تونس إلى أين؟ الإفلاس أمامها و”النيران الصديقة” وراءها

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/24 الساعة 12:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/24 الساعة 13:59 بتوقيت غرينتش
احتجاجات في تونس ضد قرارات الرئيس قيس سعيد (أرشيف)/ رويترز

تحتفل تونس يوم الجمعة 27 يناير/كانون الثاني الجاري، بالذكرى التاسعة لكتابة دستور 2014، الذي انقلب عليه قيس سعيد، رئيس الجمهورية التونسية، يوم 25 يوليو/تموز 2021، بوضع دبابة عسكرية أمام بوابة البرلمان، وحل الحكومة، ثم تعليق أعمال مجلس نواب الشعب بالجمهورية التونسية المنتخب انتخاباً حراً وشفافاً وديمقراطياً.

لا شك أن ذكرى كتابة الدستور، ستكون إحدى محطات الصراع السياسي المحتدم، بين سعيد ومعارضيه إلا أن الحقيقة المُرّة التي يقرّ بها الجميع "حاكماً فرداً، ومعارضين، والشعب التونسي الكريم" هو أن جوهر الأزمة اليوم في تونس، وعدة دول عربية وغيرها، هي أن هذه الدول باتت، تحت وطأة ديونها الخارجية والداخلية، وعلى أبواب إعلان عدم قدرتها على سداد الديون وإعلان إفلاسها.

لكن الحقيقة أن تونس ليست وحدها عربياً في هذا المضمار، فقد سبقتها لبنان، وربما تتبع لبنان دولة مصر العزيزة، كما أن سوريا والسودان واليمن والأردن، يخيّم عليها نفس الشبح المخيف.

الربيع العربي وتحديات الانقلابات العسكرية والدستورية

أن يفلس الأفراد أو الشركات أو الدول ليست نهاية العالم، فهذا من السُّنن الكونية، والدورات الرأسمالية المتعاقبة، لكن لا شك أن هذا الافلاس، يؤكد حقيقة تجلّت في الموجة الأولى للربيع العربي، أن دول الاستقلال والدول الوطنية القديمة، قد استنفدت نمطها الاقتصادي والاجتماعي، وطاقتها وأهدافها، ولا بد من مشروع مجتمعي جديد مُلهم للأجيال المقبلة، يقوم على المواطنة والحريات والعدالة والكرامة الوطنية والشراكات الدولية المتعددة، وقبل كل هذا القيام بالإصلاحات الهيكلية الضرورية لبناء اقتصاد قوي وتنمية مستدامة.

تعددت التحديات التي اعترضت دول الربيع العربي، ما بين الانقلابات العسكرية المبطنة أو المعلنة والحروب الأهلية والصراعات المسلحة، إلا أن ما يميز الحالة التونسية أنها حققت قدراً لا بأس به من الاستقرار والتوافق المجتمعي، وتقدماً مثيراً على درب بناء المؤسسات المنتخبة، وقدراً عالياً من الحريات الأساسية، إلا أن النقطة السوداء الفشل، أو قل عدم توفر الشجاعة السياسية، لإنجاز الإصلاحات الضرورية الاقتصادية والاجتماعية، خوفاً من ردة فعل الشارع، وتخوفاً من نفوذ النقابات المتعاظم، ونقصاً في تدريب الكوادر "الثورية" الجديدة، في استشراف المستقبل واستنباط الحلول مع الشراكات الدولية، التي كانت والحق يقال في الحالة التونسية مستعدة أن تساعد أكثر لو وجدت مشروعاً إصلاحياً اقتصادياً متكاملاً متفقاً عليه مجتمعياً.

واليوم وقد حدث ما حدث، فإن التوجه الصحيح، والأقل سوءاً لتونس أو لغيرها من الدول العربية التي تواجه شبح العجز في سداد الديون الخارجية، هو الذهاب بتوافق وطني واسع، لمفاوضات حقيقية وشاملة مع صندوق النقد الدولي والبنوك الإقليمية والدولية، من أجل وضع خريطة إنقاذ اقتصادية ناجعة، واجتماعية غير مكلفة جداً على المواطن والشعب.

لكن ما يعسر هذا التوافق الوطني وجود حالة الانسداد السياسي، وسط حكام شبه المتألهين، لا يتحدثون إلا عن أنفسهم، ولا يتحاورون ألا عن ذاتهم صباحاً ومساء، متكئين على انطباع مخادع، وعلى وهم استمالة القوة الصلبة، وخرافات وأساطير من تبقى معهم من الحواريين والمفسرين.

"تونس تعيش حالة انفجار ثوري، وعلو شاهق في التاريخ" مقولة يرددها السيد قيس سعيد، ومن جهة أخرى معارضة، باتت مشتتة ومنقسمة، وهذا مفهوم، وطبيعي، لكنها لم تقدم إلى حد الساعة أية أجندة واضحة وخريطة طريق متكاملة، مبوبة حسب الأولويات الوطنية، وبما أن بلادنا وجميع الدول العربية المهددة بالإفلاس، ترزح تحت طائلة شبح عدم القدرة على تسديد الديون.

فإن سطوة وحضور المقرضين الدوليين، يصبح أكثر بروزاً وحضوراً، في الديون عموماً، والديون الأجنبية خصوصاً، لا يمكن لدولة عربية وإسلامية شقيقة مقرضة أن تقول لك، عفا الله عما سلف أو استلفت، بل هذه فاتورة دولية مستحقة الدفع عاجلاً أو آجلاً، وراءها قوة غاشمة لمجموعة مقرضين أشاوس، لا يرحمون، ولا ينفع معهم التملّص من هذه الديون.

وأمام تنازع الشرعيات بين دستور الجمهورية التونسية 2014، ووثيقة قيس سعيد الشخصية لعام 2022، فإن هناك أتون انهيار اقتصادي، واجتماعي غير مسبوقين في تاريخ تونس المعاصر، وتوازن الضعف بين الحاكم الفرد والمعارضة والشعب التونسي الخائف مما تخبئه الأيام، وغير المستعد لثورة جديدة، لانه يؤمن في أغلبيته أن الثورة الأولى لم تحقق له أهدافه؛ وبذلك تصبح مدنية الدولة التونسية موضع اختبار جدّي، فالطبيعة تأبى الفراغ، والجيران أو العالم، يكرهون فراغ السلطة.

إذا لم تقدم المعارضة الوطنية التونسية على إنجاز النقد الذاتي المطلوب والضروري في أقرب وقت ممكن وعلى طرح خريطة طريق واضحة المعالم وتلتزم بالتعهدات الحقيقية والجلية للقيام بالإصلاحات الدستورية، والاقتصادية، والاجتماعية، فإنها ستتحمل أمام التاريخ، أكبر عبء ممكن يواجه قيم دولة ما عندما تفقد هويتها وروحها وشخصيتها المدنية، لا قدر الله، ومهما كان جيشها وطنياً عظيماً مثل الجيش التونسي البطل، فالجيوش وجدت للدفاع عن الوطن لا لتحمل أعباء الحكم. 

الجوع والفقر من تداعيات الانقلاب على الدستور التونسي

أما التحدي الثالث الجاثم على تونس هذه الأيام فهو الجوع نعم الجوع، أيتها السيدات والسادة، الجوع الذي بات يهدد شرائح مختلفة وفئات متعددة من المجتمع التونسي، ففي آخر أيام بورقيبة قال مؤسس الدولة الحديثة لبن علي "يوماً ما أريدك أن تخلص تونس من الأكواخ" ففشل في المهمة بامتياز. واليوم تواجه تونس، ولأول مرة في تاريخها الحديث، تداعيات الانقلاب على الدستور وضرب الأسس العميقة للدولة التونسية الحديثة، فتعرض أعداد غفيرة من أبناء الشعب التونسي للجوع يعتبر عاراً شخصياً لكل من قام 

ويقوم على أحوال هذا الشعب، بلا استثناء، من الاستقلال إلى وقتنا الحالي.

تقول الإحصائيات إن نسبة الفقر، ربما تبلغ نسبة 20% من إجمالي الشعب التونسي البالغ عدده قرابة 12 مليون نسمة، الفقر ليس عيباً ولا عاراً، خاصة في بلد يفتقر للموارد الطبيعية الغزيرة، والفقر باق ما بقيت البشرية، لكن المطلوب تحجيمه إلى أقل نسبة ممكنة، عبر طفرة تنموية متوازن ومستدامة.

لكن ما هو غير مقبول مطلقاً هو الجوع، وهنا يكمُن دور الدولة، والمجتمع، فالحرب الضروس التي شُنّت على المجتمع المدني التونسي العظيم منذ 2013، والحروب التي لم تنته، والجمعيات التطوعية الخيرية المتميزة، وضد كل ما هو اقتصاد تضامني، وشراكات لجمعيات مدنية مع نظيراتها العربية، والإقليمية.

"الخاتمة"

وما بين الإفلاس، وتهديد مدنية الدولة والجمهورية وشبح المجاعة، تقف تونس اليوم على مفترق طرق حساس وخطير جداً؛ فإما تعيش أو تعيش، وهي ستعيش بإذن الله تعالى، بكرامة، لسبب بسيط، أنها بلد الشاعر الشابي، وأنها البلد المُلهم الذي يصل إلى حافة الهاوية، ولا يسقط فيها، إنه الشعب التونسي العظيم، الذي يتعب، يمرض؛ ولكنه لا يموت… أيتها السيدات والسادة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ماهر المذيوب
صحفي وإعلامي ومساعد رئيس البرلمان التونسي
تحميل المزيد