"شيرين بتاعة المتزوجون"، هكذا يفرق الجمهور المصري بين كل من المطربة شيرين عبد الوهاب وبين الممثلة الرقيقة شيرين، التي عرفها الناس عبر المسرحية الشهيرة "المتزوجون" 1979 بالرغم من تقديمها أعمالاً عديدة أخرى، حين تكتب عبر موقع البحث جوجل "شيرين" سوف تأتيك نتائج البحث الأولى بالكامل عن المطربة شيرين، أما إذا كتبت "الممثلة شيرين"، فسوف تتوفر لديك الكثير من النتائج التي تكفي لتعرف أن تلك السيدة التي اشتهرت برقتها، وليس معاناتها، امتلكت حياة لا يمكن وصفها إلا بـ "المأساوية".
فعلت شيرين ما فعلته أمي بالضبط، كانت أمي ترعاني وحدها، لم تنجب سواي، واكتفت من بعدي عن الدنيا بالكامل فلم تتزوج، ولم تفرط في حق من حقوقي، كنت مشروعها وقضيتها، على الطريقة ذاتها وبذات التفاصيل تقريباً فعلت شيرين مع ابنتها الوحيدة ميريت، لذا صارت قريبة لقلبي، هي تشبه أمي في تمسكها بسعادة ابنتها وراحتها، حتى لو كلفها ذلك حياتها وعملها ومستقبلها بشقيه العملي والشخصي، حين أشاهد لقاءاتها القديمة، دموعها، وانفعالاتها، وحزنها الشديد الذي بدل كل تفاصيل وجهها وروحها، أعرف أنني أمام "أم" انكفأت –بحسب التعبير المصري- على ابنتها منذ الطفولة وحتى الكبر غير عابئة في الحياة بشيء سواها ومهما كلفها ذلك، لذا كان لدي فضول لأعرف أكثر عن تلك السيدة.
طفلة من شبرا
اسمها الحقيقي أشجان محمد السيد عزام، وهي لا تصطنع الرقة، هي رقيقة جداً حقاَ، تقول عن نفسها: "كان لما حد يكلمني ريقي ينشف، وودني تحمر وأحس بخجل شديد"، ربما لهذا صدقها الجمهور وأحبها في دورها الأشهر بمسرحية "المتزوجون" والتي شاركت بطولتها مع الفنان سمير غانم.
نشأت في حي شبرا، لم تكن يوماً طفلة مشاغبة، لطالما كانت صامتة ساكنة، تستجيب وتنفذ أوامر والديها، اللذين اختارا لها أن تمارس "الباليه" في سن صغيرة، بل وتتخصص فيه لبقية حياتها، هكذا دخلت إلى معهد الباليه بعمر الـ9 سنوات، وهو شكل للدراسة يختلف عن المدارس العادية التي تنتهي الدراسة داخلها في الساعة الثانية ظهراً، كانت أشجان تقضي وقتاً طويلاً خارج المنزل وتتلخص حياتها في أوتوبيس يحمل الرقم 32 تركبه في السادسة صباحاً بشكل يومي كي تصل إلى ميدان التحرير ومن هناك تنطلق إلى الهرم؛ حيث موقع المعهد، لتعود في المساء.
لشدة شعورها بالخجل، كانت تتحرج من ركوب الأوتوبيس وحدها، هكذا كانت تنتظر محمد النجار، والذي صار مخرجاً لاحقاً، كي يصحبها إلى هناك حتى لو فاتها موعد الأوتوبيس، لم تكن تعلم أنه سيجمعهما لاحقاً عدة أعمال مثل "لما التعلب فات" ومسرحية "عسل بنات".
لهذا تدخن بشراهة
ربما تكون الفنانة المصرية الوحيدة التي قررت الظهور على الشاشة وهي تدخن الشيشة، تحول عنيف جداً شهدته شخصية شيرين خلال دراستها في معهد الباليه، فمن فتاة يحمر وجهها خجلاً حين يحدثها أحدهم، إلى فتاة تشتهر بالتدخين، وتحديداً "السيجار" مشهد يصفه زميلها عصام الشويخ بـ "زلزال دخان" داخل المدرج، حتى إن زملاءها كانوا يشفقون عليها من هذا القدر من الدخان، لكن شيرين لطالما دافعت عن تلك العادة التي تعلمتها على يد الشخص الذي صار لاحقاً زوجها، تقول: "السيجار بالنسبة لي صديقي، صاحبي، زميلي، أختي عشان معنديش أخوات، والدتي لو مش موجودة، مضحي ومتفاني، أنا بولع السيجار باخد نفسين تلاتة أحس إني مبسوطة، لو دخلت مكان وأنا حاسة بوحدة، بيكون معايا، صديقتي، رايحين مهرجان، وقت ما أقوله أولع فيك يقولي اتفضلي، هاطفيك اتفضلي، عمره ما خذلني".
لم تكن شيرين قبل هذا التاريخ تدخن حتى السجائر، حتى إن رائحتها كانت تزعجها، لكنها تعاملت مع التدخين لاحقاً باعتباره بديلاً للانهيار، وهو ما عبرت عنه بقولها: "أحسن ما أعض الناس أو اقرقض ضوافري".
امرأة عنيفة جداً.. عاجزة عن الضحك
لن تصدق لحظة أن تلك السيدة الرقيقة جداً، التي تخرج الكلمات من بين شفتيها بطريقة استثنائية، امرأة عنيفة جداً، حين تغضب، وتفقد السيطرة على أعصابها ترتكب أحياناً ما لا تحمد عقباه، في الواقع منذ طفولتها وحتى دخولها إلى معهد الباليه كانت "فتاة مطيعة" لم تكن يوماً عنيدة، تقول: "كنت ساكنة ووديعة، لكن تم اتهامي بالعبط والبلادة، لازم الإنسان يكون عنيف ويكسر ويدمر ويتخانق ويزعق"، هكذا وجدت نفسها مع الوقت تتحول من النقيض إلى النقيض، وساعد على تحولها شعورها العارم بالحرمان من اللعب وما وصفته بـ "الشقاوة" في طفولتها.
توقفت كثيراً أمام ذلك الموقف الذي قامت خلالها بضرب مصممة أزياء خلال أحد الأعمال التاريخية التي قامت ببطولتها، حين أساءت لها مصممة الأزياء، فمنحتها ملابس غير مناسبة للدور الذي تقوم بأدائه، وحين اعترضت شيرين سبتها مصممة الأزياء في ظهرها، وقد سمعتها شيرين يومها لتقرر أنها لن تترك حقها، هكذا سألت السيدة بمنتهى الهدوء: "هل ما سمعته حقيقي؟"، فأكدت لها مصممة الأزياء السبة، لتصعد شيرين فوراً فوق مكتب وتنهال عليها ضرباً قبل أن ينجح فريق عمل المسلسل في تخليص السيدة من بين يديها.
لاحظت أن الفتاة الوحيدة، الرقيقة جداً، صارت مع الوقت، قادرة ليس فقط على "الضرب"، ولكن على تحرير "المحاضر" بأقسام الشرطة، كانت تلك هي نقطة البدء لرحلة طويلة في المحاكم وأقسام البوليس، كان اللافت بالنسبة لي كيف كانت تتحلى بالشجاعة، لتواجه بذات القوة كل مرة، ربما كانت المرة الأولى هي الأغرب، حين حرر ضدها الفنان يونس شلبي محضراً في قسم الشرطة وبقية العاملين في المسرح، يتهمونها بأنها امتنعت عن استكمال مسرحية "حاول تفهم يا زكي"، لكن الموقف الذي رواه يونس شلبي بنفسه يظهر كم كانت شيرين مظلومة، حيث يقر الرجل، رحمه الله، أن حرارتها كانت مرتفعة بالفعل، فيما أكدت هي أنها كانت مصابة بالتهاب رئوي، مع ذلك لم يتحرج زملاؤها من تحرير محضر ضدها عقب انتهاء زيارتهم لها، كذلك احتجاز متعلقاتها، موقف كان ليعجزها عن التصرف لما فيه من "غدر"، خاصة عقب وعكتها الصحية، لكنها خاضت الموقف وحدها ودلفت إلى قسم الشرطة لتحرر محضراً في المقابل تتهم فيه إدارة المسرح بمنعها من الدخول وحجز متعلقاتها لينتهي الأمر بذكرى حزينة لها، انتهى من بعده تعاونها المثمر السابق مع يونس شلبي في أعمال أشهرها مسلسل "عيون".
صارت شيرين مع الوقت غير قادرة على الضحك، أكثر ما يصعب عليها حين يطلب إليها مخرج أن تضحك في الدور، في الواقع لم تكن تعرف صوت ضحكتها أصلاَ، تعرفت إليها لأول مرة حين قام الفنان الراحل عمر الحريري بدعوتها لمسرحية "شاهد ماشافش حاجة"، يومها فقط ضحكت لأول مرة بصوت مرتفع، وهنا شعرت بذعر "هل أنا قادرة على الضحك حقاً؟".
هكذا عذبها طليقها ولهذا حفرت قبرها ونامت فيه!
معاناة عريضة عاشتها شيرين مع طليقها، والزوج الوحيد في حياتها محمد أسامة، عاشت من بعدها كأم وحيدة، لكن هذا لم يمنعها من طرح رأي بدا مثيراً للجدل حين أكدت أنها لا تتعاطف مع الغارمات، وذلك في حضور وزيرة التضامن الاجتماعي المصرية نيفين القباج ضمن فعاليات الدورة 38 لمهرجان الإسكندرية السينمائي.
انتقدت شيرين ما وصفته بـ "الإسراف"، معتبرة أن الأمر الذي يستحق الاهتمام حقاً هو زواج الفتيات مبكراً في سن 12 عاماً وأحيانا أقل، حسناً لنعد إلى قصة شيرين، الفتاة الرقيقة جداً التي أحبت وتزوجت رجلاً لم ترزق منه بأطفال طوال 9 سنوات، لكنها وبمجرد حملها، ساءت الأمور بينها وبين زوجها قبل أن ترحل عن بيت الزوجية بينما ابنتها في عمر سنة ويوم فقط!
"كان عندي أمل أستمر" الحق أن الانتظار الطويل للطفلة الأولى والأخيرة في حياتها "ميريت" جعلها تحاول بكل الطرق أن تجعل الحياة جميلة لصغيرتها، لكن كم القضايا التي رفعها الأب ضد الأم جعلت الحياة محض تهديد مستمر، وذهبت بالابنة الوحيدة المدللة إلى أروقة محكمة الأسرة.
لم أحتمل دموع شيرين وابنتها في برنامج قديم لها حين ظهرتا بصحبة هالة سرحان، كانت شيرين في حالة انهيار شديد وهي تحكي عن القضية الأخيرة ضدها أنها غير أمينة على تربية ابنتها لأنها ممثلة، وكاد يتم الفصل بينهما، وهو ما جعلها تبكي بحرقة بصحبة هالة، مؤكدة أنه إذا كان الفن جريمة فإنها مستعدة للتخلي عنه مقابل ابنتها لكنها شعرت بالكثير من العجز وقلة الحيلة وهي تتساءل: "مش هاشتغل بليسانس أو بكالوريوس أو أي حاجة.. هاشتغل هاخدم في البيوت بس بنتي تفضل معايا".
ربما كان الأمر الأكثر قسوة على قلب شيرين أن صغيرتها تعيش حياة غير مكتملة، لا ترى والدها، ولا تشعر بحنانه ولا ترى من طرفه سوى المُحضر الذي يسلم والدتها إنذارات متتالية: "كان دايماَ مجتهد جداً في القضايا!" هكذا راحت تهيئ ابنتها نفسياً، أنها لو دخلت السجن بسبب أي من تلك القضايا، فلا يجب على الصغيرة أن تحزن: "كنت بقولها ماما مش مسجونة عشان حاجة وحشة، لكن عشان بتدافع عنك"، هكذا تحول حلم حياتها في أكثر فترات عمرها ازدهاراً أن تصل صغيرتها لعمر الـ 15 حتى تختار مع من ترغب في العيش، ولا يعود هناك إمكانية لضمها بالإجبار للأب: "هي ماتعرفهوش وماعاشتش معاه، ماتعرفش حاجة غير إن فيه حد بيخبط علينا عشان جلسة وإعلان ومحكمة، مفيش سؤال بتليفون"، رؤية في أقسام البوليس، ومحاولات من الوالد لضمها بقوة الشرطة، وأحياناَ كانت اللقاءات تتم في الحزب الوطني الديمقراطي، لا ينسى الكثيرون جملة ميريت الشهيرة في محكمة الأسرة عن والدها "إشمعنى بابايا أنا اللي بيعمل كده، الحب مش كلمة، الحب مش بالمحكمة".
"هل كانت زوجك سادياً؟" هكذا وجه لها أحد أفراد الجمهور سؤالاً، خلال برنامج ساعة صفا، لكنها فضلت ألا تجاوب، ما بدا لي على الطريقة المصرية "السكوت علامة الرضا" الحقيقة أنها قد وصلت خلال حياتها إلى درجة من الزهد في الحياة، أنها حين مرضت بشدة في مرحلة ما من حياتها، راحت تفكر في الموت، فاشترت لنفسها مقبرة وقررت أن ترعاها، بل أن تقوم بتجربتها، كي لا تحتار صغيرتها من بعدها ولا تجول في أروقة النقابة بحثاً عن "قبر" متوفر، هكذا قررت أن تشتري بيتاً للآخرة تماماً كما اشترت بيتاً في الدنيا، لكنها حين اشترتها شعرت بأنها ضيقة جداً لذا قررت تجربتها، تقول: "نمت فيها لاقيتها مريحة وجميلة".
حتى الآن تواصل شيرين زيارة مقبرتها الفارغة ورعايتها وري نباتاتها في علاقة ربما تكون الأغرب من نوعها، وذلك بعدما نجحت بدرجة 100% في أن تصل بصغيرتها إلى بر الأمان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.