في يوم الأربعاء، 11 يناير/كانون الثاني، أطلق البنك المركزي العنان أمام الدولار للارتفاع مقابل الجنيه المصري، وانخفضت قيمة العملة بنحو 12% من قيمتها، ليصل إلى 32.1 جنيه مقابل الدولار، لتسجل العملة المصرية أسوأ أداء في الأسواق الناشئة، وفقاً لمؤشرات "بلومبرغ" وتفقد 51% من قيمتها خلال أقل من عام.
وفي نفس يوم الانخفاض التاريخي تدفّق إلى الاقتصاد المصري قرابة 160 مليون دولار من الأموال الأجنبية، وفي اليوم الثاني تم ضخ ما يصل إلى 800 مليون دولار في البنوك المصرية، قبل قيام المركزي المصري بطرح أذون الخزانة في مزاد أمام المؤسسات المالية والمستثمرين الأجانب بعائد مرتفع، وهو ما ساعد في تدفق الأموال الساخنة إلى الاقتصاد المصري من جديد، عبر شراء السندات المالية وأذون الخزانة المصرية، ما ساهم في استقرار سعر الجنيه عند 29.5 جنيه للدولار.
كما أفادت وكالة رويترز بأنه في اليوم التالي للتخفيض، الخميس، 12 يناير/كانون الثاني، باعت الحكومة المصرية أذون خزانة بقيمة 1.7 مليار دولار، ويصل العائد الخاص بها إلى 21% خلال 6 أشهر، كما باعت بقيمة مليار دولار أذون خزانة مستحقة بعد عام بعائد يصل إلى 21.5%. ليصل إجمالي ما باعته الحكومة خلال يوم واحد إلى 2.7 مليار دولار أمريكي.
وبعد عودة الجهاز المصرفي للعمل يوم الأحد، ارتفعت مبيعات المركزي لأدوات الدين المصرية للمُدينين الأجانب، بقيمة تقترب من 3 مليارات دولار لشهادات تستحق السداد بعد 3 أشهر. بالإضافة إلى بيع أذون خزانة تستحق السداد بعد 9 أشهر بقيمة تقترب من نصف مليار دولار.
يُذكر أن السبب وراء هذه المبيعات الضخمة هو انخفاض الجنيه المصري، وتدني قيمته، ما جعل أذون الخزانة المصرية يجري تداولها بسعر هو الأدنى على الإطلاق مقارنة بأدوات دين بقية الأسواق الدولية، ليتسع الفارق بين عائد أذون الخزانة المصرية والبلدان الأخرى لأكبر قدر على الإطلاق. ما دفع المستثمرين، أو ما يطلق عليهم "الدائنين" إلى العودة مجدداً إلى الاقتصاد المصري، ويعود معها الاعتماد على الأموال الساخنة شديدة المخاطر.
وبعد هذه العملية بأيام نشر البنك المركزي بياناً يشيد خلاله بالتغيرات الإيجابية التي حدثت في الأيام الأخيرة، ويحتفل بدخول ما أطلق عليه "الاستثمارات الأجنبية" إلى الاقتصاد المصري. واعتبر أن عودة ثقة المُدينين الأجانب في الاقتصاد المصري وعودة الأموال الساخنة إلى الاستثمار بعد هروبها منذ 11 شهراً مؤشراً إيجابياً وحدثاً يستحق الاحتفال.
البحث عن الدواء عند أصل الداء
مع بداية العام الماضي، لم تكن الحكومة المصرية تعرف أنها ستصل إلى هذا المأزق، وأنه سيكون عليها التعامل مع هذا الكم من الصدمات الاقتصادية، وكانت معظم التقديرات بشأن النمو وتحسّن الاقتصاد المصري متفائلة. وكانت تعتمد في تمويل احتياجاتها من الواردات، والتزاماتها من الديون الخارجية على الأموال الساخنة التي تبيع لمصر الديون.
لكن كل شيء تغير مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية وتصاعد الأزمة الاقتصادية عالمياً، والتي تسببت في سحب مليارات الدولارات من سوق السندات المصرية، والتوقف عن شراء أذون خزانة جديدة. ليهرب ما بين 20- 25 مليار دولار من الأموال الساخنة كما اعترفت الحكومة المصرية.
وأتجهت هذه الأموال صوب الولايات المتحدة مع رفع الفيدرالي لسعر الفائدة. ولم تعد تأتي هذه الأموال مع عدم يقينها بشأن مستقبل اقتصادات الدول النامية ومنها مصر، وعدم ثقتهم بقدرة هذه الدول على الوفاء وتسديد الديون في ظل الأزمة.
ووجدت الحكومة المصرية نفسها في ورطة عدم قدرتها على تلبية طلبات الاستيراد وسداد عشرات المليارات من ديون وفوائد لم تتوقع الاضطرار لها قبل الحرب والأزمة الاقتصادية، ما دفعها في مارس/آذار 2022 إلى تخفيض الجنيه المصري، والذي كان سعره يقارب 15 جنيهاً لكل دولار، وسارعت إلى عقد اتفاق مع الصندوق وطلب المساعدة من الدول الخليجية. ومنذ ذلك الحين والاقتصاد المصري يواجه أزمات عاصفة أدخلته في سلسلة متتالية من التخفيضات لقيمة العملة، وصولاً إلى اللحظة الحالية التي يكاد فيها الدولار يلامس 30 جنيهاً.
بالإضافة إلى نزيف ما لدى مصر من احتياطي نقدي أجنبي، وبعد أن كانت تملك 40.93 مليار دولار في بداية العام، تراجع بواقع 7.8 مليار دولار في الشهور الأولى للعام. ووصل إلى أدنى مستوى يصل إليه منذ 5 سنوات، مع ارتفاع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما عصف بالقدرة الشرائية للمواطنين وهوى بقيمة الدخل الذي يتلقونه وجعلهم يخسرون جزءاً كبيراً من مدخراتهم بفعل انخفاض العملة وارتفاع التضخم.
وخلال تلك الفترة كانت الحكومة المصرية تؤكد مراراً وتكراراً أن خروج الأموال الساخنة هو السبب الرئيسي في الأزمة الحالية التي يعيشها الاقتصاد المصري، وخرج "محمد معيط"، وزير المالية، في عشرات اللقاءات الإعلامية وأكد نفس الأمر، وأظهر ندم الحكومة المصرية لاعتمادها على الأموال الساخنة، وقال إن التوجه الحالي سيتركز على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. حتى أنه في إحدى المرات قال: "تعلمنا الدرس". ولكن يبدو أن الحكومة المصرية لم تتعلم الدرس كما ادّعت، وعادات إلى عادتها القديمة كأن شيئاً لم يكن. أو أنها غير قادرة على توليد موارد دخل جديدة تمكنها من وقف الاعتماد على الأموال الساخنة، رغم اعترافها بدورها السلبي من قبل.
اتساع دائرة الديون
على الرغم من أن تدفق هذه الأموال إلى مصر ساهم في استقرار نسبي للجنيه، ومكن البنك المركزي من تغطية أكثر من ملياري دولار من طلبات المستوردين المصريين، بالإضافة إلى تغطية طلبات العملاء للبنوك المصرية، وساهم في حل جزء من أزمة شح العملة الأجنبية التي تعاني منها البلاد، من خلال الإفراج عن الأطنان من البضائع المحتجَزة بالموانئ المصرية، والتي ظلت مكدسة لأشهر تنتظر سيولة نقدية من العملة الصعبة. ولكن الأمر لا يعدو كونه حلاً مؤقتاً، ولا يحل أزمة، وإنما يفاقمها أكثر.
ولا تقتصر المشكلة على أن اعتماد مصر على هذه الاستثمارات التي تدرك مخاطرها، يعيدها إلى نقطة ما قبل الحرب الروسية، ولكن المشكلة الأساسية في ظني، هي أن السياسة النقدية والمالية باتباعها سياسة الاستدانة المستمرة، عبر عدة أدوات. منها بيع أذون خزانة وسندات مالية بعائد مرتفع يصل إلى 21.5%، وتستحق السداد في مدى أقربه 3 أشهر وأقصاه سنة، يزيد من مخاطر منحنى الديون الآخذ في الارتفاع.
كما أن تدفق هذه الأموال مرهون بسعر الفائدة المرتفع والعائد الضخم الذي تمنحه مصر، وهو ما يؤدي إلى العديد من الأضرار بالغة الخطورة، ومنها زيادة بند الديون وارتفاع عجز الموازنة، ويدفع الاقتصاد إلى الركود، ويؤثر على الاستثمار المباشر المرتبط بالتشغيل والإنتاج، لأنه في ظل وضع اقتصادي عالمي ومحلي متأزم، سيفضل المستثمر ضخ أمواله في شراء أذون خزانة أو سندات مالية تضمن له عائداً مرتفعاً دون تكبد أي مشقة أو مخاطرة، بدلاً من وضعها في مشاريع استثمارية، على ما في ذلك من مخاطرة وصعوبات وتحديات شاقة. لنجد في النهاية أن الحكومة المصرية تجذب "الدائنين" بدلاً من "المستثمرين".
الأمر الذي يجعل الاقتصاد المصري يدور في فلك الديون، ويبحث عن حل لأزمة اليوم دون اكتراث بالأزمة التي يصنعها غداً، وسيكون عليه مواجهتها. مما يدفعه إلى مزيد ومزيد منها كأنه إدمان، بحيث يستدين ليسدد ديوناً قديمة، ويستدين اليوم ديوناً مستحقة السداد بعد 90 يوماً، بعائد مرتفع غير موجود في أي دولة أخرى، وعندما تنقضي هذه المدة القصيرة ويحين موعد السداد، يستدين مرة أخرى بعائد ربما يكون أعلى ليسددها، في تكرار سيزيفي لا ينتهي.
ويُذكر أن الأموال الساخنة لم تكن هي السبب الرئيسي في الأزمة التي يُعانيها الاقتصاد المصري في ظني، لأنه كان يعاني العديد من الأزمات الهيكلية والمتراكمة، ولكن فقاعة الأموال الساخنة عندما انفجرت مع بداية الحرب، أظهرت كل تلك الأزمات وكشفت الضعف والهشاشة داخل بنية الاقتصاد المصري، وأظهرت بوضوح قلة موارد الدخل، والاعتماد المُبالغ فيه على الاستدانة. وعجز الميزانية المستمر منذ عشرات السنين، والعجز التمويلي الذي لا تجد له الأنظمة والحكومات المتعاقبة حلاً غير الاستدانة. والآن بعد تدهور وضع الاقتصاد المصري وتعمق أزمته، تلجأ الحكومة المصرية مجدداً إلى إعادة ملء الفقاعة، وهي تعرف أنها لا تمتلئ إلا لتنفجر في أي توقيت ممكن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.