شرعت هذه السلسلة بذكر الحوار بين موسى- عليه السلام- وفرعون في سورة طه، والتي افتتحت بقوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 49، 50]، فبدأ فرعون خطابه مستكبراً ومستهزئاً بموسى وأخيه عليهما السلام، وأضاف الربَّ إلى موسى وأخيه، ولم يضفه إلى نفسه، وهو تجاهل وتغافل عن حقيقة مستقرة في أعماق نفسه، تقول له: إنك مخلوق ومملوك لخالق عظيم، فردّ موسى- عليه السلام- على سؤال بذكر دليل الخلق والهداية، وهو من أعظم الأدلة التي حفل بها كتاب الله سبحانه وتعالى، لما له من الأثر العميق في نفوس المخاطبين.
ثم تابع فرعون حواره بمخادعة ومراوغة مفضوحة، فقال:
قال تعالى: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه:51].
لما جاء موسى عليه السلام بدليل قاطع لإثبات الربوبية لله، خشي فرعون أن يزيد في تقرير الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق فرعون، فأراد أن يصرفه عما يدعوه إليه، وحاول شغله بما ليس له علاقة بما أرسل له ذلك؛ ليلبس على الناس أن الرسول يعلم الغيب ويسأله عن القرون الماضية وذلك ليفتح باباً للتخطئة والتكذيب بالعناد واللجاج، فقال باستفهام وتعجب وتعجيز: فما شأن تلك الأمم الخالية والقرون الماضية؟ ومن هو ربها؟ وكيف لم تعرفه؟ وهل هلكت دون أن تعرفه؟
وقيل إن سؤاله أراد به التشغيب على موسى عليه السلام، حتى إذا قال: إن آباءهم في النار ثارت ثائرة أبنائهم، فصاروا معادين لموسى عليه السلام وسلماً لفرعون، وإذا قال هم في سلام كانت حجة لنهوض راية فرعون وصحة مسلكه.
قال ابن كثير: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه:51] أصح الأقوال في معنى ذلك: أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي الذين لم يعبدوا الله، أي فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول، لم يعبدوا ربك، بل عبدوا غيره؟ [تفسير ابن كثير، ٥/٢٩١].
قال السعدي: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ أي: ما شأنهم وما خبرهم؟ وكيف وصلت لهم الحال وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر والظلم والعناد ولنا فيهم أسوة؟ [تفسير السعدي، ٣/١٠٢٩].
قال د. محمد أبو موسى: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾: هذه الفاء ترتب هذا السؤال على ما قبله ترتيب زمن، وليس ترتيب حدث، وبال القرون يعني أخبارها وأحوالها، ودخل فرعون بذكائه في التاريخ القديم وهرب من مسألة الربوبية التي رأى فيها الخناق ضاق عليه، فكانت إجابة موسى عليه السلام منطقية عقلانية محكمة، فأحال موسى عليه السلام ذلك الغيب البعيد في الزمان، والخافي عن العيان إلى ربه، الذي لا يفوت علمه شيء ولا ينسى شيئاً، فهو الذي يعلم شأن تلك القرون كله، في ماضيها وفي مستقبلها والغيب لله والتصرف في شأن البشر لله. [من حديث يوسف وموسى، ص٣٨٢].
قال تعالى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه:52]،
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾، لأنه من الغيب المغيَّب عني، فأنا عبد الله تعالى لا أعلم إلا ما علَّمنيه ربي جلّ وعلا.
﴿فِي كِتَابٍ﴾ أي: علم أحوال هذه القرون مثبت في كتاب وهو اللوح المحفوظ، الذي كتب الله تعالى فيه شؤون جميع المخلوقات.
﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ أي: لا يغيب شيء من علمه سبحانه، ولا ينسى شيئاً جلّ وعلا.
قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ [طه:53].
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾، الأرض كلها مهدٌ للبشر في كل زمان ومكان، مهد كمهد الطفل، وما البشر إلا أطفال هذه الأرض يضمهم حضنها ويغذيهم درُّها، وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة. فمعنى ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً﴾ أي: سوّاها ومهدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها، وليس معنى مهّدها جعلها مستوية، إنّما سوّاها لمهمتها، وإلا ففي الأرض جبال ووديان ومرتفعات، وبدونها لا يستقيم لنا العيش عليها، سواء بالاستواء أو التعرج أو الارتفاع أو الانخفاض.
وهذا يدل على كمال قدرة الله واستحقاقه للعبادة وحده دون غيره، فهي من النعم العظيمة على بني آدم.
﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ أي: نفذ لكم الطرق الموصولة من أرض إلى أرض ومن قطر إلى قطر، حتى كان الآدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون، وينتفعون بأسفارهم أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ أي: وهذا من مسألة الخلق التي لا يدعيها أحد، لأنه ادعاء مردود على مدعيه، فأنت من يدعي الألوهية أخرج لنا شيئاً من ذلك، أرنا نوعاً من النبات فلن يقدر وبذلك لزمته الحجة.
﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾: وهو ماء المطر المنزل من السحاب في جهة السماء، ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض، ومنها نهر النيل القريب من فرعون.
﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ أي: فأخرج الله تعالى بماء المطر أصنافاً من نباتات كثيرة مختلفة في أشكالها وألوانها وطعمها وروائحها، فالخالق هو الله تعالى وحده، ولهذا انتقلت صفة الكلام من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم، ويدل هذا على الالتفات من الغيبة إلى التكلم على تعظيم شأن إنبات النبات، فهو ظاهرة كبيرة تدل على عظمة الخالق سبحانه، كما تدل على سعة فضله وإحسانه على الناس، فلولا أن الله سبحانه أنزل المطر وأخرج الثمر لهلك الناس جوعاً وعطشاً.
ودل قوله: ﴿أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى﴾ على حقيقة علمية ما عرفها الناس إلا في العصور الحديثة، وهي الزوجية في النبات وانقسامه إلى زوج مذكر، وزوج مؤنث، فقوله: ﴿أَزْوَاجاً﴾ أي: أصنافاً، سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض.
وجاء الخبر عن هذه الحقيقة في عدد من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج:5].
ولو ضربنا مثلاً برجل انقطعت به السبل في صحراء قاحلة لا يجد فيها ماء ولا طعاماً، حتى أشرف على الهلاك، ثم غلبه النوم فنام، فلما استيقظ إذا بمائدة عليها ألوان الطعام والشراب، قبل أن يمد يده للطعام ألا يسأل: من أتى إليه به؟ وهكذا الإنسان، طرأ على كون مُعَدّ لاستقباله: أرض، وسماء، وشمس، وقمر، وزرع ومياه، وهواء، أليس جديراً به أن يسأل مَن الذي خلق هذا الكون البديع؟ فلو تذكرت ما طرأت عليه من الخير في الدنيا لانتهيت إلى الإيمان.
وما من عقل مستقيم يتأمل هذا النظام العجيب إلا أيقن بوجود الخالق الحكيم العليم القدير، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وبعد أن بيّن سبحانه وتعالى للناس دلائل وجوده وفضله وإحسانه، وجّه الخطاب لهم بأسلوب المتفضل المحسن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.