منذ بداية عصر السينما، وهي تمثل مرآة للواقع، حتى وإن أخذتنا في رحلات عبر أكثر الخيالات جموحاً، تبقى القصص والأحداث والشخصيات مرآة للتاريخ والعصور، لتحاول التعبير عما يجول في قلوب البشر، وما يسعون للوصول إليه وسط معاناتهم اليومية.
لهذا وعلى مر التاريخ السينمائي، يحاول صانعو الأفلام بلورة تلك المرآة بالشكل الكافي، حتى يجد مشاهدو السينما وروّادها أنفسهم بين مشاهدها، فتحصد أعمال هؤلاء الصناع، والذين ينجحون في بلورة المرآة المثالية، النجاح الأعظم، وسلسلة أفلام أفاتار هي خير مثال على هذه المرآة التي تحاول عكس تفاصيل واقعنا التاريخي ومعاناتنا مع الاستعمار الغربي.
عن طموح جايمس كاميرون المناهض للاستعمار
جايمس كاميرون، هو اسم لا يخفى على أحد من متابعي السينما، المخرج الذي قدم قائمة من أكثر الأفلام والنجاحات في تاريخ السينما، بداية من Titanic وAliens وTerminator مروراً بالعديد والعديد من أعماله الأخيرة آخرها الجزء الثاني من أفاتار والذي يُعرض في قاعات السينما الآن وقد حقق بالفعل نجاحاً ضخماً يقدر بإيرادات تجاوزت 1.7 مليار دولار.
إذ خلال عام 1994 كتب كاميرون معالجته ذات الثمانين صفحة لفيلم أفاتار الجزء الأول والذي صدر عام 2009 وحطم كل التوقعات بنجاحه الخارق في ذلك الوقت. كانت قصة الفيلم من تصنيف الخيال العلمي، وتتحدث عن كوكب باندورا الذي يحتله البشر لإستخراج موارده، ولتحقق هدفهم ذاك عليهم التخلص من السكان الأصليين للكوكب المتمثلين في قبائل من الكائنات الفضائية الزرقاء الطويلة.
بالطبع تتمثل القصة في رحلة بطل يكتشف فيها ذاته من جديد، وتتبنى خطابا معادياً للاستعمار الغربي، ومتعاطفاً مع البيئة بشكل واضح، بل كان قد وصف كاميرون تأثره في أفاتار بعدة أفلام مناهضة للاستعمار ك princess mononoke وDances with wolves، لكنه بالطبع لم يستطع البدء في مشروعه في حقبة التسعينيات بسبب عدم وجود التكنولوجيا المناسبة لمشروع بهذا الحجم، ولكن كان هذا المشروع دائماً طموحه الأكبر ففيه يوضح كاميرون رؤيته للتاريخ الأمريكي والمعاناة التي خاضها السكان الأصليون من الهنود الحمر ضد الاحتلال الأوروبي لوطنهم.
فأوجه الشبه بين فيلم أفاتار وفيلم Dances with wolves على سبيل المثال لا يمكن تجاهلها، فهناك تلك القبيلة المسالمة التي تمثل الشعب الأصلي للأرض، والذين عاشوا طوال قرون وهم ينتمون لها وهي تنتمي لهم، ثم فجأة، يأتي المستعمر الغربي أبيض اللون، سواء كان من حدود الكون أو من قارة أخرى، هو ذات المستعمر، ويحمل ذات الهدف في احتلال الأرض وقتل أهلها واستنزاف مواردها.
عن أفاتار وواقعنا الاستعماري
يمكنني القول بأن النجاح الذي حصده الجزء الأول من الفيلم عام 2009 وكذلك الجزء الثاني هذا العام، يمكن إرجاعه إلى كون الفيلمين يسردان قصة مرت بها معظم شعوب العالم، وبالأخص شعوبنا العربية، وحتى هذه اللحظة لا نزال ننزف من ذات القصة وذات الحبكة.
فكما ترى، في الجزء الأول من الفيلم، نجد المستعمرين البشر، لا يرون أمامهم في كوكب باندورا سوى كنز من الموارد، ولا يلقون بالاً للمخلوقات التي عاشت على الكوكب، ولا للشعوب التي لا تعرف موطناً غيره.
وهكذا يتمثل الطمع الرأسمالي في هيئة الغازي الأوروبي أبيض اللون، فيخترق سماء الكوكب بأسلحته الحديدية الباردة وتكنولوجيته المتقدمة عديمة الحياة، ليقرر حرق الأخضر واليابس، ويصنع لنفسه موطناً آخر يزيّف تاريخه ويستنزف موارده.
وإذا قرر أصحاب الكوكب الأصليون والحقيقيون مواجهة هذا العدوان على كوكبهم، يقرر البشر الغزاة قتلهم وحرق أراضيهم وطردهم من منازلهم وأخذها لهم، فتجد الفيلم وكأنه إعادة تمثيل ليس للتاريخ الأمريكي فقط، بل لمأساتنا الفلسطينية كذلك.
فكما المحتل الإسرائيلي الآن يتغلغل كالسرطان في أراضينا الفلسطينية عبر سياسة الاستيطان، وكما يمارس عمليات التطهير العرقي الممنهجة ضد الفلسطينيين كل يوم، كان البشر في الفيلم يصنعون المثل، بل ويحاولون صناعة أجساد تماثل السكان الأصليين كي يندمجوا بينهم محاولين بذلك صياغة تغيير ديموغرافي في تركيبة السكان الأصليين بنفس الطريقة التي يمارسها الاحتلال الصهيوني مع أهلنا الفلسطينيين.
وهذا بالضبط السبب الرئيسي لنجاح هذه السلسلة من الأفلام، لأنها تصف ما يمر به الإنسان الشرقي والعربي من شعور تجاه تاريخ دموي لا يزال مستمراً حتى هذه اللحظة من الاستعمار الغربي.
عن إعادة اكتشاف الذات ومقاومة الاستعمار
من النقاط التي لا يمكن تجاهلها في الفيلم، هي شخصية البطل، والذي كان جندياً في الجيش البشري ولكنه مصاب بالشلل ويُدعى Jake Sully، يعالج الفيلم شخصية جاك بشكل ممتاز، فهو يشعر بالعجز بسبب شلله، ورغم ذلك يقع في حب أميرة من قبائل السكان الأصليين لكوكب باندورا.
قد تشعر في البداية بأن الأمر يشبه ما رأيناه سابقاً في فيلم ديزني الشهير Pocahontas ولكنه سرعان ما يأخذ منحنى أكثر واقعية وجدية، فجاك عليه أن يترك ماضيه كبشري تماماً، وأن يصبح فرداً من السكان الأصليين بكل كينونته، وهنا نجد أن الفيلم يُؤصل لفكرة مقاومة الاستعمار، ولم يأخذ المنحنى المبتذل والمعتاد في تصوير الرجل الأبيض كمنقذ، بل الرجل الأبيض عليه ترك ماضيه كرجل أبيض غازٍ ليتحول لفرد كامل من الشعب الأصلي، بل وعليه أن يعظم شعائرهم وثقافتهم كي يقودهم في مقاومتهم للاحتلال.
هل تنتهي حقبة تمجيد المستعمرين في السينما الغربية؟
في تصريحه لـ businessinsider عام 2012 قال جايمس كاميرون إن الفيلم يحكي بشكل مباشر مأساة تاريخ القارة الأمريكية الشمالية في إطار من الخيال العلمي، وهو ليس غامضاً بهذا الشأن.
والآن في عام 2023 ومع تصاعد الحركات اليسارية في الغرب، يصبح الخطاب المعادي للاستعمار الغربي مباشراً بشكل أكبر، ولكن إلى أين؟ هل تتوقف السينما الغربية عن تمجيد المستعمر؟
لا يبدو أن هذا سيحدث قريباً، فرغم وجود العديد من الأعمال المناهضة لتاريخ طويل من الاحتلال الغربي للعالم، نجد العديد والعديد من الأعمال الأخرى التي لا تقدم شيئاً سوى التمجيد لشخصية الجندي المستعمر وتصويره كبطل خارق يستعد لإنقاذ العالم، وستجد مثل هذه الشخصيات في كثير من الأعمال الغربية كشخصية كابتن أمريكا، على سبيل المثال، أو صابرا البطلة الخارقة الإسرائيلية والقادمة الي مارفل في أفلامها القادمة، أو أفلام عسكرية أمريكية مثل 12 Strong.
والآن في نهاية المقال، يجب التوضيح بأننا وحتى هذه اللحظة لا زلنا نعتمد بشكل أساسي على السينما الغربية في سرد قصص ربما قد تترابط معنا ومع تاريخنا في بعض الأحيان، ولا زلنا نتحرك بخطوات مترددة نحو صياغة حركة سردية سينمائية ودرامية تعبر عن روح الإنسان العربي ومكنونه وما يشعر به تجاه قضاياه اليومية.
وإن هذا الأمر ليحزنني كمشاهد ومتابع يومي للسينما والدراما، فأنا أشتاق وأطمح لعمل يعبر عن شخصيتي وهويتي وقناعاتي تجاه ما نعانيه يومياً في أوطاننا الجريحة.
لذا ألم يأت الوقت المناسب لنقدم أعمالاً تعبر عنا حتى وإن كانت خيالية؟ ألم يحن الوقت ليستثمر صنّاع السينما والدراما العربية في أبناء أوطانهم وقصصهم ليقدموا للعالم إنتاجاً ضخماً حقيقياً يعبر عنا؟
كل ما أستطيع قوله أن هذه أمنياتي وأنني سأنتظر اليوم الذي ينافس فيها إنتاجنا السينمائي والعربي المعبر حقاً عن قضيتنا العربية إنتاج السينما الغربية، وحتى هذا اليوم، دعنا نستمتع بما تقدمه السينما الغربية من فرصة لمناهضة الاستعمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.