على خريطة الوطن المستباحة لكل غازٍ منذ ما يربو على ألف عام، يبدو الدم الفلسطيني اليوم كأنه فدية الذبح في وليمة الاستباحة والغزو المعاصري، أكثر من أي عربي آخر على مدى هذه الخريطة الممزقة، يبدو الفلسطيني كأنما الأقرب والأسهل منالاً للرمي والقتل والتشريد.
وفي ذاكرة "النضال الفلسطيني" تبقى المخيمات الفلسطينية خالدة حتى الأبد، وصور النضال الرائعة تتكرر فيها لتشكل المجرى الطبيعي للحياة اليومية المرة؛ حيث العذابات القاسية، والرغبة في تحدي المشكلات مهما صعبت، ومهما كانت قراراتها.
ولأن المخيم في حياتنا الفلسطينية هو الرمز الأكثر بروزاً للروح الفلسطينية، ومعقل الوطنية الفلسطينية التي لم تشوه رغم تكالب آلاف العوامل القاسية عليه، لذا كان المخيم دائماً هو الهدف للمعتدي العربي تارة، والعدو الصهيوني تارة أخرى.
لقد علمتنا "سيمفونية الدم" المسفوح في المخيمات أن لهذه المخيمات ملامح واحدة، ولغة واحدة وحيدة، سواء أخذ المخيم اسم مخيم الرشيدية كما في لبنان، أم أخذ اسم رفح في فلسطين، فالعابرون هم أنفسهم وإن تبدلت الأسماء، والشوارع هي نفسها وإن اختلفت ألوان الحجارة، و"البرّاكيات" هي نفسها وإن اختلفت سماكة الصفيح في أسقفها، وعصابات القتلة هي نفسها وإن اختلفت أشكالها ولغتها.
ظل المخيم دائماً هو المنتصر بروحه وانتمائه ورفده المتواصل للثورة بالمقاتلين والمجاهدين، فقد تحمل المخيم طوال سنوات الثورة والنضال العبء الأساسي في صمود وديمومة الكفاح.
فيه شرارة الثورة.. ومنه زادها البشري
له الغارات والمجازر.. ومنه الشهداء واليتامى والأرامل والثكالى.
بدم أبنائه كتبت شهادة فلسطين من جديد، وبصور شهدائه أعطى المخيم للنضال الفلسطيني الزخم الثوري المتواصل، لقد كان المخيم ولا يزال مغلقاً وعصياً أمام الأعداء، فلم يجد العدو وسيلة سوى مدافع الدبابات ومحاولة اغتياله بصواريخ الطائرات وأطنان المتفجرات والجرافات، ناهيك عن تنظيم أبشع المجازر في تاريخ البشرية بحق أبناء هذه المخيمات.
مخيمات الصمود الفلسطينية
لقد كان مخيم "جنين" على الدوام قادراً على النهوض من تحت الأنقاض، محتفظاً بروحه الفلسطينية الخالصة، ومجسداً ولاءه الوطني بكل عمق ورسوخ، فكان من البديهي أن تقف المخيمات الفلسطينية التي شكلت على الدوام مدارس قتالية في وجه الغزاة عرباً كانوا أم صهاينة.
شاهدنا ذلك في مجازر "صبرا وشاتيلا" و"عين الحلوة"، وقبلها مخيمات "تل الزعتر" و"النبطية"، ومن ثم "البداوي" و"نهر البارد"، و"برج البراجنة" و"المية مية"، والآن في مخيمات التحدي والصمود في الأراضي الفلسطينية، في "بلاطة وطولكرم والدهيشة والأمعري والعزة والعين وعسكر والفارعة"، وأخيراً وليس آخراً في قلعة الصمود والتضحية والفداء "مخيم جنين".
لقد تجاوز هذا المخيم مساحته الجغرافية المحدودة، وحصاره الصهيوني المحكم، ليجسد على أرض الواقع الحقيقة الفلسطينية بأن المخيمات لا تسقط، بل تقف على الدوام في وجه الأعداء الذين استباحوا دماء الأطفال والنساء والشيوخ.
لم يسقط المخيم بل سقطت أوراق التوت
"مخيم جنين" اليوم محطة مضيئة من محطات النضال الفلسطيني، وليست أخيرة كما لم تكن في يوم ما الأولى، فقد قاتل هذا المخيم البطل حتى الاستشهاد في عام ٢٠٠٢م، وسطر ملحمة تاريخية فلسطينية بمقاومة مجاهديه الذين قاوموا آلة الحرب الصهيونية على مدار عشرة أيام، ورفض مقاتلوه أن يتراجعوا قيد أنملة أمام آلة الدمار والحرب الصهيونية.
لم يسقط المخيم بل سقطت أوراق التوت مرة أخرى، وتعرت الأجساد، وانكشفت الأقنعة عن الوجوه التي تدعي الحرص والغيرة على القضية الفلسطينية، لأن مخيم جنين بصموده الأسطوري قد كشف كل المتخاذلين والخونة، فقد تحول ما أطلق عليه قادة العدو الصهيوني "الجدار الواقي" إلى عملية قتل جماعي بشعة، كان الهدف منها ليس القضاء على أبطال ومجاهدي الشعب الفلسطيني وحسب، وإنما على النسل الفلسطيني الذي طالما أرعبهم وقض مضاجعهم.
ففي مخيم جنين تكرر المشهد الدامي لمذبحة مخيمي "صبرا وشاتيلا" وجميع المخيمات الفلسطينية داخل الوطن، وفي المنافي والشتات من تدمير جرافات الاحتلال لبيوت المخيم بيتاً بيتاً، وعمليات إعدام ميداني للمدنيين الفلسطينيين بعد اعتقالهم، وهدم المخيم ووضع الجثث تحت الأنقاض، ونقل بعضها لأماكن مجهولة، وتدمير المساجد والمستوصفات الصحية والمؤسسات المدنية، وتشريد النساء والأطفال وتسوية منازل المخيم بالأرض على رؤوس سكانها من المدنيين العزل، ودفن عشرات الشهداء الذين سقطوا في الدفاع عن المخيم في مقابر جماعية.
مجازر عصور البربرية الثانية
لم تحدث المجزرة في عصور البربرية الأولى، بل حدثت في ظل النظام العالمي الجديد، وفي ظل التحالف الدولي ضد الإرهاب، وفي عهد القانون الدولي وحقوق الإنسان، وشرف التعهدات والاتفاقات كما تفهمها الدول الكبرى والصغرى أيضاً، وكانت التهمة: لماذا يتذكر الفلسطيني أنه فلسطيني فعلاً؟!
في مخيم جنين كانت المجزرة تأخذ طابع الحقد المتراكم منذ قرون، منذ اندثار اليهود في خيبر، وخروج الصليبيين مهزومين من القدس، وهو ما عبر عنه أحد جنود الغزاة بأنه يجب قتل كل فلسطيني، لأن كل فلسطيني لابد أن يكون فدائياً.
إلى الآن لم يستطع أحد أن يلملم التفاصيل، وذلك الألم والرعب والسخط والجنون كيف تحملته قلوب الناس وعقولهم، وكيف استطاعت عدسة العين أن تستوعب ملايين التفاصيل في مشهد جنوني وفظيع، ويفوق حدود المسافة بين القاتل والضحية اسمه مشهد الموت.
لقد جسّد مخيم جنين البطل فكرة الثورة، وفكرة الصمود في الزمن الصعب، وكشفت دماء الشهداء التي كست وتكسي أرض هذا المخيم هذه الأيام الخيط الأبيض من الأسود لكل الذين روجوا لسلام الذئب والحمل! وسيكون هذا المخيم الصامد شاهداً على مر التاريخ على عظمة الفلسطينيين وقدرتهم في مواجهة كل معتد أثيم، وشاهداً على أن المارد الفلسطيني أقوى من الدمار والفناء.
يا هذا الشعب الأصلب.. يا هذا الرقم الأصعب
سيبقى مخيم جنين ككل المخيمات الفلسطينية رمزاً للشرف والبطولة العربية، يستطيع العدو الصهيوني أن يقوم باجتياح كل الأراضي الفلسطينية، وأن يقتل النساء والشيوخ والأطفال، ويدمر المنازل والمدارس ودور العبادة، ولكن الذي يحسم القضية ليس معركة أو معارك، فالشعب عندما يثور لتحرير أرضه وانتزاع حريته، يعرف أن العدو يستطيع أن يقتل وأن يدمر.
ولكنه يعرف أيضاً أن النصر حتمي للشعب الثائر ومؤكد بإذن الله، لأن الجماهير صاحبة القضية تستطيع أن تصمد وأن تقدم التضحيات تلو التضحيات.. ولكن العدو لا يستطيع أن يصبر طويلاً.
في فيتنام دمر المستعمرون الأمريكيون عشرات المدن ومئات القرى دون أن تصاب واشنطن أو نيويورك بطلقة واحدة من الثوار الفتناميين "الفيت كونغ"، ومع ذلك فإن الذي انتصر هو الثورة الفيتنامية، في حين كان المستعمر الأمريكي يسعى إلى الخروج من المأزق.
إنها طبيعة كل الثورات في العالم، وإنها طبيعة كل المستعمرين الغزاة الذين عرفهم التاريخ.
ستبقى ذكرى أبطال مخيم جنين، وهم يمدون خيطاً من الدماء يتواصل من رفح حتى الناقورة، هوية العصر الفلسطيني القادم، وستظل ذكرى شهداء المخيم الذين شكلوا بأجسادهم الطاهرة تاريخ المرحلة المقبلة للنضال الفلسطيني، ذكرى لملحمة الفداء والجهاد.
يا هذا الشعب الأصلب
يا هذا الرقم الأصعب
أنت تقاتل.. أنت إذاً فلسطيني!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.