إثيوبيا بعد اتفاقية بريتوريا: التعويل على إصلاح الاقتصاد والعلاقات مع الغرب

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/28 الساعة 10:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/28 الساعة 10:55 بتوقيت غرينتش
اتفاقية بريتوريا للسلام/ رويترز

بعد مرور عامين بالضبط من تفجُر الصراع الدامي في إثيوبيا بين جبهة تحرير شعب تيغراي من جهة والجيشين الإثيوبي والإريتري من الجهة المقابلة، تم التوقيع في الـ3 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على اتفاق سلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي في بريتوريا العاصمة الإدارية لجنوب إفريقيا بوساطة قادها الاتحاد الإفريقي بضغطٍ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

الاتفاقية التي عُرفت رسمياً باسم "Ethiopia Permanent Cessation of Hostilities Agreement" أي: بمعنى (اتفاق إثيوبيا الدائم لوقف الأعمال العدائية)، نصت على إيقاف الحرب، وتعهدت فيها الحكومة الفيدرالية بحماية "سيادة إثيوبيا وسلامة أراضيها وأمنها" من "التوغل الأجنبي" في إشارة إلى إريتريا، التي يثير وجود قواتها على أراضي تيغراي جدلاً عميقاً، كما نص الاتفاق على نزع الأسلحة بمنهجية، وإعادة دمج مقاتلي الجبهة.

لكن الاتفاقية أُثيرت حولها تساؤلات عديدة حول إمكانية تطبيقها على أرض الواقع، والتحديات التي يمكن أن تواجهها، خاصة أن إريتريا لم تكن طرفاً في ذلك الاتفاق رغم مشاركتها في الحرب وارتكاب قواتها فظائع مروعة بحق السكان العزل، وفق تقارير منظمات حقوقية.

تطورات إيجابية 

منذ توقيع اتفاقية بريتوريا للسلام، حدثت عدة تطورات إيجابية لشعب تيغراي، من بينها استئناف الخطوط الجوية الإثيوبية في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي رحلاتها إلى مدينة مقلي عاصمة الإقليم، على أن يتم تشغيل رحلات مماثلة إلى مدن الإقليم الأخرى مثل أكسوم وشيري وغيرهما لاحقاً بعد إجراءات الإصلاحات اللازمة، إثر تضرر البنية التحتية جراء الحرب المدمرة.

اتفاقية بريتوريا
اتفاقية بريتوريا للسلام

وبث تلفزيون تيغراي الذي يعمل من عاصمة الإقليم، مشاهد مؤثرة بعد هبوط الطائرة الأولى في مقلي، لعائلاتٍ التأم شملها بعد فراق دام عامين كاملين، وبعد أن انقطع التواصل تماماً بين سكان الإقليم وأقاربهم، خارج حدود تيغراي؛ إذ عمدت الحكومة الفيدرالية إلى قطع الإنترنت والاتصالات بشكل كامل عن الأهالي قبل بدء الحرب بساعات، وهذا ما جعل شعب تيغراي يشعر بأن حكومة آبي أحمد تستهدفهم بشكل مباشر، وليس جبهة التحرير.

الخطوة الإيجابية الأخرى أنه تم استئناف المساعدات الإنسانية والأدوية المنقذة للحياة كأحد بنود اتفاقية السلام، فمنذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني بدأت قوافل المساعدات الإنسانية تدخل عاصمة الإقليم، قبلها منعت القوات الإثيوبية والإريترية دخول المساعدات الغذائية بشكلٍ متعمدٍ؛ بل وُجهت إلى أديس أبابا وأسمرة اتهامات باستخدام الجوع كسلاح حرب ضد المدنيين؛ حيث يُقدر عدد الذين أودت بحياتهم المجاعة نحو مليون شخص، ما جملته 10% من سكان تيغراي البالغ عددهم حوالي 6 ملايين تقريباً، وذلك بحسب بحث نشره أكاديميون في بلجيكا.

كما عادت شبكة الاتصالات إلى أجزاء من إقليم تيغراي بعد عامين من الانقطاع؛ لتعود مظاهر الفرحة وسط سكانه البالغ عددهم ستة ملايين شخص، ومهَّد وقف إطلاق النار لرفع ما وصفته مجموعات الحماية الرقمية بأنه أطول قطع للإنترنت من قِبَل حكومةٍ في العالم.  

كذلك وردت تقارير عن انسحاب وحدات من القوات الإريترية من بعض مدن الإقليم مثل أكسوم وشيري، لكن ما زالت التقارير تفيد ببقاء القوات الإريترية، خاصة في جنوب وغرب تيغراي، كما أن فريق الوساطة الإفريقية لم يعلق على هذه الاخبار، وكذلك جبهة تحرير تيغراي.

العلامة الأخرى على تقدُّم تنفيذ اتفاق السلام كانت الأسبوع قبل الماضي، وهي شروع قوات دفاع تيغراي في تسليم أسلحتها الثقيلة للجيش الفيدرالي بحضور مراقبين من الاتحاد الإفريقي، ووفق بيان لقوات الدفاع الإثيوبية، فإن الأسلحة التي سلمتها قوات تيغراي تشمل "دبابات وصواريخ وقذائف مورتر".

يُلاحظ أن الحديث ينصبُّ فقط على نزع الأسلحة الثقيلة لقوات تيغراي، فالأسلحة الخفيفة والمتوسطة يرجح أن تبقى بيد قوات الإقليم الخاصة التي سيُعاد تشكيلها وتأهيلها، على أن تبقى الأسلحة الثقيلة حصراً بيد الجيش الفيدرالي.

معظم الأسلحة الثقيلة التي كانت بحوزة مقاتلي تيغراي تم الاستيلاء عليها خلال حرب العصابات التي شنوها على الجيشين الإثيوبي والإريتري، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، وبعضها استولت عليه الجبهة بعد الهجوم الذي شنته قواتها على القيادة الشمالية للجيش في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، والذي استغله رئيس الوزراء آبي أحمد وحليفه الرئيس الإريتري أفورقي، ذريعةً لشن الحرب رغم أن الإقليم كان مطوَّقاً بالفعل من الجيشين والميليشيات المتحالفة معه قبل شهر على الأقل.

المتحدث باسم جبهة تحرير تيغراي، قيتاشو ردا، أكد صحة خبر تسليم الأسلحة الثقيلة، وقال في تغريدة له على منصة "تويتر"، إنهم "يأملون ويتوقعون أن يقطع ذلك شوطاً طويلاً في تسريع التنفيذ الكامل للاتفاق".

لماذا احتكم الطرفان إلى السلام بعد عامين من الحرب المدمرة؟

حتى قبل اتفاقية السلام بأيامٍ قليلةٍ كان احتمال توصل الطرفين إلى اتفاق سلام يكاد يبدو مستحيلاً للمراقبين؛ نظراً لاستمرار القتال الضاري والغارات الجوية، واستمرار الخطاب العدائي الصفري.

ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، فإن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد خطط مع الرئيس الإريتري لهذه الحرب قبل فوز الأول بجائزة نوبل للسلام عام 2019، ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إثيوبيين حاليين وسابقين -تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم- أنه في الأشهر التي سبقت اندلاع أعمال القتال، وجَّه آبي أحمد القوات نحو تيغراي وأرسل طائرات شحن عسكرية إلى إريتريا المجاورة، ووراء الأبواب المغلقة، ناقش مستشاروه والجنرالات العسكريون مزايا هذا الصراع، وكل من عارضهم إما قُتل أو اُستجوب تحت تهديد السلاح أو أُجبِر على المغادرة.

وهذا ربما هو ما يفسر عملية الاغتيال المزدوجة الغامضة التي تعرض لها رئيس الأركان الإثيوبي الأسبق سعري ميكونين (أصوله من إقليم تيغراي)، وحاكم إقليم أمهرة أمباتشو ميكونين في يوم واحد من صيف عام 2019، كما قد يفسر أيضاً إقالة رئيس أركان الجيش الإثيوبي السابق الجنرال آدم محمد، بعد أيامٍ قليلة من بداية الحرب وقد وصفته الصحيفة الأمريكية بـ"المنشق".

وقال المسؤول السابق رفيع المستوى الذي يعيش في المنفى، جيبيريمسكل، للصحيفة إن آبي أحمد أخبر مسؤولي الحزب الحاكم بأنه ينوي التدخل عسكرياً في تيغراي، وأن الإطاحة بقادة الإقليم ستستغرق من ثلاثة إلى خمسة أيام فقط!

فيما يتعلق بجبهة تحرير شعب تيغراي، فإنها اعترفت بشن هجوم ليل الـ3 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020 على قاعدة الجيش الكبرى التي تقع داخل الإقليم، بعد أن تيقنت من قُرب اندلاع الحرب، ويبدو أن قواتها نجحت في تحييد القيادة والاستيلاء على أسلحة ثقيلة، لكنَّ الشيء الذي لم تضعه قوات تيغراي في حساباتها هو الدعم الكبير الذي وجدته قوات آبي أحمد وإسياس أفورقي من القاعدة العسكرية الإماراتية المتمركزة شمال ميناء عصب الإريتري.

هجمات الطائرات بدون طيار الإماراتية يبدو أنها نجحت في تحييد الأسلحة الثقيلة لقوات الجبهة، ما أجبر قادة وقوات تيغراي على الانسحاب من مدن الإقليم المختلفة بعد أيامٍ قابلة من بداية الحرب؛ حيث وجَّه المتحدث الرسمي باسم جبهة تحرير تيغراي "قيتاشو ردا" الأمارات بدعم الحكومة الإثيوبية بالطائرات المسيرة في حربها على الإقليم. 

الطائرات المسيَّرة عرقلت خطط قوات تيغراي مرة أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 بعدما أصبحت على مقربة من دخول أديس أبابا، اضطرت للتراجع إلى إقليمها تحت وطأة ضربات طائرات الدرون التركية والإماراتية والإيرانية، وفي الجولة الأخيرة من الحرب كان من الواضح أن قوات تيغراي تعاني من نقصٍ حادٍ في الذخيرة، بعد أن تمكنت أديس أبابا من قطع خطوط إمدادها بعمليةٍ عسكريةٍ قِيل إنها أُديرت من أسمرة، رغم نجاح قوات التيغراي في إبطاء التقدم الأخير للقوات المتحالفة "الجيشين الإثيوبي والإريتري + قوات إقليم أمهرة" نحو العاصمة مقلي.

وفيما يتعلق بحكومة آبي أحمد، حتى لو تمكنت قواتها والقوات المتحالفة معها من دخول العاصمة الإقليمية لتيغراي، فإن قوات الإقليم ستتمركز في الجبال الوعرة وتشن حرب العصابات بأقل تكلفة، كما حدث في سيناريو نوفمبر/تشرين الثاني 2020؛ إذ أعلن رئيس الوزراء آبي أحمد انتهاء العملية العسكرية، قائلاً إن "الشرطة تبحث عن زعماء الجبهة"، ولكن بعد هذا التصريح بـ7 أشهر تمكنت قوات تيغراي من استعادة السيطرة على 70% من مناطق الإقليم بما في ذلك العاصمة مقلي، واستعرضت قوات تيغراي في شوارع العاصمة الإقليمية آلاف الأسرى من جنود الجيش الإثيوبي كنوعٍ من الإذلال والإهانة.

بيد أن جبهة تحرير تيغراي اضطرت لاحقاً إلى خفض طموحاتها، بعد أن كان المتحدث باسمها قيتاشو ردا يغرِّد عدة مرات في اليوم الواحد عن تدمير وحدات كبيرة من الجيشين الإثيوبي والإريتري، عندما أعلنت الحكومة الفيدرالية حالة الطوارئ ودعت المواطنين لحمل السلاح من أجل الدفاع عن العاصمة أديس أبابا، التي كانت قوات تيغراي على بُعد 200 كلم فقط منها في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

بالمقابل، تخلى رئيس الوزراء آبي أحمد عن اللغة التي كان يستخدمها لوصف قادة وقوات تيغراي، مثل: "السرطان"، و"الحشائش الضارة"، ووجد أنه لا مفر من الجلوس إلى طاولة الحوار مع مَن كان يصفهم بالإرهابيين والأعداء، ومع تدهور الاقتصاد وتشوّه سمعته الشخصية لم يجد مفراً من إصلاح علاقاته مع الولايات المتحدة وأوروبا، بعد عامين من تدهور العلاقات، لدرجة كانت حكومته تدعو المواطنين للتظاهر ضد الولايات المتحدة في أديس أبابا بشكل شبه أسبوعي.

سئم رئيس الوزراء الإثيوبي العزلة الدولية التي تسببت له فيها الحرب، والاتهامات التي وُجهت لحكومته بارتكاب جرائم إنسانية على نطاق واسع، في صورة مغايرة تماماً للمشاعر الإيجابية التي سادت عند توليه الحكم في أبريل/نيسان عام 2018، وفي العام التالي، خصوصاً بعد منحه جائزة نوبل للسلام في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لجهوده في "تحقيق السلام والتعاون الدولي"، بعد دوره في حل النزاع الحدودي مع إريتريا، والتوسط في الأزمة السودانية، إلى جانب بوادر الانفتاح والحريات التي كان أبداها عقب تسلمه منصبه.

هل استسلمت جبهة تحرير تيغراي للحكومة الإثيوبية؟

جاءت معظم بنود اتفاقية بريتوريا المعروفة اختصاراً بـ"CoHA" في صالح الحكومة الفيدرالية الإثيوبية، خاصة البند المتعلق بموافقة جبهة تحرير تيغراي على نزع سلاح قواتها وتسليم أسلحتها الثقيلة، مع السماح للقوات الفيدرالية بالسيطرة على المنشآت الفيدرالية في تيغراي، بما في ذلك مطار العاصمة مقلي.

كما بدأ آبي أحمد في حصد ثمار الاتفاقية فور توقيعها؛ إذ وُجهت له الدعوة للمشاركة في القمة الأمريكية – الإفريقية في واشنطن الشهر الماضي، وعقد لقاءات مع كبار المسؤولين الأمريكيين، معرباً عن تقديره للولايات المتحدة لمساهمتها في تحقيق السلام، ولفت إلى أن إثيوبيا كانت حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في إفريقيا لعقود من الزمان، في تحول تامٍ عن تصريحاته السابقة؛ إذ كان ومسؤولو حكومته يتهمون الولايات المتحدة "ضمناً" بالتدخل في شؤون بلاده لصالح جبهة تيغراي.

الأسبوع الماضي، كانت هنالك زيارة مشتركة لوزيرتي خارجية فرنسا وألمانيا لأديس أبابا، علقت عليها المبعوثة الخاصة للاتحاد الأوروبي إلى القرن الإفريقي أنيت ويبر، بقولها: "زيارة مهمة وفي الوقت المناسب قام بها وزيرتا خارجية ألمانيا وفرنسا إلى إثيوبيا، مما يؤكد الدعم المستمر من قِبَل الاتحاد الأوروبي للسلام والازدهار في إثيوبيا".

بيد أن الامتياز الرئيسي الذي حصلت عليه جبهة تحرير تيغراي، هو إزالتها من قائمة المنظمات الإرهابية؛ ما يعني السماح لها بالعودة كحزب سياسي قانوني، ومشاركتها في الإدارة المؤقتة لإقليم تيغراي، وهناك شائعات سنعود لها لاحقاً تتحدث عن تشكيل حكومة فيدرالية جديدة تُمثل فيها جبهة تحرير تيغراي.

ومع ذلك لم تُحدد الاتفاقية ما إذا كانت السلطات الفيدرالية ستُعيد الأصول والشركات التي تمت مصادرتها من الجبهة ومن عامة مواطني تيغراي بعد تصنيف جبهة التحرير كمنظمة إرهابية.

تحدِّي القوات الإريترية وأراضي غرب تيغراي

يرى الصحفي الإثيوبي المعروف أنور إبراهيم أحمد في حديثٍ خاصٍ مع كاتب المقالة، أن أبرز العقبات أمام اتفاق السلام هو عدم وضوح الحكومة الفيدرالية في شأن وجود القوات الإريترية في تيغراي، ملمحاً إلى أن أديس أبابا ما زالت متمسكة ببقاء الجيش الإريتري.

ويضيف أحمد أن تحركات أسياس أفورقي الإقليمية تشكل تهديداً لاتفاق السلام، وكذلك ادعاء نخب قومية الأمهرة بأن مناطق غرب تيغراي تتبع إقليمهم على الرغم من أن إقليم أمهرا لم يكن موجوداً قبل عام 1995 "بحسب أنور إبراهيم"، ويختتم الصحفي الإثيوبي حديثه بأن "عدم تقديم المتورطين في الانتهاكات للعدالة قد يتسبب في إثارة مشاعر الغضب والانتقام".

إذا أردنا أن نقيم مدى قبول الإثيوبيين بالاتفاقية نجد أنها عرفت ارتياحاً واسعاً وسط عامة الشعب الذين تأثرت حياتهم بطريقةٍ ما أو بأخرى جراء الحرب، لكن الاتفاقية وجدت أيضاً رفضاً واسعاً وسط نخب ونشطاء قومية أمهرة بسبب عدائهم مع جبهة تحرير تيغراي واعتقادهم أن الاتفاقية ستعيد أراضي غرب تيغراي إلى مقلي بعد أن استولت عليها حكومة إقليم أمهرة منذ الأيام الأولى للحرب.

كما وجدت اتفاقية بريتوريا كذلك رفضاً لا يُستهان به من النشطاء الذين كانوا يدعمون جبهة تحرير تيغراي؛ حيث يرى هؤلاء أن الجبهة خذلت الشعب واستسلمت لآبي أحمد بينما لا تزال القوات الإريترية تسرح وتمرح في الإقليم.

ويرى نشطاء الشتات التيغرانيون أن مستقبل إقليم تيغراي كجزء من إثيوبيا يبقى موضع شك، لجهة أن حرب آبي أحمد وأسياس أفورقي على الإقليم كانت الثالثة من نوعها بعد حرب الديكتاتور الكولونيل منغيستو هايلي ماريام وقبلها الحرب التي شنها الإمبراطور هيلا سيلاسي لصد تمرد عام 1943 في تيغراي.

العودة إلى سياسات حقبة ميليس زيناوي 

من الواضح أن الحكومة الإثيوبية تسعى بالفعل خلال العام الجديد إلى الاستفادة القصوى من الوقف الدائم للأعمال العدائية في إقليم تيغراي إلى استعادة علاقاتها الخارجية، التي تضررت بشدة خلال العامين الماضيين.

فحالة عدم اليقين التي سادت منذ نهاية العام 2020 جراء الصراع، أدت إلى انخفاض العملة المحلية "البر" أمام الدولار الأمريكي بنسبة تفوق 100%، كما كان لها تداعيات سلبية على الاستثمار الأجنبي المباشر، وكذلك تعاون القوى المؤثرة مع أديس أبابا سياسياً واقتصادياً.

ولعل الرؤية التي تبناها أحد قادة جبهة تحرير تيغراي، رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي منذ تسعينات القرن الماضي وحتى عام رحيله (2012) هي الرؤية المناسبة التي يسعى رئيس الوزراء آبي أحمد لانتهاجها مجدداً، وتتمثل في تدخل الدولة جزئياً في الاقتصاد، والحفاظ على علاقات متوازنة بين القوى الكبرى، إذ كانت لأديس أبابا في عهد زيناوي علاقات وثيقة مع الصين، خاصة على المستوى الاقتصادي، وفي الوقت ذاته ظلت إثيوبيا حليفاً قوياً للولايات المتحدة، فالأخيرة كانت تقدم نحو مليار دولار سنوياً من المساعدات التنموية لإثيوبيا، إضافة إلى المساعدات الأمنية (حجمها غير معلن) لمكافحة الإرهاب، والأمن الإقليمي لمنطقة شرق إفريقيا.

لا ينكر أحد أن عهد ميليس زيناوي كان قد شهد استقراراً نسبياً وحققت إثيوبيا خلال فترة حكمه نمواً اقتصادياً كبيراً، كما بدأ تنفيذ المشروعات التنموية الكبرى مثل سد النهضة وشبكات الطرق والسدود الكهربائية والمجمعات الصناعية الضخمة وغيرها، لكن القمع وانتهاكات حقوق الإنسان استمرا في عهد مليس، وإن كان الوضع أفضل من عهد سلفه الديكتاتور منغيستو الذي قاد حملات "الإرهاب الأحمر" على الشعب؛ حيث يقدر عدد الذين تمت تصفيتهم على مدى سنوات حكمه بمليون أو مليون ونصف المليون شخص.

بخلاف إصلاح العلاقات مع الغرب، هناك مؤشر آخر على عودة إثيوبيا لنهج ميليس زيناوي؛ إثر تعثُّر مشروع رئيس الوزراء آبي أحمد، القائم على إحكام سيطرته على البلاد من خلال رؤيته، التي طرحها في كتابه بعنوان MEDAMER أي: بمعنى الانصهار والاندماج، وهي الرؤية القائمة على وحدة إثيوبيا من خلال نظام حكم مركزي يقوم على سيطرة أديس أبابا، بعكس النظام الفيدرالي اللامركزي الذي تبنته جبهة تحرير تيغراي ولا يزال سائداً حتى الآن، بسبب مخاوف القوميات ورفضها للمركزية، فنظام الحكم الحالي رغم مساوئه كَفَل للأقاليم استقلالية موسَّعة بالحكم الذاتي.

تحالف قادم بين آبي وقادة تيغراي

بالعودة إلى اتفاقية بريتوريا، هناك شائعات متداولة في أديس أبابا تتحدث عن تشكيل حكومة فيدرالية جديدة لمواكبة واستيعاب الاتفاقية. تحالف جديد بين آبي أحمد وقادة جبهة تحرير تيغراي يتضمن تعيين رئيس الجبهة دبرصيون جبر ميكائيل نائباً لآبي أحمد في الحكومة المتوقعة، وتعيين المتحدث باسم الجبهة قيتاشو ردا في منصب وزاري.

عبارة "تحالف جديد" بين آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي قصدنا بها الإشارة إلى أن الطرفين كانا حليفين بالفعل لفترة طويلة، فآبي أحمد كان أحد قيادات "الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو، وهي أحد أقطاب ائتلاف "الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية"، الذي قادته الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وحَكَم البلاد لقرابة 30 عاماً بعد سقوط نظام الكولونيل منغيستو هيلا مريام، قبل أن تنتهي هيمنة جبهة تحرير تيغراي على السلطة بصعود آبي أحمد رئيساً للحكومة عام 2018، وبدأت الخلافات تدب بين الجانبين، إلى أن أسس الأخير حزب الرخاء عام 2019، الذي رفضت الجبهة الانضمام إليه، لتتراجع سيطرتها بعد ذلك إلى معقلها التاريخي "مقلي" عاصمة الإقليم، وبعد ذلك تطورت الخلافات إلى أن اندلعت الحرب أواخر عام 2020.

إذا صحت التكهنات، وعادت الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى السلطة، فإنها بطبيعة الحال لن تكون صاحبة السلطة الحقيقية كما كانت في السابق، فهي ستكون شريكة لآبي أحمد، وهذا من شأنه أيضاً أن يثير غضب نخبة قومية الأمهرة، الذين دعموا الحرب بشدة، وتضرر إقليمهم جراء غزو قوات تيغراي له في صيف 2021، كما أنهم غاضبون بالفعل من اتفاقية بريتوريا، فمجرد جلوس آبي أحمد للتفاوض مع قيادات تيغراي يُعد تنازلاً كبيراً من رئيس الوزراء الإثيوبي؛ إذ كان الرجل يستعصم بالرفض أمام كل الوساطات الإقليمية والدولية طيلة العامين الماضيين.

كما أن عودة الجبهة لن تسر إسياس أفورقي، رئيس إريتريا المجاورة وشريك آبي أحمد في الحرب، بل يُقال إنه المهندس الأساسي لها؛ بسبب عدائه التاريخي مع جبهة تحرير تيغراي.

بطبيعة الحال يُتوقع أن يعود سد النهضة إلى الواجهة في الفترة القادمة، بعد اتفاق السلام، إذ تأثر السد بتداعيات الحرب، وقد اعترف مدير المشروع في تصريح قبل 4 أشهر "تم نشره باللغة الأمهرية فقط" بأن هناك حاجة إلى 60 مليار بر (أكثر من مليار دولار) إضافية لاستكمال مشروع سد النهضة.

ولكن لا يزال الطريق شاقاً نحو السلام في إثيوبيا، فبخلاف الحرب الوحشية التي شهدها إقليم تيغراي، هناك حرب أخرى لا تزال تدور على نطاق واسع بين الجيش الإثيوبي وجيش تحرير أورومو Oromo Liberation Army في إقليم أوروميا الذي يحيط بالعاصمة أديس أبابا من جميع الاتجاهات تقريباً.

عليه، يُؤمل أن يبادر رئيس الوزراء آبي أحمد إلى إيجاد تسوية أخرى مع جبهة تحرير أورومو وذراعها العسكرية، خاصة أن أحمد ينحدر من الإقليم نفسه، وكان يشغل فيه منصب نائب الحاكم قبل أن يصعد إلى منصب رئيس الحكومة عام 2018.

أخيراً، الدرس المستفاد من هذا الصراع الدامي أن القضاء على مجموعةٍ مسلحةٍ تتمتع بقدرٍ من التأييد الشعبيٍ أمر بعيد المنال مهما كان قوة الطرف المُبادِر بشن الحرب ومهما طال زمن الصراع، ولعل ما حدث في حربَي اليمن وأوكرانيا خير دليل؛ لذلك فإن الدبلوماسية والحلول السياسية خيار سهل وأقل تكلفة، وهو ما لم يدركه آبي أحمد وقادة تيغراي إلا بعد عامين من الصراع، الذي كان آبي أحمد يطمح إلى حسمه خلال 5 أيام فقط! لكن المحك يظل في إكمال تنفيذ اتفاق السلام وسط التحديات التي تحيط به، مثل قضية أراضي غرب تيغراي، ووجود القوات الإريترية في الإقليم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد جامع
صحفي متخصص بالشأن الأفريقي
محمد مصطفى جامع، كاتب وصحفي سوداني، حاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة وادي النيل، أعمل حالياً على ماجستير في الإذاعات الرقمية، أجد نفسي في الكتابة عن دول شرق إفريقيا، ونُشرت لي عنها أكثر من 300 مقالة وتقرير في عدة صحف عربية، أعشق القهوة وأحب الحوار الهادئ المتعمق.
تحميل المزيد