تعيش فرنسا هذه الأيام حراكاً اجتماعياً لم تعرفه منذ احتجاجات عام 1995 حين أجبرت الحركة الاحتجاجية، من نقابات عمالية وطلابية وأحزاب سياسية يسارية في ديسمبر عام 1995، الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك ورئيس حكومته آنذاك آلان جوبيه، أجبرتهم على التراجع عن تعديل نظام التأمين الصحي والاجتماعي والمعاشات.
حينذاك خرج مئات الآلاف في مظاهرات شملت أنحاء كل المدن الفرنسية ودخلت العديد من المرافق الحيوية في إضراب، بدأ بسائقي الشاحنات الثقيلة، وانتهى بعمال قطاع التوظيف العمومي في ربوع البلاد.
مراهنة المتظاهرين وتعنّت الحكومة
هذه المرة يراهن المتظاهرون على أن يعيدوا تجربة شتاء 1995؛ بتراجع حكومة إليزابيث بورن على مشروع قانون "إصلاح نظام التعاقد" الذي يبدو أن رئيسة الحكومة إليزابيث بورن سائرة في طريقها على المضي قدماً دون تقديم أية تنازلات للمطالب الرئيسية للنقابات العمالية وأحزاب المعارضة باستثناء حزب اليمين.
أكدّت رئيسة الحكومة إليزابيث بورن، يوم الجمعة، في تصريح للإعلام الفرنسي، عدم التراجع عن رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً. وأن التراجع عن هذه النقطة يعني التخلي عن العودة إلى توازن النظام المعدل في "قانون تورين" المصدّق عليه من قبل الرئيس السابق فرانسوا هولاند في عام 2014، والذي دخل حيّز التنفيذ في عام 2020.
سمي القانون باسم "تورين" نسبة إلى وزيرة الصحة والشؤون الاجتماعية ماريسول تورين، لكن الأخيرة وصفت مشروع القانون بغير العادل، وأنه "قد يصبح جواز سفر للشعبوية اليمينية المتطرفة". حسب يومية لوموند.
في حين جاء رد الفعل قوياً من النقابات العمالية والطلاب والمعارضة من ائتلاف أحزاب اليسار والبيئة "NUPES"، وكذلك حزب اليمين المتطرف، و"التجمع الوطني"، وحزب مارين لوبان، وأغلبية واسعة من الفرنسيين التي تجاوزت نسبة 74%، حسب معهد "Elab" لاستطلاع الرأي ضد مشروع القانون والبند الأساسي في مشروع قانون إصلاح نظام التعاقد والقاضي بإرجاء سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً.
شهدت عدّة مدن فرنسية يوم 19 من الشهر الجاري مظاهرات مليونية عبر التراب الفرنسي من باريس إلى جزيرة "لا ريونيون" بالمحيط الهندي للتنديد بتعديل نظام التقاعد، وترافقت المظاهرات مع إضرابات واسعة في عموم المدن الكبرى والمتوسطة أدت إلى توقف سير قطارات وإغلاق مصاف نفطية وخفض أنشطة توليد الكهرباء. كما سيكون يوم الثلاثاء 31 يناير الجاري، "الثلاثاء الأسود"، حيث دعت تنسيقية النقابات العمالية إلى يوم آخر من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد.
شخصنة الصراع
كما يرى المحللون السياسيون والمختصون في قضايا الشأن النقابي وقانون العمل أنّ يوم الثلاثاء سيكون يوماً مهماً في استراتيجية إدارة الصراع بين النقابات العمالية والطلابية وأحزاب المعارضة ضد الحكومة.
سوف يكون إضراب يوم الثلاثاء 31 يناير الجاري محطة مفصلية في الحراك الاجتماعي بين إلحاح النقابات وأحزاب المعارضة من جهة، وغطرسة الرئيس إيمانويل ماكرون من جهة أخرى.
تدخل فرنسا مرحلة جديدة فيما يخص معادلة توازن القوى الاجتماعية والسياسية؛ أي النقابات وأحزاب المعارضة اليسارية الآملة بالتحاق الفئة الطلابية والتي تريدها المعارضة اليسارية وقوداً للحراك الاجتماعي لزعزعة الطاقم الحكومي وقصر الإليزيه خصوصاً، يعّد سبب هذا الحراك الاجتماعي تصاعد وتيرة الغضب الشعبي ضد الرئيس إيمانويل ماكرون.
لكنه ليس حراكاً احتجاجياً تقليدياً بين النقابات والمعارضة، بل هو مواصلة لحركة احتجاجية ضد الرئيس إيمانويل ماكرون بدأت عام 2018.
بالتالي، أصبح الصراع مسألة شخصية بين المعارضة البرلمانية والنقابات مع الرئيس إيمانويل ماكرون الذي راهن على انقسام النقابات منذ عقود، فلم يكن ينتظر رد فعل الجناح المعتدل أو الإصلاحي للكونفيدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل، والتي خلطت أوراق الجهاز التنفيذي في تعاطيه مع مسألة مشروع قانون إصلاح نظام التعاقد.
لقد أخطأ ماكرون في قراءة المشهد، كانت قراءته قراءة استعلائية، كان يظن أنه حسم معركة النقابات كما حسم معركة الأحزاب السياسية، استطاع خلال عهدته الأولى 2017-2022 أن يشتت الحزب الاشتراكي ويخرجه من المعركة السياسية، كما استطاع أيضاً الآن أن يفجر حزب الجمهوريين ويضمه تحت جناحه، وتبسيط المعركة السياسية وجعلها معركة خطاب بلاغي مع اليمين المتطرف في فرنسا.
لكن "الكونفيدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل" قلبت موازين القوى وأربكت الرئيس إيمانويل ماكرون ورئيسة حكومته؛ حيث رمت الكونفيدرالية المسألة الاحتجاجية للشارع واستلمتها غالبية واسعة من الفرنسيين لم تعد تثق لا في الأحزاب السياسية ولا في النقابات العمالية.
كان ذلك أسوأ السيناريوهات التي كان يتوقعها الرئيس إيمانويل ماكرون والإعلام الموالي لسياساته.
ماذا يفعل الآن الرئيس إيمانويل ماكرون؟
هناك عدّة قراءات، من بينها يصر المتظاهرون والنقابات المتشددة، على سبيل المثال الكونفدرالية العامة للشغل وأحزاب اليسار والبيئة، على أن تستمر الاضطرابات، وأن تشبه هذه الاحتجاجات والإضرابات التي ضربت فرنسا في ديسمبر عام 1995، استمرت المظاهرات والإضرابات ما يقرب من 3 أسابيع، وقدر عدد المشاركين فيها بما يقرب من مليونيْ مواطن احتجاجاً على مشروع قانون إصلاح نظام التأمين الصحي والاجتماعي وإصلاح نظام المعاشات.
وباتساع وتيرة هذه المظاهرات واستمرارها قدم رئيس الحكومة آلان جوبيه استقالته، رغم أن مشروع قانون إصلاح نظام التأمين الصحي والاجتماعي وإصلاح نظام المعاشات كان يندرج في إطار الوعد الرئاسي الذي قدمه الرئيس الراحل جاك شيراك خلال الحملة الانتخابية ضد مرشح الحزب الاشتراكي لوينيل جوسبين بمعالجة الأزمة الاجتماعية آنذاك. لم تتغير الأمور كثيراً بحيث الأزمة الاجتماعية التي أراد الرئيس الراحل جاك شيراك أن يحلّها، تحوّلت اليوم إلى أزمة مجتمعية استغلتها نخب وإعلام وأحزاب اليمين المتطرف لتتموقع في الساحة السياسية، مستعملة خطاب الكراهية ضد العرب والمسلمين كسلعة انتخابية عند كل استحقاق انتخابي بفرنسا.
المفارقة أنه رغم مرور أكثر من ربع قرن على اندلاع المظاهرات في ديسمبر 1995، يأتي شهر يناير وقد حمل موجة ثالثة من الاضطرابات منذ خريف 2018، ورغم أن الأحداث التي عرفتها فرنسا عام 1995 وحراك عام 2023 تتشابه من حيث الأسباب ودوافع التظاهر والإضراب والاحتجاج تعكس إلى حد كبير الأزمة الفرنسية.
هل يغامر الرئيس إيمانويل ماكرون مكرهاً بسحب مشروع قانون إصلاح نظام التعاقد؟ هل يضطر إلى إقالة رئيسة حكومته إليزابيث بورن ويقوم بتعيين رئيس جديد للحكومة؟
وأخيراً، سؤال المليون يورو: هل يحل الجمعية الوطنية الفرنسية ويدعو لانتخابات مبكرة؟
الرئيس إيمانويل ماكرون رجل عنيد ويهوى التحدي، بالتالي من الصعب الحديث عن حل الجمعية الوطنية الآن، لأنه يعي جيداً أن أخذ مثل هذا القرار يعني نهاية ولايته الثانية التي ليس لها سوى 9 أشهر -لا يريد أن يصبح بطة عرجاء تدير ملف السياسة الخارجية والدفاع فقط- تاركاً الشأن الداخلي؛ السياسات العامة كالاقتصاد والمالية العامة والهجرة والعدالة والتربية والتعليم، لرئيس حكومة أو رئيسة حكومة من حزب معارض يُدخلان كلا الطرفين فترة تعايش بين فندق ماتينون وقصر الإليزيه.
الرئيس إيمانويل ماكرون سيدافع عن مشروع قانونه إلى آخر رمق، ولا يريد أن يكون سبباً بمنح الأغلبية لحزب اليمين المتطرف أو ائتلاف اليسار ليتعايش مع مارين أو جون لوك، كما أنه لا يريد أن يقضي على إرثه السياسي ومصير حزبه حزب النهضة. أنشأ الرئيس إيمانويل ماكرون حزب الجمهورية إلى الأمام عام 2017 وحوّله إلى حزب النهضة عام 2022، وأكيد لا يريد أن يصل بحزبه ومناضليه إلى نكسة في عام 2023!
لا يزال الرئيس إيمانويل ماكرون يراهن على عامل الوقت وكسب أصوات حزب الجمهوريين طرف الائتلاف البرلماني مع حزب النهضة في البرلمان، علماً أن الرئيس إيمانويل ماكرون يتمتع بأغلبية نسبية داخل الجمعية العامة، عندها يعاني من معضلة معادلة البرلمان المعلّق. صحيح دستورياً أنه يستطيع أن يمرر مشروع إصلاح نظام التعاقد بكسب أصوات حزب الجمهوريين ليصل لنصاب 289 بنعم، أو اللجوء إلى المادة 49-3 من الدستور على خطى رئيس الوزراء الفرنسي السابق في حكومة الرئيس ماكرون للعهدة الأولى إدوار فيليب للتصديق على مشروع قانون إصلاح نظام التعاقد دون عرضه على التصويت أمام النواب عام 2019؛ حيث يصطدم بعقبات يضعها نواب المعارضة.
أثار هذا القانون جدلاً كبيراً وسط الفرنسيين، رافقته منذ عرضه مظاهرات عارمة وشلل لأشهر في حركة النقل والمواصلات. لجأ رئيس الوزراء إدوار فيليب إلى استعمال المادة 49-3 من الدستور الفرنسي للتصويت على مشروع معدّل لقانون إصلاح التقاعد.
وتسمح المادة 49-3 المثيرة للجدل، للحكومة بتمرير قوانين من دون أن يصوت عليها أعضاء الجمعية الوطنية. حيث تم استعمال هذه المادة أكثر من 10 مرّات من قبل رئيسة الوزراء إليزابيث بورن منذ توليها حقيبة رئيسة الحكومة الصيف الماضي.
ختاماً، أعتقد أن الصراع بين الرئيس إيمانويل ماكرون والنقابات والمعارضة سوف يتحوّل إلى حراك شعبي قد تنتج عنه أزمة سياسية في الأفق لم تعرفها فرنسا منذ خمس عقود، فإضراب يوم الثلاثاء سوف يحدّد انعكاسات وتداعيات هذه الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية، خاصة بعد دخول الحركة الطلابية إلى حلبة الصراع، عندها سوف يجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه محبوساً بين كابوس مايو 1968 وشبح ديسمبر عام 1995، أي بين مصيري ديغول وشيراك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.