على مرأى من السلطات السويدية التي رخّصت لتظاهرة مناهضة لتركيا، في ستوكهولم، رُفعت فيها شعارات مناوئة لها، أقدم ناشط دنماركي على إحراق المصحف الشريف. ولم يمر يوم على ذلك الحدث المَشين، حتى أقدم هولندي من تنظيم هولندي معادٍ للإسلام، وهو المعروف بحروفه الأولى اللاتينية PEGIDA ويعني "الوطنيين الأوروبيين ضد أسلمة الغرب"، بتمزيق ورقة من المصحف الشريف، وسعى في إحراقها تحت أنظار السلطات الهولندية.
القرآن الكريم رمز لعقيدة يَدين بها أكثر من مليار شخص، وهو رمز لحضارة، والذي يُقْدم على المساس بالمصحف، حرقاً أو تمزيقاً، يهزأ من تلك العقيدة وأصحابها، ويَضرب صفحاً عن تلك الحضارة وإنجازاتها، ويُزري بمعتنقي تلك الديانة أو ممن يتشربون ثقافتها، وإن لم يكونوا بالضرورة مسلمين، أو ممارسين لطقوس الإسلام.
ولذلك لا يمكن أن يُعتبر إحراق المصحف الشريف أو تمزيقه، تعبيراً عن حرية الرأي، بل هو عمل عنف يدخل في دائرة ما يُسمى العنف الرمزي.
ولا جدال أن حق التظاهر مكفول في السويد، كما كل الأنظمة الديمقراطية، ومن حق المجموعات أن تعبّر عن آرائها المناهضة لسياسة دولة، أو نظام، أو حكومة، أو قرار، أو أشخاص، إلا أن المساس بما يرمز لمعتقد، وما يحيل لحضارة، لا يدخل في خانة حرية رأي. الحرية تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين، ولكن في الحالة هذه ليس الأمر حرية، وإنما اعتداء مجاني، واستفزاز رخيص، إلا إن اعتبرنا العنف حرية. وهو ما لا يقبل به أحد.
لم يفرض المسلمون على الناشط الدنماركي أن يؤمن بالقرآن أو يُقدّسه حتف أنفه. عليه وعلى غيره ممن ليسوا مسلمين، وقد لا يحبون المسلمين، ويكرهون الإسلام، أن يحترموا مشاعر المسلمين، أو إن لم يحترموها، ولم يستشعروا ذلك، أن يُبدوا التسامح، هذا المبدأ الذي يعتبر من أسس الحضارة الغربية، منذ لوك وفولتير. والتسامح هو أن تقبل بما لا تؤمن به، ولا تشاطره، تتغاضى عنه ولا تمَس أصحابه بأذى، أو تزري بما يؤمنون به.
تعود عملية إحراق الكتب إلى فترة لم تكن البشرية تحتكم إلى قواعد القانون والعقل والتعايش، وكانت تحيل في الحالة الغربية، إلى فعل يُرجى منه التقرب إلى الرب، كما تفيد كلمة Autodafé وهي مشتقة من البرتغالية auto de fé وتعني حرفياً فعل الإيمان. ويُعتقد أن فلسفة الأنوار التي هي المرجع الأساسي للغرب، وضعت حدّاً لتلك الممارسات، لأنها تقوم على العقل، والحوار، والتسامح.
ولكن تلك الممارسات لم تمحَ بداخل الغرب نفسه، ما يشكل انتهاكاً صارخاً لمبادئ فلسفة الأنوار.
ليست تلك أول مرة يُحرَق فيها المصحف الشريف في الغرب. فشت الظاهرة بعد أحداث 11 سبتمبر، وتواترت الأحداث لحرق المصحف الشريف لمتظاهرين في الولايات المتحدة، ومن قِبل الجنود الأمريكيين في أفغانستان، وفي غوانتانامو، ممن تمادوا في عملية التدنيس، في ممارسات مقززة. وتزامن ذلك مع رسوم كاريكاتورية مُنفِّرة عن رموز الإسلام، في الدنمارك، وفي فرنسا، مثلما أقدمت على ذلك أسبوعية "شارلي إيبدو" الفرنسية غير مرة، وتولدت عن ذلك أعمال عنف ضد طاقم المجلة. وأقدم أستاذ في فرنسا على تدريس الرسوم الكاريكاتورية تلك، فأثار ذلك حفيظة مسلم من الشيشان فأرداه قتيلاً.
ولا يسَع كل ذي ذهن حصيف إلا أن يُدين كل عمل عنف، مهما بدا انتصاراً للإسلام وغيرة عليه؛ إذ الإسلام أسمى من أن يُدافَع عنه بالعنف. يتوجب الدفاع عنه حين تُنتهك حرماته بالطرق الحضارية المتاحة، عن طريق القانون، والنقاش، والحوار، وكل الوسائل السلمية المتعارف عليها دولياً، بما فيها العمل الدبلوماسي، بكل أدواته وأساليبه.
بيد أننا مطالبون كذلك ألّا نقف عند الإدانة وحدها، ولكن الذهاب أبعد، للوقوف على أسباب العنف.. التفسير ليس هو التبرير. وحين تتعثر سبل التفكير الرصين، والحوار البناء، والاحترام المتبادل، تندلع الأفعال الهوجاء، أو تجد لها الذريعة. فالاستفزازات هي حطب العنف.
كان الغربيون، وهم يحكمون دولاً إسلامية عدة لا يتجرؤون على المساس بمقدساتهم. كانوا يُجرون قراءاتهم النقدية حول المجتمعات الإسلامية، ونصوصهم المؤسسة، دون تجريح، وكانت الاعتراضات تتم من قِبل مفكري المسلمين عن طريق الكتابة، كما في رد جمال الدين الأفغاني لإرنست رينان، أو محمد عبده لهانتو، ولم يصادر أي واحد من علماء المسلمين حق الغربيين في التفكير أو التعبير. لكن وقع انزياح مع 11 سبتمبر، ووقع خلط مقصود، في غالب الأحيان، أو عن جهل، بين الإسلام و التطرف، وظهرت مدرسة كانت تتستر من قبل، هي ما يسمى في مصطلح علمي بالجوهرانية، ترى أن جوهر الإسلام يقوم على العنف، ومصدر العنف الكتاب الذي يؤمن به المسلمون.
كان السياق ذاك، يجعل المسلمين في صك الاتهام، لكن قوس 11 سبتمبر أغلِق مع التحولات التي يعرفها العالم. بدا جلياً أن المسلمين ليسوا من يتحدون الغرب أو يشكلون خطراً عليه، وهم في أرجاء عدة ضحايا العنف والتطهير العرقي، ومصادرة أدنى الحقوق الإنسانية، والإسلاموفوبيا. لا ينبغي في السياق الحالي أن يصمتوا على انتهاك مقدساتهم.
لا أحد يتحدث عن مصادرة حرية التعبير في الغرب أو في غيره، أو يمنع من حرية التفكير، ولكن العنف ليس حرية، والعنف المعنوي ليس حرية تعبير، وازدراء الأديان ليس تفكيراً.
يدافع الغربيون بأن الحرية لا تقف عند المقدس، ويتحتم ها هنا أن نحدد معنى المقدس. ومن دون شك أن المقدس في الغرب لم يعد مرتبطاً بالدين، ولكن ليس معناه أن ليس للغرب مقدسات وضعية، وهي مقدسات لا يتم التغاضي عمن ينتهكها، وتُسن قوانين تُجرّم المساس بها. وإذا كان من تحصيل الحاصل احترام المقدسات الغربية، فمن واجب المجتمعات الغربية أن تحترم مقدسات المجتمعات غير الغربية.
ليس للمجتمعات المسلمة أن تُجري وصاية على الغرب وتضع له خطوطاً حمراء، ولكن السب والقذف وازدراء الأديان، ليس حرية. كما أن من حق المجتمعات المسلمة أن ترفض أية وصاية، أو رؤية منمطة.
مسألة إحراق القرآن في السويد، وتمزيقه في هولندا ليس حدثاً عابراً، ويتوجب استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لتجريم ازدراء الأديان، وبالتبعية ضد الإسلاموفوبيا أسوة بما فعلت ضد معاداة السامية.
ومن الضروري انعقاد منظمة التعاون الإسلامي لاتخاذ موقف واضح وصارم، كما سبق لمسؤولي الدول الإسلامية أن قاموا حين أقدم متطرف يهودي بحرق المسجد الأقصى سنة 1969، وأتى على منبره الذي يعود لصلاح الدين الأيوبي… ولا عذر للمسلمين إن تمادى المجترئون بعدها، أنهم لم يوقفوا هذا المد، وفق القواعد المعمول بها دولياً، بما فيها الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية والمقاطعة التجارية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.