زوبعة جديدة فجّرها وزير العدل المغربي، السيد عبد اللطيف وهبي، وأثارت جدلاً كبيراً على مختلف وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً على مستوى النقاش في مجلس النواب (البرلمان). ففي الوقت الذي كان الجميع ينتظر فحوى قانون "العقوبات البديلة"، الذي كان يبشر المغاربة بقرب إقحامه في المنظومة الجنائية، طرح هذا القانون (مشروع قانون) إمكانية أن يقوم السجناء ومقترفو الجرائم بشراء مدة حبسهم، وذلك بدفع مبلغ يتراوح ما بين 100 و2000 درهم عن يوم حبسهم، لتمكينهم من مغادرة السجن أو عدم دخوله أصلاً.
من حيث المبدأ، لا تمثل العقوبة بالغرامات المالية شيئاً جديداً في التشريعات الجنائية، سواء التي تستند إلى مصادر الشريعة الإسلامية، أو التي تستوحي نصوصها من التجربة القانونية الإنسانية.
في التجارب القانونية الجنائية لعدد من الدول، ثمة توجه واضح لاعتماد العقوبات البديلة بمختلف أنواعها، لكن مع هذه التجارب تضع شروطاً وتقييدات دقيقة توضح شروط استعمال هذه العقوبة أو تلك من بين العقوبات البديلة. وقد سبقت بعض الدول العربية، مثل حالة العراق، إلى تطبيق هذه العقوبات البديلة، وذلك منذ سنة 1969، وكان تعليل المشرع العراقي أن مقاصد الردع والإصلاح التي تسعى القوانين الجنائية إلى تحقيقيها لم تحققها العقوبات السالبة للحرية، بل باتت عقوبات السجن تتسبب في مشكلات تزيد من تضخم الجرائم في المجتمع، ما تطلب معه التفكير في العقوبات البديلة.
النقاش الذي أثاره هذا القانون في الأوساط الإعلامية والبرلمانية والأكاديمية المغربية لا يدور اليوم حول مشروعية الانفتاح على هذا النوع المعاصر من العقوبات، فالتجارب الدولية والعربية تسير في هذا الاتجاه، وتحاول توطين هذه العقوبات البديلة ضمن منظومتها الجنائية.
المشكلة تطرح على مستوى آخر بالضرورات التي دفعت وزير العدل المغربي لاعتماد هذه العقوبات، وما إذا كانت مبنية على تقييم لواقع المنظومة الجنائية، ووجود قناعة ترتبت عن هذا التقييم بمحدودية العقوبات السالبة للحرية في تحقيق مقاصد المنظومة الجنائية في تحقيق مقاصد الردع والإصلاح.
وزير العدل المغربي، السيد عبد اللطيف وهبي، الذي لم ينته بعد من مواجهة زوبعة أثارها امتحان الولوج لمهنة المحاماة، اعتبر أن الدافع الأساسي لاعتماد هذه العقوبات البديلة، هو الاكتظاظ في السجون، وعدم قدرة المؤسسة السجنية على الوفاء بمتطلبات هذا العدد المتضخم من السجناء. وزير العدل المغربي لا يخفي من خلال طرحه لهذه العقوبات البديلة لمسته "الحداثية" على المنظومة الجنائية، من خلال المضي في اتجاه التقليص من العقوبات السالبة للحرية، والاقتراب من التشريعات الجنائية المعاصرة، التي تَستلهم نصوصها من منظومة حقوق الإنسان.
الدراسات والتقييمات التي أُجريت داخل أروقة وزارة العدل لأكثر من عقد من الزمن، تفيد بأن العامل الرئيسي الذي يفسر ظاهرة اكتظاظ السجون يعود إلى "الاعتقال الاحتياطي"، وعدد من المسؤولين الذين كانوا تداولوا على هذا القطاع، من بينهم السيد مصطفى الرميد، والسيد محمد الناصري، قدموا توصيات جريئة لحل هذه الظاهرة، ولم يحصل حتى الآن التوافق بين الفاعلين المؤثرين في المنظومة الجنائية على تطبيقها.
وزير العدل المغربي بدل أن يمضي رأساً إلى حل مشكلة اكتظاظ السجون، فضّل أن يجعل من هذه المشكلة المعضلة مبرراً للجوء إلى العقوبات البديلة، واقتراح غرامات مالية تخلص السجين أو المحكوم عليه من السجن.
المثير في سلوك السيد الوزير أنه لم يجعل العقوبات البديلة حلاً لمشكلة الاعتقال الاحتياطي، التي تعتبر السبب الأول في ظاهرة اكتظاظ السجون، فهذه الحالة (الاعتقال الاحتياطي)، لا تعتبر في القانون الجديد من دواعي اعتماد العقوبات البديلة، لأن الاعتقال الاحتياطي هو إجراء يسبق النطق بالحكم، بل هو مجرد إجراء يسمح بتعميق البحث واستجماع المعطيات التي تسهل المحاكمة.
وزير العدل المغربي لم يعمل على أن توفر وزارته للرأي العام خلاصات دراسات وإحصاءات أنجزتها لتقييم أثر العقوبات السالبة للحرية، وبشكل خاص، ظاهرة العودة للجريمة، حتى يتم بناء قناعات بشأن هذه العقوبات السالبة، وهل صارت غير قادرة على تحقيق أهدافها الردعية والإصلاحية؟ أم أن المشكلة في مكان آخر، يتطلب البحث عنه؟
الخلفية الحقوقية في اللجوء إلى العقوبات البديلة واضحة، فالنقاش الذي يثيره الناشطون الحقوقيون يستدعي تأثير العقوبة السالبة للحرية على نفسية المحكوم، والآثار الاجتماعية التي تلاحقه بعد انقضاء المدة، وإهدار طاقته، وتعطيل قدرته على الإنتاج والعمل لصالح المجتمع، فضلاً عن التكاليف الباهظة التي تصرفها الدولة لرعاية السجناء.
لكن مهما كانت تبريرات الحقوقيين، فإن حكمة المشرع في العقوبة تَبني أساساً فكرةَ الردع على هذه الآثار، وتفتح قوساً للإصلاح من خلال السياسة السجنية. ولذلك، المفترض في التأسيس لأي مشروع قانوني يخص السياسة الجنائية، أن ينطلق من تقييم تأثير العقوبات المعمول بها في تحقيق الردع والإصلاح، لا مراعاة نفسية المقترف للجريمة على حساب مصالح المجتمع وأمنه واستقراره.
السيد وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، ومن غير تأطير النقاش القانوني بما يلزم من المعطيات العلمية والميدانية، أطلق تصريحات متسرعة جداً تُبشر بقانون جديد، يستبدل العقوبات السجنية بغرامات مالية، تتيح للمحكومين بها شراء مدد سجنهم بها، لكن المشكلة هذه المرة، بالإضافة إلى مشكلة الإطار الفلسفي المبرر للجوء للعقوبات البديلة، تمس أهم المبادئ الموجهة للقاعدة القانونية، أي قاعدة العموم، وما يترتب عليها من الشرعية ومراعاة المساواة، كما تُسهم في زعزعة المنظومة الجنائية.
بيان ذلك أن استبدال العقوبات السالبة للحرية بالغرامات المالية، سيكرس من حيث المبدأ واقع عدم عموم القاعدة القانونية، لأن هذا الإجراء القانوني يستهدف بدرجة أولى الأغنياء من المحكومين دون الفقراء، ومن ثم فإنه يمس بمبدأ المساواة، ويعرض شرعية القانون للتهديد، ما دام الفقراء سيكونون خارج الاعتبار، وغير مشمولين بفوائد هذا القانون الجديد.
حيثيات النص القانوني الوارد في مشروع قانون العقوبات البديلة، حاولت أن تظهر من حيث الشكل تقديراً لهذا الاعتبار، إذ تم وضع مجال واسع في مبالغ الغرامة المالية بين الحد الأدنى (100 درهم) وبين حدها الأقصى (2000 درهم)، وأن ذلك حتى تظهر حجة التمييز بين الأغنياء والفقراء ضعيفة وفاقدة للمضمون، لكن حيثيات القانون نفسه تتحدث عن ارتباط الغرامة بنوع الجريمة وخطورتها، والآثار المترتبة عليها، أي أن بعض الجرائم سيكون من المستحيل جداً النزول بغرامتها إلى الحد الأدنى، أو ما يتجاوزه بقليل، ليضيق بذلك الفارق بين الحد الأقصى والحد الأدنى في بعض الجرائم، وهي الحالة التي يطرح فيها بوضوح المس بمبدأ المساواة، وبالتالي الطعن في شرعية القاعدة القانونية، إذ سيصير الأغنياء وحدهم قادرين على استبدال العقوبات السالبة للحرية بالغرامات المالية، ليتكرس واقع جديد يقرر أن السجن مُنشأ فقط للفقراء.
الخطير في المقاربة التي طرحها وزير العدل المغربي، السيد عبد اللطيف وهبي، هو ما سيترتب على استبدال العقوبات السالبة للحريات بالغرامات المالية من هدم البناء الجنائي برمته، إذ ستُسهم هذه الغرامات في استسهال فئة من الميسورين لبعض الجرائم، وإقدامهم على ارتكابها، ما دامت هناك دائماً فرصة لشراء السجن بالمال.
قد يرى البعض أن الجرائم المعنية بهذه العقوبات محدودة من جهتين، من جهة أنها تخص الجرائم التي لا تزيد عقوبتها الحبسية عن سنتين، ومن جهة أنها لا تعني بعض الجرائم التي استثناها المشرع، مثل جرائم الاختلاس أو الغدر أو الرشوة أو استغلال النفوذ، والاتجار الدولي في المخدرات والمؤثرات العقلية، والاتجار في الأعضاء البشرية، والاستغلال الجنسي للقاصرين.
لكن، مهما يكن الأمر فما دامت هناك طريقة مقدور عليها للتخلص من العقوبة، فذلك يزيل عنصر الردع، ويُبطل مفعول العقوبة برمتها، ويجعل القانون الجنائي فاقداً لمعناه، خاصة أن المشرع لا يستصغر أي جريمة مهما كانت، سواء تلك التي ترتب عليها عقوبات مشددة، أم التي ترتب عليها عقوبات مخففة، فوازع الردع مقصود في كل العقوبات من دون استثناء، فلا مبرر لإزالة عنصر الردع بتقرير عقوبات يقدر عليها الميسورون، خاصة أن هناك من سيجرؤ ليس فقط على فعل الجريمة، بل على تهديد الغير بالقدرة على فعلها، وإعادة فعلها، وسداد الغرامة المالية لتلافي الدخول إلى السجن.
هذا النوع من مقاربة المنظومة الجنائية، بوضع أساس خطير للمس بمبدأ المساواة في القاعدة القانونية، وجعل السجن مكاناً للفقراء دون غيرهم، وتمكين الأغنياء من التخلص بالمطلق من عقوبة السجن، لاسيما في العقوبات المشمولة بهذا النوع من العقوبات البديلة (الغرامات المالية)، يكرس واقع أن حكومة السيد عزيز أخنوش جاءت في الأصل لتعبّر عن مصالح الأغنياء، والجديد الذي سجله هذا القانون، أن هذه الحكومة لا تقتصر فقط على التفكير في أبناء البلد الذين يتمتعون بالحرية، بل تضع نصب عينها مصالح الأغنياء، الذين هم في السجن، أو الذين يُفترض في القادم من الأيام أن يتعرضوا لعقوبة سجنية، فجاء السيد عبد اللطيف وهبي ليعطي ضمانةً لهم، من خلال هذا القانون، بأن المكان الطبيعي للأغنياء في زمن حكومة أخنوش هو مجال الأعمال، وأن الفئة الوحيدة التي تستحق السجن في الماضي والحاضر والمستقبل هي فئة الفقراء.
هذا النوع من مقاربة المنظومة الجنائية، بوضع أساس خطير للمس بمبدأ المساواة في القاعدة القانونية، وجعل السجن مكاناً للفقراء دون غيرهم، وتمكين الأغنياء من التخلص بالمطلق من عقوبة السجن، لاسيما في العقوبات المشمولة بهذا النوع من العقوبات البديلة (الغرامات المالية)، يكرس واقع أن حكومة السيد عزيز أخنوش جاءت في الأصل لتعبّر عن مصالح الأغنياء، والجديد الذي سجله هذا القانون، أن هذه الحكومة لا تقتصر فقط على التفكير في أبناء البلد الذين يتمتعون بالحرية، بل تضع نصب عينها مصالح الأغنياء، الذين هم في السجن، أو الذين يُفترض في القادم من الأيام أن يتعرضوا لعقوبة سجنية، فجاء السيد عبد اللطيف وهبي ليعطي ضمانةً لهم، من خلال هذا القانون، بأن المكان الطبيعي للأغنياء في زمن حكومة أخنوش هو مجال الأعمال، وأن الفئة الوحيدة التي تستحق السجن في الماضي والحاضر والمستقبل هي فئة الفقراء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.