رسائل إلى الثورة: هذا العالم نُشيّده فينهار!

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/26 الساعة 13:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/26 الساعة 15:30 بتوقيت غرينتش
ثورة يناير بمصر /رويترز

"هذا العالم ‏نُشيِّده فينهار، ‏ثمَّ نُشيِّده ثانيةً ‏فننهار نحن"

  • راينر ماريا ريلكه

عزيزتي ثورة 25 يناير،

واقعنا اليوم شديد الرتابة مُقيّد بالسياسة، والقهر والمصالح، والكثير من الغضب واليأس. مع ذلك، في ذكراك الثانية عشرة، ما زال يزورني طيف ذلك الطفل المندفع، الرقيق الذي يريد أن يعيش الحياة بإحساس أصيل، محاولاً اصطياد العالم، وإنقاذه من كل شروره وعِلله.

وبعد مرور أكثر من عقد على ذكراك، أعيش أنا والأصدقاء بمأزقنا، ونشعر بحسرة الخسارة للعبة كانت غير عادلة، هُزمنا في دقائقها الأولى، لكن الذاكرة تأبى أن تتركنا نمضي لنفرّ منك ومن البلاد بشكل كامل، فكم كان حبك شاقاً، ولسنا نادمين على هذه المشقة، لكننا نتعب أحياناً.

ما زلت أقف عاجزاً أمام فخ التكرار والاستسلام للحنين، لكني بالتأكيد أحاول رسم فهم جديد لما عشناه، لعلنا نصنع وعياً أكثر نضجاً للدفاع عما سيصير ماضياً ونقابل به ما سنعيشه مستقبلاً.

لذلك، قررت هذه المرة أن أبعث لكِ رسائل من أصدقاء لم تقابليهم، لكنهم سئموا حكايتي عنك فقرروا أن يكتبوا لكِ الرسائل، سأتركها لكِ في الأسفل.

تحياتي،

طفلك العزيز أحمد، مصر

رسالة من إيران

عزيزتي ثورة 25 يناير،

أحببت أن أعرّفك بنفسي، أنا أمينة من إيران، أعيش في تركيا وأحضّر رسالة الماجستير حول الشعر التركي والفارسي. 

أنا لا أعرفك، لكنني سمعت عنك الكثير من أناسٍ وضعوا أوجاعهم في حقائبهم ورسُوا على شواطئ إسطنبول.

لقد كنت بنت الثالثة عشرة عندما سمعت عن الربيع العربي، لا أكاد أتذكر من تلك الأيام أكثر من متابعة أبي للأخبار باستمرار وذاك الأمل في عينيه الذي انعكس في قلوبنا وجعلنا أكثر أملاً بتغيير حقيقي لذلك الواقع.

كنا فخورين أننا نشاهد ونسمع عن مظاهرات واحتجاجات وتحركات حقيقة ضد الظلم والظالمين تليق بتاريخنا البشري وبواقعنا الأليم.

أتذكر كيف أحرق محمد البوعزيزي نفسه، وكيف أنه استطاع بمفرده أن يترك الأثر الكافي لنقوم نحن بالتغيير ومواجهة الظلم والاضطهاد، كما أتذكر بصيص الأمل ولهيب الشوق إلى الحرية والتغيير الذي كان يملأ عيني أبي لاسيما بعد أن بدأت المظاهرات والاحتجاجات تأخذ طابع الجدية في شوارعك وشوارع بلاد عربية أخرى. 

لم يكن من الغريب أن نتمسّك بالأمل الذي ينقصنا في إيران، وأن نحلم بالتغيير الذي انتظرناه كثيراً من أجل حرية الشعوب، بعد أن بدأ الشعب المصري بالخروج إلى الشوارع والأزقة حتى التجمهر في ميدان التحرير ثائراً ضد حسني مبارك ومقتدياً بالنصر الذي حققه الشعب التونسي.

لكن كان تتويج كل تلك البطولات والدماء التي ذرفت من أجل الحرية بانقلاب أسود عام 2013 مات فيه ما يقارب الـ 4 آلاف شخص في ثلاثة أيام كبداية لعودة الظلم والقهر مجدداً، سبباً كافيا ليتخلّى والدي ومن بعده نحن عن آمالنا التي بنيناها. 

كبرت أنا وشاخ والدي، لكننا لا نزال نمضي على طريق الحرية التي أضاءته لنا تلك الثورات واهبين أنفسنا للحرية وللتغيير.

يوماً ما سيتحسن الوضع في مصر وإيران، فيوماً ما سنخرج من عتمة الظلم وقهر الظالمين إلى نور الحرية مخلفين وراءنا نهاية بيضاء تليق بالأبناء والأحفاد.

مع كل حبي،

أمينة، إيران

رسالة من البوسنة والهرسك

عزيزتي ثورة 25 يناير،

لقد سمعت عن العديد من الثورات طيلة حياتي، لكن عندما التقيت مع أصدقائي في ليلة باردة داخل مقهى في أنقرة عائدة من سراييفو، وتحدث صديقي المصري عن الربيع العربي، لم يخطر إلى ذهني الكثير من المعلومات، ولكن أخذني الفضول لأن أعرفك أكثر، فما زلت أتذكر جيداً حماسة أول لقاء بيننا وهو يتحدث عنك.

 اعذريني، فعند ولادتك كان عمري 14 عاماً فقط؛ لذلك أخذت بعض الوقت لأبحث عنك قبل مراسلتك، فلا أتذكر من تلك الأيام سوى متابعة أبي للأخبار حينها بشكل مستمر.

لكن بعد أن بحثت أكثر عن هذه الثورة وأحداثها، أصابني شعور بالخذلان أعتقد أنه الأسوأ في العالم، وهو نفسه الشعور الذي دفع شاباً تونسياً إلى التفريط بحياته بعد كل الجوع والسرقة والفقر الذي رآه في حياته، لا أدري إن كان يمكنني أن أصف ما فعله بالشجاعة أم لا، لكنني أعرف أن ما فعله كان سبباً لتغيير الكثير من الأمور بعدها.

إن حرق الشباب التونسي لنفسه جعل الناس والدول تعطي ردة فعل مختلفة تجاه الأمور، ومن هنا بدأ الربيع العربي.

دفعني حديث صديقي المصري إلى البحث بشكل خاص عن الوضع المصري بالتحديد، ورأيت كيف أن الشعب وقف في وجه الدكتاتورية مرتين؛ مرة في وجه السلطة، والأخرى في وجه الجيش. إن وقوف الشعب أمام الجيش وقواعده بهذا الشكل أثر فيّ حد القشعريرة.

إن دفاع الناس عن أنفسهم ومعتقداتهم وحرياتهم جعل الشعب قوة لا يمكن تحطيمها. وإن الدعوات التي يقتل فيها شخص واحد لا يمكن أن تكون إلا على حق، وفي هذه الثورة قتل أكثر من ألفي شخص لأنهم اختاروا الديمقراطية فقط.

على العالم أن يشعر بالخجل. إن فقدان الناس لحياتهم بعد أن بدأوا يتعرفون على الديمقراطية حديثاً لأمر محزن وهادم للغاية.

على أية حال، أريد أن أختم كلامي قائلاً إن دفاع الشعب عن كرامته وعدم استسلامه يجعل من كل فرد منهم بطلاً خاصاً، وإن الأبطال لا يُنسوا بل إنهم يستمرون في العيش في قلوبنا.

مع مودتي،

عذرا، البوسنة والهرسك

رسالة من أوزبكستان

عزيزتي ثورة 25 يناير،

إنه أنا مظفر من أوزبكستان، لم نتقابل من قبل، أكتب لكِ اليوم وأشعر أننا كبشرية وصلنا للحظة ربما نفتقد أدنى حقوق الكرامة الإنسانية في كل مكان. لكن دعك مني اليوم، فدائماً ما كان الفصل الأول في كتاب التاريخ المدرسي يتحدث عن الحضارة المصرية وعظمتها، ولعل ذلك ترك لديّ اهتماماً وفضولاً خاصاً تجاه هذا البلد الذي ولدتِ به، وأذكر كيف أنني كنت أذهب للمكاتب العامة لاستعارة الكتب التاريخية التي تتحدث عن هذا البلد وشعبه وأنا في عمر الثانية عشرة.

لم يسعفني صغر سني عام 2011 أن أفهمك بشكل كامل آنذاك، لكن عندما جئت إلى تركيا لدراسة الماجستير تعرفت على حكايات الثورة البطولية من طلاب مصريين عاشوا أحداثها على أرض الواقع، ودفعني ذلك إلى البحث والقراءة عن مصر بشكل مفصل عنك تحديداً، وهو ما أوصلني إلى نتيجة يمكن أن ألخّصها على النحو التالي: إن الشعب المصري شعب أحب الحرية، ولا يتوانى أفراد هذا الشعب سواء كانوا أطفالاً أو شيوخاً أو نساءً أو رجالاً عن تقديم أرواحهم فداء لوطنهم، وهو ما رأيناه ونتج عنه سقوط ديكتاتور كان الأبشع في منطقة الشرق الأوسط.

لكن يا للأسف، لم تدُم فرحة الشعب المصري الذي عانق حريته طويلاً؛ إذ اعتلى العسكر الحكم بانقلاب دموي، واضطر الشباب والمثقفون إلى الهروب خارج وطنهم، أليس هذا غريباً؟

تخيل أنك لا تستطيع أن تدخل وطنك بحرية، ذلك المكان الذي ولدت وكبرت فيه، تترك خلفك كل تلك المشاعر والآمال والذكريات وتبقى بداخلك أمنية العودة إليه يوماً ما.

لكنني أؤمن بأن التغيير والحرية سيعانقان هذا البلد وأبناءه يوماً ما دام الأمل وحب الوطن باقيين في قلوبهم.

ولكِ خالص شكري،

مظفر، أوزبكستان

رسالة من تركيا

عزيزتي 25 يناير،

كنت في الخامسة عشرة من عمري عندما سمعت عنك أول مرة. لم أكن أعرف بالضبط طبيعة الانتفاضات في البلدان العربية الأخرى، لكن كان لها مكانة مهمة في الإعلام التركي، ولا سيما الاحتجاجات في مصر التي حظيت بدعم كبير في تركيا. على الرغم من أنني ما زلت لا أعرف الكثير عنك، إلا أنني أستطيع أن أقول هذا لنفسي: لقد جعلتِ للناس صوتاً ضد ما لم يؤيدوه. لقد أحدثت ضوضاء في منطقتنا وفي العالم أكثر مما تعتقدين.

احترامي،

هميات، تركيا

نهاية العدالة في الأرض

يقول الكاتب الكوبي الأشهر ليوناردو بادورا في روايته (الرجل الذي كان يحبُّ الكلاب): "أشعر بأننا وصلنا إلى نهاية العدالة في الأرض، إلى حدود فقدان الكرامة الإنسانية. لقد مات الكثير الكثير من الناس باسم ما وعدونا بأنه سيكون مجتمعاً أفضل".

رغم ذلك، لا أتفق كثيراً مع مقولته؛ حيث تظل فكرة الثورة تطلّ من خلال رسائل أصدقائي، لتؤكد أنها طقس اجتماعي دائم الحدوث، فنحن أبناء الجنوب رغم أننا مهزومون من البداية، إلا أن رغبة جارفة في مواجهة العالم بأسره ما زالت تملؤنا، تمتلكنا رغبة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لعل العالم يتسع لنا جميعاً.

تطل الثورة من خلال هذه الرسائل أحياناً عابسة، وأحياناً مليئة بالأمل. تظهر الثورة كامرأة وأحياناً كرجل.

تظهر كملحمة وقصص رومانسية، وأحياناً أخبار واضطرابات في بلاد بعيدة.

لكن في كل الأحوال لا تظهر الثورة وحدها، فهي تأتي في هذه الرسائل أحياناً بخط تصحبه مآسي وأحلام بلاد أخرى، ينظر لثورتنا بعين لم ننظر منها. كل رسالة هي شعور ورؤية وحقيقة عن الثورة وعن ذواتنا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إبراهيم
كاتب مصري
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد