يظهر أن السلطة القائمة في تونس نجحت نسبياً في تحويل وجهة جزء من الرأي العام باتجاه قضايا لا علاقة لعامة الشعب بها، وخاصة أنه قد وقع العمل عليها بجدية وإصرار كبير من السلطة الحالية، كما توقع المتابعون للشأن التونسي منذ صدور نتائج الدور الأول للانتخابات.
فكما كشفت لي بعض المصادر التي حضرت لقاء قيس سعيد ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والذي عُقد في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي قبل 48 ساعة من إجراء الدور الأول من "الانتخابات البرلمانية" التي يقاطعها كل الطيف السياسي الوطني والمجتمع المدني، قال قيس سعيد موجهاً كلامه لبلينكن إن لديه أكثر من 3 ملايين ناخب يدعمونه في مساره وخارطة طريقه، ورد عليه "بلينكن" حرفياً: "ما لدينا من معطيات تؤكد عكس هذا الكلام". وكان اللقاء غير ودي بالمرة.
اتهامات بالفساد الأخلاقي والمالي
جاء ذلك بعدما وجّه سعيد انتقادات لاذعة لأعضاء البرلمان التونسي، إذ اتهمهم بالفساد المالي والأخلاقي، وأكد لبلينكن في المحادثة التي نشرتها وزارة الخارجية الأمريكية أنه "اضطر" لحل البرلمان بسبب الخلافات الواسعة داخله، والتي قال إنها أثارت حالة من الفوضى داخل البلاد، كادت أن تتسبّب بـ"حرب أهلية"، مؤكداً أنه "لم يكن لدي بديل آخر سوى إنقاذ الأمة التونسية من أي عمل بغيض"، وفي نفس اللقاء أكد بلينكن أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها مستعدون لدعم تونس في إطار مسار تشاركي وديمقراطية حقيقية.
ولكن يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2022 وقف الجميع على حقيقة المقاطعة شبه الكاملة للانتخابات والتي أنفق على إجرائها عشرات الملايين من الدنانير، وأمام صدمة المقاطعة اضطرت الهيئة المشرفة على الانتخابات وبالرغم أنها تابعة ومنخرطة في مشروع سعيد وكانت تدعو وتحفز الناس على المشاركة، إلا أنها اضطرت للإعلان على نسبة مشاركة هي الأدنى في تاريخ الانتخابات التي أجريت في تونس أو عبر العالم ولم تتجاوز 10% من المسجلين في القوائم.
الأغرب أن التونسيين في الخارج والذين يعتبرون المصدر الأساسي للعملة الصعبة في البلاد، إضافة لمساهمتهم المتنوعة في اقتصاد البلاد، وقع تجاهل شبه كامل لدورهم في غياب أي تمثيل لهم؛ حيث لم يتقدم أي مرشح في 80% من الدوائر وشارك بعض العشرات في دائرتين من مجموع حوالي مليون وسبع مئة مواطن تونسي مقيمين في الخارج، وكان الاتحاد الأوروبي والعديد من المنظمات الدولية أكدت أنها لن تشارك في مراقبة عملية انتخابية تستثني شرائح عديدة من المجتمع.
ولقد كانت هذه الإخلالات بالجملة مع تأكيد العديد من المراقبين أن النسبة الحقيقية لم تتجاوز الـ5%، وكان فريق من المراقبين من روسيا وآخر من جامعة الدول العربية حضروا العملية الانتخابية قد أبدوا استغرابهم من النسب المتدنية لمشاركة الشعب في تلك الانتخابات التي وُصفت بالتاريخية بالنظر للغياب شبه الكامل للناخبين التونسيين.
نواب فائزون بـ "صفر" من الأصوات
الإعلان عن نتيجة الانتخابات التي أغضبت السيد "قيس سعيد" جعله يصرح متوعداً أنه يجب انتظار الدور الثاني قبل الحديث عن النسب، وقارن العملية الانتخابية بمباراة كرة قدم التي تجرى على شوطين، في حين أن الجميع يعرف أنه على الأقل 10 من "النواب" حصلوا على مقاعدهم بدون الدخول في السباق الانتخابي أصلاً، والبعض الآخر حصل على مقعده بـ"صفر" من الأصوات، وهذا ناتج عن النظام الانتخابي الذي كتبه قيس سعيد بنفسه من أجل إيصال رجاله إلى برلمان من غرفتين دون معرفة دور النواب ولا كيفية تمثيل الغرفة الثانية.
ولكن مع ذلك أصر قيس سعيد على استعمال هيئته الانتخابية وأجهزة الدولة لإجراء الانتخابات التي رأى فيها نجاحاً باهراً، بل كان قد اعتبر في تصريح رسمي أن من ذهبوا للتصويت هم من يمثلون الشعب بما يعني استثناء 90% من الشعب لصالح الأقلية التي تتبعه وتنخرط معه في مشروعه الذي ما زال هلامياً وغير واضح المعالم.
فكان واضحاً من البداية أن سعيد سوف يستعمل ألاعيبه السياسية لتضخيم أرقام المشاركة في الدور الثاني لمحاولة إقناع المانحين وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي بأن لديه أتباعاً وأن الشارع منقسم، وأن لديه الأغلبية، حسب قراءته هو للأرقام.
ولا يستبعد المراقبون أن يقع التخفيض في أعداد المسجلين في القوائم لتضخيم النسب أو تجميع نسب المشاركة في الدور الأول مع الدور الثاني أو غيرها من الإجراءات في سبيل تحقيق ما يسعى إليه.
وفي ظل هذه الظروف وفي غياب أي إنجاز حقيقي للسلطة القائمة خلال الـ40 شهراً الماضية منذ وصول قيس سعيد لقصر قرطاج أو بعد سنة ونصف من استيلائه على جميع السلطات، واعتبار القضاء وظيفة بعد أن حل المجلس الأعلى للقضاء ونصب مكانه مجلساً مؤقتاً تابعاً له، وبالنظر للتردي غير المسبوق للأوضاع المعيشية والحياتية للناس، كان منتظراً ومتوقعاً الإقدام على إجراءات شعبوية لتحويل وجهة التناول الإعلامي الذي تهيمن عليه بشكل كبير التوجهات الفرنسية التي لا تخفي دعمها للسيد قيس سعيد ومساره الحالي.
قيادات من الحقوقيين و السياسيين بالسجون التونسية
كانت مساعي الزج بقيادات من الصف الأول من الحقوقيين والسياسيين وبخاصة من الإسلاميين في السجن واضحة؛ وذلك من أجل تصويرها كإنجاز للمنظومة التي ترفع شعار محاربة الفساد ولكن الهدف كان واضحاً من البداية وهو تحشيد الأتباع للتصويت بعقلية التشفي و العداء الأيديولوجي بالنسبة لأقلية فشلت في إقناع الناس وخياراتها عبر الصندوق وأيضاً مجموعات "فرنكفونية" تابعة فكرياً وسياسياً للأجندة الفرنسية في تونس.
وفي سبيل تحقيق ذلك استغلت السلطة ضعف بعض القضاة، وتهديد بعضه، واستعملت ملفات البعض منهم للابتزاز والتخويف من أجل إيداع قيادات سياسية وازنة في الحياة السياسية التونسية في السجون، وتقديم مادة للتناول الإعلامي وتحشيد الأنصار خلف الانتخابات التي تسعى السلطة القائمة لإجرائها نهاية الأسبوع الحالي.
إن ما عجزت السلطة عن توفيره في ملفات إعلامية، وجدته عبر حيلة أخرى، وهي نشر قائمة بتجميد عشرات الحسابات البنكية أكثرها لا يستعملها أصحابها، كما أن بعض الأسماء الواردة وقع الخلط فيها بين أسماء المتزوجين والأصهار والأطفال؛ بما يعني أن القائمة أعدت على عجل للتناول الإعلامي لا أكثر.
ولقد تمكنت سلطة قيس سعيد من إبقاء رئيس الحكومة الأسبق ونائب رئيس حركة النهضة "علي العريض" في السجن، ولوحظ أن الأمن حضر بكثافة قبل دقائق من إعلان القاضي عن قرار التحفظ على "علي العريض" في قضية إدارية لا تشكل أي خطورة، وليس له فيها أي مسؤولية، بما يعني أن قرار إيقافه كان سياسياً وليس قضائياً.
سعت السلطات التونسية القائمة لجلب رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة الأسبق "حمادي الجبالي"، ورئيس جبهة الخلاص الوطني "نجيب الشابي"، بالإضافة للعديد من الشخصيات المعروفة لمحاولة تنفيذ إيقافات إضافية، لكنها لم تنجح بسبب ضعف الملفات وغياب الحجج وصمود السياسيين والحقوقيين ورفض بعضهم المثول أمام القضاء.
هذه الأجواء دفعت سلطة "قيس سعيد" للمسارعة في تحريك ملف كان قد تناوله القضاء سابقاً وبت فيه، ولكن استعملت هذه المرة القضاء العسكري من أجل إصدار أحكام قاسية، وغير مبررة ضد نواب وقيادات حزبية، وحقوقية في محاكمة صورية لا تحترم الحد الأدنى من مقاييس العدالة، ولا ترتقي لمستوى القضاء الذي أراده التونسيون عادلاً بين الجميع لا أن يصبح عصا يضرب بها من بيده السلطة اليوم خصومه.
إنه لوضع معيب ومؤلم لكل الأحرار والحقوقيين عبر العالم ولكنه أيضاً لا يشرف القضاء التونسي الذي استفاد كثيراً من وضع الحريات على امتداد السنوات الماضية التي تلت ثورة الحرية والكرامة في تونس.
لقد بينت كل الأحداث أن قيس سعيد ينظر إليه على أنه جعل من السلطة في تونس نظاماً هجيناً وضعيفاً، وخاصة لا يأخذه الآخرون على محمل الجد سواء داخل البلاد أو خارجها، كما أن العدالة والحريات وحقوق الإنسان وإغلاق المؤسسات المنتخبة، والاستفراد بجميع السلطات ليست أموراً تحجب بسهولة، وليس عبر استعمال هيئات تابعة للسلطة القائمة، أو قضاء خائف.. لذلك لا يمكن تأسيس منظومة يقبل بها الشعب التونسي والمجتمع الدولي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.