كانت النوبة من أقدم العصور من الممالك الخطيرة والمتمردة على حدود مصر الجنوبية، وفي العصر المملوكي الذي نحن بصدد الحديث عنه كانت النوبة مملكة مسيحية، عاصمتها دُنقلة، تقع في أعالي النيل، في أقصى المناطق الشمالية السودانية القريبة من حدود مصر اليوم، وكانت حدودها من بلاد الحبشة جنوباً إلى تخوم أسوان شمالاً، وقد أكثر المؤرّخون المسلمون من الحديث عن النوبة جغرافيا وأنثروبولوجياً، وأهميتها الجيوسياسية لمصر التاريخية.
قال الإدريسيّ في كتابه "نزهة المشتاق" عن دُنقلة أو دُمقلة، عاصمة النوبة: "وهي في غربيّ النيل على ضفّته، وشرب أهلها منه. وقال: وأهلها سودان لكنهم أحسن السُّودان وجوهاً، وأجملهم شكلاً، وطعامهم الشعير والذّرة والتمر يُجلب إليهم. واللحوم التي يستعملونها لحوم الإبل: طريّة ومقدّدة، ومطبوخة. وفي بلادهم الفيلة، والزّراريف (الزرافات)، والغزلان".
وقال المؤرخ ابن فضل الله العُمري في كتابه "مسالك الأبصار": "ومدنها أشبه بالقُرى والضيّاع من المدن، قليلة الخير والخصب، يابسة الهواء". قال: "وحدّثني غير واحد ممن دخل النّوبة أن مدينة دنقلة ممتدّة على النيل، وأهلُها في شظف من العيش، والحبوب عندهم قليلة إلا الذّرة، وإنما تكثرُ عندهم اللحوم والألبان والسّمك، وأفخر أطبختهم أن تُطبخ اللّوبيا في مرق اللحم، ويثرد ويصفّ اللحم واللّوبيا على وجه الثّريد".
كانت العلاقة بين مصر والنوبة مستقرةً منذ الفتح الإسلامي لمصر، فلما فتح عمرو بن العاص- رضي الله عنه- مصر، قرّر اختراق النوبة وافتتاحها، ولكن أهل النوبة كانوا شديدي المهارة في رمي السهام والنبال، وإصابة أعين المسلمين، فكفّ عمرو بن العاص عنهم، ثم لما تولى ولاية مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح في خلافة عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قرر أن يرسل حملةً عسكرية لفتح النوبة في عام 31 هـ، يقول ابن عبد الحكم المصري في كتابه "فتوح مصر والمغرب" عن هذه المعركة، ومهارة النوبة في رمي السهام وإصابة أعين العديد من المسلمين: "اقتتلوا قتالاً شديداً، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحيويل بن ناشرة، فيومئذ سمُّوا رماة الحدق (لإصابتهم حدق العيون)، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يُطقهم. وقال الشاعر:
لم تَرَ عيني مثل يوم دُمقلة … والنخيلُ تعدو بالدروعِ مُثْقلة
ولهذا قرر عبد الله بن سعد بن أبي السرح أن يوقّع معهم اتفاقية طويلة الأمد، سُميت بـ"البقط"، والبقط في اللغة ما سقط من التمر عند حصاده، والبيت عند هدمه، وكأن تنفيذها مقرر في وقت حصاد الثمار والنخيل، يتم وفقاً لها إرسال هدية سنوية مقررة من النوبة إلى مصر والعكس.
قال يزيد بن أبى حبيب (مفتي مصر وأحد التابعين): "ليست الموادعة بين أهل مصر والنوبة موادعة هُدنة، وإنما هي هدنة أمان؛ نعطيهم شيئاً من قمح وعدس، ويعطوننا رقيقاً، ولا بأس بما يشترى من رقيقهم. كان البقط المرتب على النوبة وهو الرسم على ما قرر في كل سنة أربعمئة رأس من الرقيق، وزرافة واحدة. لأمير المؤمنين ثلاثمئة وستون رأساً، وللنائب بمصر أربعون رأساً. ويطلق لرسله إذا وصلوا بالبقط تاماً ألف وثلاثمئة أردب قمح، لرسله منها ثلاثمئة"، كما ينقل النويري المصري في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب".
واستمر الحال على ذلك حتى أراد السلطان صلاح الدين الأيوبي أن يتخذها موطناً وقاعدة جديدة للدولة الأيوبية، في حالة أراد نور الدين محمود الزنكي أن يعيد مصر تحت السيادة الزنكية، ولكن الأيوبيين قرروا ضم بلاد اليمن عوضاً عن النوبة؛ لما رأوا قلة أقواتها، وصعوبة العيش فيها، واستمر الوضع على ذلك حتى شهدت مصر في بدايات عصر السلطان المملوكي الثالث رُكن الدين بيبرس البندقداري هجوماً مباغتاً من النوبة على مناطق جنوب الصعيد في أسوان، ويسوّغ المؤرخ سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه "العصر المماليكي" هذا الهجوم على مصر، بسبب العصبية النوبية المسيحية؛ "فإنه كان من الصعب أن تمر موجة الحماسة الدينية التي عمّـت عصر الحروب الصليبية دون أن يلحق مملكة النوبة بعض من رذاذها، وإذا كان الصليبيون في بلاد الشام مسيحيين مخلصين يهددون الكيان الإسلامي، فإن النوبيين كانوا عندئذ أيضاً مسيحيين لا يقلون إخلاصاً لعقيدتهم، وتهديداً للمسلمين في جنوب مصر عن الصليبيين في الشام".
في تلك الأثناء استغل داود ملك النوبة فرصة انهماك السلطان بيبرس في حروبه ضد المغول والصليبين والأرمن في بلاد الشام والأناضول، وقرر الهجوم على جنوبي مصر سنة 671هـ/1272م وقد نهب أسوان، وأسر جماعة من سكانها، كما هاجم ميناء عيذاب على شاطئ البحر الأحمر، وهو الميناء شديد الأهمية بالنسبة للتجارة المملوكية، فضلاً عن كونه الميناء الرئيسي للحجاج المصريين والمغاربة وقتذاك، ويقع الآن في منطقة حلايب وشلاتين.
وبسبب انشغال بيبرس في حروبه الشامية، أراد في بادئ الأمر أن يقود الحملة العسكرية ضد النوبة بنفسه، كما كان يفعل في الشام وآسيا الصغرى والفرات، لكنه في نهاية الأمر أرسل حملة عسكرية بقيادة قائد مملوكي اسمه الأمير آقسنقر الفارقاني، مستغلاً لجوء ملك النوبة "مشكد" أو "مرقشنكز" كما تسميه المصادر التاريخية، واستنجاده بالمماليك ضد ابن أخيه داود، الذي انتزع منه مُلك النوبة، وقد تحركت هذه الحملة في شهر شعبان سنة 674هـ/1276، وكان الظاهر بيبرس قد أمدّها بكل ما تحتاجه من المؤن والعتاد، واستصحبت معها مشكد بغرض إعادة تمليكه النوبة حتى يكون ولاؤه للظاهر بيبرس دون غيره.
وبالفعل استطاع هذا الجيش المملوكي أن يهزم داود، ملك النوبة، ويتعقّب قواته في بلاده، فاستولى على المناطق المهمة في النوبة آنذاك، مثل قلعة الدقم وبلاد الجبل التي أبقى آقسنقر على ملكها. وذكر العلامة المقريزي أن مساحتها تعدل نصف مساحة النوبة "وفرّ داود بنفسه في البحر، وأُسر أخوه شنكو، فساق العسكر خلفه ثلاثة أيَّام، والسيف يعمل فيمن هناك حتَّى دخلوا كلهم في الطَّاعة، وأُسرت أم الملك داود وأخته. وأقيم مشكد في المملكة، وألبس التَّاج وأجلس في مكان داود"، بل وسرعان ما قُبض على داود فأوتي به إلى القاهرة، واعتقله الظاهر بيبرس في قلعة الجبل، فكان آخر العهد به، على ما يذكر المقريزي وغيره.
وعقب هذه الهزيمة وتنصيب مشكد أو شكندة من جديد في المملكة النوبية، تمت اتفاقية بين المماليك في مصر وشكندة في النوبة "شمال السودان وغربيه" نصّـت على ما يلي:
أن يرسل ملك النوبة إلى القاهرة جزية سنوية مقررة هي: 3 فيلة و3 زرافات و5 فهود و100 فرس و100 رأس من البقر الجيد.
أن يكون نصف مال النوبة للسلطان المملوكي، ونصفه الآخر لعمارتها.
أن تخضع بلاد العلى وبلاد الجبال، وهي المناطق الشمالية من النوبة للسلطة المملوكية مباشرة لقربها من أسوان.
أن يدفع كل نوبي ديناراً سنوياً إلى السلطة المملوكية نظير جزية، وقد اختاروا هذا الشرط عوضاً عن الإسلام أو القتل.
أن يعاد تفعيل اتفاقية البقط القديمة بين الجانبين.
وهكذا نرى انتصاراً سياسياً وعسكرياً كبيراً للملك الظاهر بيبرس، ولو ظلّ النوبة على اتفاقهم القديم الذي وقّعوه مع الصحابي عبد الله بن سعد بن أبي السرح سنة 31هـ، المعروف بالبقط، لكان خيراً لهم، وأقل كُلفة عليهم، ولأول مرة يتم إخضاع النوبة لسيادة دولة إسلامية، هي الدولة المملوكية، منذ ظهور الإسلام، في وقت لم يستطع الصحابة والتابعون أن يتوغّلوا في عُمق هذه البلاد كما فعل المماليك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.