"لن تمر بدون ثمن".. رسالة عملية القدس الأخيرة التي قُتل فيها ثمانية مستوطنين، وأصيب آخرون، والتي يجب أن يعي الإسرائيليون فحواها من الآن فصاعداً؛ بأن كل عملية إسرائيلية لن يقف الفلسطينيون إزاءها دون رد موجع للاحتلال، وأن المعادلات في الأراضي المحتلة تتغير يوماً بعد يوم، وجميع مخرجاتها تقود إلى نتيجة أكبر ستتحقق يوماً ما، مفادها أنه لا بقاء للاحتلال ما دام هناك نفس فلسطيني ينبض.
"الويل لمن يعتقد أننا انتهينا"، كانت تلك كلمات للشهيد الفلسطيني عدي التميمي، رد عليها وأكدها عملياً الشهيد خيري علقم، الذي كتب يقول: "قناص مناسب في مكان مناسب أفضل من ألف جندي في ساحة المعركة".
كلمات ذات دلالة صدقها عمل، أبلغ ما يعبر عنه قولهم: "فعل رجل في ألف رجل خيرٌ من قول ألف رجل في رجل"، وهكذا هو حال شهداء فلسطين، فبعد يوم واحد من اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة ومخيم جنين، وارتكاب مجزرة استُشهد فيها عشرة فلسطينيين، بينهم سيدة مسنة، كانت عملية القدس، التي نفذها الشاب العشريني، الشهيد خيري علقم، ابن مخيم شعفاط.
ولم تكد ساعات تمر حتى شهدت القدس عملية إطلاق نار جديدة، نفذها فتى فلسطيني يبلغ 13 عاماً، وأسفرت عن إصابة مستوطنين اثنين بجروح خطيرة، في تأكيد على أن المقاومة الفلسطينية لا تتوقف عند سن، وأن الأجيال مستمرة في حمل رايتها، ولن تستسلم مهما بلغ عنف الاحتلال الإسرائيلي.
رداً على مجزرة جنين
تعد عملية القدس من أكبر العمليات التي وقعت ضد الاحتلال منذ عام 2011، وقد جاءت تلك العملية بعد يوم من مجزرة مخيم جنين، ذلك المخيم الذي يمثل رقماً صعباً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فكانت ردة فعل على مجزرة مخيم جنين، التي نفذتها قوات الاحتلال، بعد عودة نتنياهو من زيارته للأردن، ولقائه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي طلب منه التهدئة وعدم التصعيد، فكان الرد بتلك المجزرة.
وقعت عملية القدس في الوقت الذي يزور فيه مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية "بيل بيرنز" إسرائيل، والضفة الغربية المحتلة، وقبل زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والتي أُعلن عنها في الـ26 من يناير/كانون الثاني، وهو اليوم الذي شرعت فيه قوات الاحتلال في اقتحام جنين ومخيمها، في رسالة مسبقة، وواضحة للجميع، أن هذه أجندة حكومة نتنياهو.
عملية ذات رمزية ودلالة
من ناحية أخرى، حمل مكان تنفيذ العملية بالقرب من كنيس يهودي ومحيطه، في الحي الاستيطاني "نيفه يعقوب" رمزية ودلالة، ربما قصدها منفذ العملية، فرغم أن عملية القدس تعد ردة فعل على مجزرة جنين، فإنها أيضاً جاءت في سياق اعتداءات واقتحامات من قبل المستوطنين للأقصى الشريف، وتهديدات من "بن غفير" وزير الأمن الداخلي بحكومة الاحتلال بتجديد الاقتحام مرة أخرى، وفي ذلك رسالة واضحة لمن يعتدي على المسجد الأقصى والمقدسات في فلسطين.
الموقف الأمريكي بين مجزرة جنين وعملية القدس
ما بين مجزرة جنين وعملية القدس التي جاءت رداً عليها، كان الموقف الأمريكي تأكيداً للنهج تجاه القضية الفلسطينية، فأمريكا هي الراعي الرسمي لإسرائيل، بل وشريك أساسي في جرائمها تجاه الفلسطينيين والعرب، ولا يختلف عن ذلك الحلفاء الأوروبيون.
فبعد وقت من وقوع مجزرة جنين صدر بيان للمتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية وصف الهجوم الإسرائيلي على جنين بأنه عملية لمكافحة الإرهاب، وأعلن الشعور بالحزن لسقوط قتلى وإصابة مدنيين، كما أعلن عن الشعور بالقلق العميق من العنف في الضفة الغربية إزاء عملية القدس، ومقتل عشرة مستوطنين.
مثل الموقف الأمريكي انتفاضة دعم للاحتلال، وتأكيداً للمواقف الأمريكية المتواترة تجاه إسرائيل، كما جاء متسقاً مع تاريخ الرئيس الأمريكي جو بايدن الداعم لإسرائيل على طول الخط، رغم جرائمها المستمرة ضد الشعب الفلسطيني.
لم تمر دقائق معدودة بعد وقوع عملية القدس إلا وكانت الإدارة الأمريكية في حالة استنفار، وتوالت سريعاً البيانات والتغريدات من كافة المستويات، ووصف الجميع الحادثة بأنها عمل إرهابي! وبادر الرئيس الأمريكي جو بايدن بالاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وعد العملية هجوماً على العالم المتحضر، وشدد على التزام الولايات المتحدة الصارم بأمن إسرائيل.
إسرائيل ليست ملاذاً آمناً
تحمل عملية القدس الأخيرة وغيرها من العمليات الفردية بعداً استراتيجياً هاماً؛ حيث تطيح تماماً بفكرة أن إسرائيل ملاذ آمن ليهود العالم.
تمثل العمليات الفردية تحدياً خطيراً، ورعباً أبدياً، وتهديداً مباشراً لاستقرار إسرائيل؛ لأنه من الاستحالة التنبؤ بها والكشف عنها، فهي عمليات مغلقة تخطيطاً وتنفيذاً، أشبه بحديث النفس للنفس، وتقف استخبارات الاحتلال الإسرائيلي عاجزة أمامها.
مع استمرار المقاومة المسلحة، وتنامي العمليات الفردية النوعية ضد الاحتلال الإسرائيلي تترسخ القناعات لدى المستوطنين الإسرائيليين، يوماً بعد يوم، بأن البقاء في فلسطين المحتلة أصبح فادح الثمن، وأن الملاذ الآمن هو الهجرة من إسرائيل، وهذا ما انعكس بالفعل عبر دعوات للهجرة العكسية، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات الإسرائيلية لاستقطاب مهاجرين جدد من يهود العالم.
فقد كشف استطلاع للرأي العام الماضي بين الإسرائيليين، أن نحو 40% غير متفائلين بالمستقبل في فلسطين، و33% منهم يفكرون في الهجرة؛ بسبب التدهور الحاصل في إسرائيل نتيجة أسباب عديدة، من بينها خيبة الأمل نتيجة تعثر التسوية مع الفلسطينيين، والوضع الاقتصادي.
حيث إن تصاعد ظاهرة الهجرة العكسية عام 2022 يعيد إلى أذهان الإسرائيليين ظاهرة مشابهة برزت في عام 1990، حين غادر الدولة 14200 يهودي بسبب تدهور الوضع الأمني الناجم عن انتفاضة الحجارة التي اندلعت في 1987، واستمرت بكامل قوتها حتى حرب الخليج ومؤتمر مدريد في 1991، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى معدل حاد بلغ 18200 مهاجر عكسي في 1993، وفي عام 1995، حصلت قفزة أخرى في الهجرة إلى الخارج بلغت 18700 مهاجر.
تصعيد مستمر.. وانتفاضة وشيكة
على مدار تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف تصاعد منحنى العدوانية والوحشية تجاه الشعب الفلسطيني، فالحكومات الإسرائيلية لا اختلاف بينها في ذلك، ومخطئ من يظن أن أي حكومة إسرائيلية تسعى لما يسمى حل الدولتين، فهذا أمر بعيد المنال، ولا يمثل أي تفاوض في هذا الصدد سوى عملية تمديد للوقت لتثبيت أمر واقع دائم.
إن القاموس السياسي الإسرائيلي لا يعرف سوى لغة العنف، والتصعيد المستمر، وعدم الاعتراف بالوجود الفلسطيني، وتلك ثوابت إسرائيلية لا تتأثر بتغير الحكومات.
تقود المؤشرات على الأرض في ظل حكومة نتنياهو شديدة التطرف إلى تسارع احتمالية اندلاع انتفاضة شعبية ثالثة، قد تكون الأعنف في تاريخ الانتفاضات ضد الاحتلال الإسرائيلي.
"طلقة بطلقة.. ونار بنار"
في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي يدرك الفلسطينيون أنهم وحدهم، في ظل تخاذل عربي رسمي، ومجتمع دولي لا تأثير له على الأرض، وانحياز أمريكي وغربي سافر لإسرائيل.
يعكس استمرار المقاومة حيوية الشعب الفلسطيني، وإصراره على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بشتى الوسائل الممكنة. ويبدو واضحاً أن كل تصاعد للانتهاكات الإسرائيلية سيواجه بتصعيد للمقاومة. وقد شهدت الفترات الماضية انتصارات فلسطينية متتالية، في مقابل إخفاقات للاحتلال الإسرائيلي.
ومن عملية القدس رداً على مجزرة جنين كانت رسائل "خيري علقم" للاحتلال الإسرائيلي، نحن على درب عدي التميمي ومن سبقه سائرون، ونحن شعب لا يترك ثأره، وإذا صعّد الاحتلال فسوف نصعد.
"طلقة بطلقة.. ونار بنار".. هتافات رددها الفلسطينيون، لخصت رسائل عملية القدس ضد الاحتلال الإسرائيلي.
يعمق تصعيد العنف من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي مأزق الوجود الإسرائيلي؛ حيث أصبحت المعادلة تصعيداً بتصعيد وعنفاً بعنف، وقتلاً بقتل.. "على أهلها جنت براقش"، وهكذا تفعل حكومة إسرائيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.