.
في أيندهوفن، كما في العالم بأسره، تنتصر الواسطة، وتغلب السياسة، ويفوز من هم أقل موهبة وذكاءً، والطفل المُشرّد في صغره، شعر للمرة الأولى في حياته أنه لم ينل ما يستحقه؛ لم يقدموا عقداً له.
من هنا فهم أن رحلته قد انتهت في أيندهوفن، من هنا أدرك أن في الحياة مواقف يصعب نسيانها، ربما لم ينظر لمن ركبوا أحدث السيارات، ولم يحسد أحداً على نعيم الأسرة، لكن في الوقت نفسه لم ينكر، ولو في قرارة نفسه، أن هؤلاء هم من نالوا العقود حينها، وأنه، هو فقط، من سيغادر لأنه لا يشبههم!
كانت الرحلة القادمة إلى إن إي إس نيميغن الهولندي، وكأنه عاد إلى حيث بدأ، لكنه فهم أن الصعود لابد أن يكون بهدوء لكيلا يكون السقوط حراً، والخير كله كان ينتظره خارج هولندا.
في كلوب بروج البلجيكي، أثبت نفسه وقدم أوراق اعتماد، لكن الحلم الأكبر لم يكن في هولندا ولا حتى في بلجيكا، كان حلمه الأكبر أن يصبح لاعباً أساسياً في صفوف عمالقة الدوري الإنجليزي الممتاز، أو أن يلعب في الدوري الإنجليزي الممتاز بأي حال من الأحوال.
واستجاب له ربه، على الطاولة كان عرضاً لا يُرفض من بورنموث الإنجليزي، لمدة سنتين كان أرناوت دانجوما هو حديث الساعة في بورنموث، ليس لجودته كلاعب فحسب، بل لسلوكه وأخلاقه الطيبة خارج الملعب أيضاً.
سنتان، لعب خلالهما 47 مباراة سجل 15 هدفاً، ومن هنا خرج إلى نادٍ أكبر، إلى فياريال في إسبانيا، وفي فياريال تردد اسمه كثيراً خلال فترة وجوده هناك، إلى أن خرج على سبيل الإعارة.. إلى أين؟ إلى الوجهة التي يحبها ويفضلها طوال عمره؛ الدوري الإنجليزي الممتاز.
يوم أن سافر إلى إنجلترا، لم يكن دانجوما ذاهباً نحو توتنهام، لكن توتنهام هو من ذهب نحوه، إيفرتون كان المحطة التي سيتوقف عندها قطار دانجوما، لكن القدر شاء أن ينضم مؤخراً إلى الفريق اللندني ويصبح لاعباً أساسياً في واحد من عمالقة الدوري الإنجليزي الممتاز؛ تماماً كما أراد دائماً.
النموذج المثالي للمسلم.
لم يكن دانجوما لاعباً رائعاً فحسب، بل قبل موهبته كان إنساناً ذا خلق وقيمة كبيرة في كل البيئات التي حل بها ودخلها، دانجوما لم يكن قوياً من الناحية الدينية في صغره، بل بالممارسة، وما حدث له طوال حياته أصبح ما هو عليه الآن.
بحث عن الله في كل شيء حوله، في اللحظات الصعبة التي مر بها، وفي اللحظات التي ظن فيها أن كل شيء يسير على ما يرام، اجتهد في بحثه، خاصة كونه ينطق بلسان أعجمي يصعب عليه فهم معظم آيات القرآن.
كل مدربيه وزملائه في كل الفرق التي مثلها أشادوا بسلوكه وانضباطه داخل وخارج الملعب، قالوا إن دانجوما هو المثال العبقري للمسلم الملتزم في أوروبا، هو الذي ظهر في أحد اللقاءات ليتحدث عن فضل الله ودين الإسلام على حياته ومهنته.
"مثل النور في نهاية النفق المظلم، حينما تكون مؤمناً تشعر بهذا الشعور، أن الله معك في أي حال كنت عليه".
الحياة القاسية في صغره، وشعور الوحدة الذي شعر به، علماه أن يكون إنساناً مؤمناً ورحيماً في الوقت نفسه، بل على العكس، رغم ما حدث بين والديه، لم يرفضهما حينما أصبح ما هو عليه الآن، ما زال يتواصل معهما ويعاملهما بحب وإخلاص.
رغم أن فترة الحصول على عقود احترافية في أيندهوفن كانت قاسية كما أسماها، إلى أنها جعلته ينظر إلى الحياة بمنظور ديني قائم في أساسه على الإيمان بأن الله معه، حتى وإن تخلى عنه الجميع.
ماذا يفعل دانجوما حينما ينتصر في مباراة؟ يُصلي ويشكر الله
الصلاة جعلته يسير في الحياة سير المؤمن في أي حال، سواء أكان يومه عادياً أم مميزاً، خسر أم فاز، بات يرى الأمور من نافذة أوسع وبنظرة أعمق وبإيمان أكبر بكثير.
ولم يعتبر فترة تشرده عيباً ينتقص منه، ولم يشعر في أية فترة صعبة في حياته بظلم، بل ظن أن الله وضعه في طريق كان من المفترض أن يتعلم فيه أن يحافظ على الأشياء التي يمتلكها، ويُحاول أن يبذل ما استطاع من الجُهد للبحث عن ذاته والنجاح في أمور الدنيا والدين.
يمكنك أن تقابله بين الحين والآخر على حسابه الشخصي على إنستغرام يقرأ آيات من القرآن الكريم، ويمكنك رؤيته في المساجد الخاصة بالمدن التي يزورها كلاعب، ويمكنك أن تسمع عن كل من تعامل معه حُسن خلقه وطيب معشره.
والأطفال المُشردون لم يعودوا كذلك، حصل بعضهم على درجة الماجستير في الجامعة، وأصبح أصغرهم لاعباً في الدوري الإنجليزي الممتاز تماماً كما كان يحلم طوال عمره بفضل الله وتوفيقه، ومثل منتخب هولندا الأول رسمياً.
ورغم أنه قد لا يكون أفضل جناح في لعبة كرة القدم، إلا أنه بالفعل يقدم نموذجاً عظيماً للمسلم الذي جمع بين النجاح في الدنيا وأمور الدنيا، وفي وقت انتشرت فيه حملات الكراهية ضد اللاعبين المسلمين تحديداً في أوروبا، كان دانجوما دائماً خير مثال على أن اللاعبين المسلمين ليسوا كما تتخيلهم أوروبا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.